أخطاؤنا بالأمس عبرنا اليوم / الطيب ولد سيد أحمد
دأب السواد الأعظم من نخبنا السياسية الموقرة على الانقسام إلى مذهبين سياسيين متشاكسين حسب الثنائية مع أو ضد تحت عنواني:
1) موالاة مستحقة رغم اختلاف الحكام
2) معارضة في غياب رؤية استراتيجية موحدة
فهل هكذا تكون الديمقراطية دائما عند أهلها؟
جرى العرف والعادة في الممارسات السياسية ذات الطابع الديمقراطي أن تكون هناك أغلبية تمثل الجهة الفائزة بأغلب أصوات الناخبين؛ وبالمقابل تكون هناك معارضة تمثلها الكفة التي خسرت الرهان الانتخابي؛ لكن مواقف الطرفين تكون معللة بما يجعل الناخب يختار هذا الطرف أو ذاك على أسس موضوعية .
أما الممارسة السياسية لدينا فقد تأسست في عهد ما قبل التعددية السياسية ؛ لذلك تعامل ساستنا معها بما تقتضيه رغبة الحاكم على خلفية:
ومن تغلب وعمت سلطته تعينت على الجميع طاعته .
أما الطرف الثاني ـ وهو المعارضة ـ فأكثر من كان يحمل لواءه الحركات الطلابية ذات الفكر المؤدلج وبعض الأطر الذين يحملون هذا الفكر أو ذاك؛ متاوارين داخل قاعدة تـقل أو تكثر حسب معطيات المد والجزر الداخلية والخارجية ؛ وكلما أحست بعض تلك الجماعات من نفسها كثرة وحضورا شعبيا منافسا حاولت أن تستثمره بطريقة أو بأخرى للتحسين من اشتراطاتها في التعاطي مع الحاكم وكلما أحس هو بالتحدي من بعضها تعامل معه بما يحلو له من حزم وربما حالف عليها غيرها من غريماتها في الساحة وهكذا ؛ أما الحاكم نفسه فلم يتغير قط إلا بانقلاب عسكري أو صيغة ذات صلة .
وفي بواكر التسعينات هبت رياح الديمقراطية التعددية منذرة بمستقبل مجهول غير مرحب به على لأقل من جهة السلطة القائمة لكنه كان قدرا لا مفر منه لدولة تتعامل مع المؤسسات المالية الدولية حيث الديمقراطية مطلب من مطالبها للتعامل مع الدول المقترضة وهي الأداة الناعمة بيد القوى العظمى التي من خلالها تستبيح حرمات الدولة وتبتز حكامها وتنتقص من سيادتها متى شاءت .
إذن تجرعنا الديمقراطية على علاتها ولكنه يشفع لنا أننا حورناها حسب مقاساتنا ؛ ومن هنا جاءت موالاتنا ومعارضتنا وفق اجتهاداتنا في الحكم لا على مذهب ديمقراطية الغرب؛ ولوتم لنا ذلك في إطار ثوابت الامة ومعايير العدل التي بها تألق صدر الأمة مع الأخذ بأسباب الحداثة ومقتضيات المرحلة لكان بردا وسلاما؛ لكن العامل الخارجي لا يرضى لنا بذلك البتة ولا تهمه مثالية ديمقراطيتنا بقدر ما يهمه ضمان مصالحه لدينا؛ لذلك كانت ديمقراطيتنا المعدلة عرجاء؛ تتنافسها أمزجة الحكام ومصالح الحاشية في غياب طبقة وطنية سياسية على مستوى التحدي .
وعليه لم تتغير الخريطة السياسية كثيرا حيث ظلت الطبقة الأليفة على حظوظها عموما؛ تقدم الولاء للحكام مقابل ما تحصده من مكاسب (بالتﮯ واللتيا) ولقاء ذلك فهي مستعدة لمجاراة أي حاكم ولتبنى كل ما يأخذ من قرارات وما يأتيه من أفعال و ما يصرح به من تصريحات فهو دائما على صواب طالما أنه باق في الحكم ومصالحها هي مضمونة ؛ ومتى أزيح عنه فلكل مقام مقال؛ فكم أقيم من ندوات ونظم من ملتقيات وحلقات تلفزيونية وإذاعية في سبيل تفسير وشرح خطابات أو الإشادة بقرارات أو مواقف تبين لاحقا أنها سراب .
فمتى كان الثناء المفرط على الحكام بما ليس فيهم ولا هم أهل له محمدة؟ ألم ينقلب شماتة تلاحق أصحابها دائما؟ ؛ وربما جني على الحكام أنفسهم من الضرر أكثر مما ينفعهم به إذ هو مدخل من أكبر مداخل الغرور والفساد ؛ ولذلك كان مذموما؛ فأي تأفيف لأصحاب هذا السلوك أبلغ من الحديث الصحيح[ أحثوا في وجه المداحين التراب]؟ وماذا بعد ذلك من تبكيت لمحترفيه وإعراض عنهم ؟
وكان الصديق رضي الله عنه يكفر عن مدح المادحين (اللهم أنت أعلم مني بنفسي ؛ وأنا أعلم بنفسي منهم؛ اللهم أجعلني خيرا مما يظنون ؛ وأغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون).
وقد قال احد الحكماء ناصحا مخاطبه :
لا تنخدع بالمـادحين فـإنهـم لا يعـلـمـون وأنـت مـا بـك اعـلـم!
فمدح المرء في وجهه فتنة لذلك استعاذ منها الصديق رضي الله عنه.
مهمة الموالاة الرشيدة كما المعارضة حسب الديمقراطيات الراسخة هي مهمة نبيلة إذا تأسستا على أسس وطنية موضوعية مبعثها الاختلاف في الاجتهادات حول مقتضيات المصلحة الوطنية ومطالبها مع التمسك برابط العقد الاجتماعي الذي يجمع الطرفين كرابط مقدس لا يمكن بأي حال لأي خلاف مهما استفحل أن ينال منه؛ وما عدا ذلك منهما فهو خارج السياق .
وإذا كانت المبالغة في المدح مذمومة فما بالك بها في الذم وأحرى إذا كانت ملفقة وكانت موجهة إلى حاكم له حق السمع والطاعة في المعروف .
يقول الخليفة الصديق ـ رضي الله عنه ـ مخاطبا رعيته:(أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) ويقول الخليفة الفاروق ـ رضي الله عنه ـ : (رحم الله أمرءا أهدى إلي عيوبي) ويقول(لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها) .
وطالما أن هناك أناسا قد اخذوا التزاما على أنفسهم بموالاة مطلقة للحكام لقاء مكاسب أنانية ضيقة غير مبررة فطبيعي أن تكون هناك ردة فعل معارضة لأناس آخرين شعروا بالحرمان والإقصاء على قاعدة أن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه .
والأصل أن المواقف الرشيدة إنما تكون عن بينات ذات مصداقية حتى لا يكون ظلم و{ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة} فطاعة ولي الأمر المطلوبة هي الطاعة والولاء في المعروف ومتى انحرف عن سواء الطريق كان المطلوب تسديده وتوجيهه بذات المعروف .
والمعارضة التي تعميها معارضتها عن رؤية الواقع بعين الإنصاف وتمنعها من تقييم سلوك الحاكم بميزان العدل هي معارضة غير بناءة بالضرورة.
دعونا نعترف بأن الواقع الذي نعيشه ونتبرم منه هو من نسج أيدينا جميعا حكاما ومحكومين موالاة ومعارضة نتحمل أوزاره و﴿ كل نفس بما كسبت رهينة﴾ فهل من سبيل إلى مستقبل أفضل؟ نعم؛ إذن :
لم يبق إلا أن تجاب البلاقع .
فلا مقام على واقع مفضول لمن ينتظره مستقبل أفضل.
فأنتم على أعتاب مرحلة جديدة .
انتم بين يدي رئيس منتخب أبدى حسن نية تلقاء مختلف مكونات الطيف السياسي أن سيكون رئيسا لهم جميعا؛ بمعنى ستكونون سواسية لديه أمام القانون حتى يأخذ كل ذي حق حقه؛ فهل سيكون طريق الوفاء بهذا الوعد سالكا أم هو على حساب حسابات النخبة ودون الوفاء به خرط القتاد؟
هل هناك أدعى للاستقرار والسكينة وضمان مصالح الجميع من شعور العامة بالإنصاف وعدم الغبن ؟ .
أليست العدالة أساس الملك؟ .
أنتم أمام رئيس تقدم للناخب الموريتاني ببرنامج تنموي طموح وتعهد بإنفاذ هذا البرنامج خلال مأموريته ونوه بمستوى إدراكه لجسامة العهد الذي قطع على نفسه؛ وبايعه الناخب الموريتاني عليه؛ فهل ستكون نخبنا جاهزة لمساعدته في تنفيذ وعوده المغرية تلك؟ .
أنتم أمام رئيس؛ له أوليات على رأسها مكافحة الفقر فهل سيرضى الفقراء بمضايقة رفيق دربهم في غياب السيد رئيس الفقراء أو يقبل الأغنياء بلحاق ركب الفقراء بهم ذلك أمر فيه نظر ؟ .
وسيلة الرجل لتحقيق هذا الهدف الجلل الذي أكد إصراره على ترجمته إلى واقع معيش ؛ تتمثل في برنامج أوليات طموح يجسد باكورة برنامج (تعهداتي).
فهل سيجد هذا البرنامج الواعد ممرا آمنا إلى أصحاب الحقوق أم سيكون مصيره مصير غيره من التدخلات والمبادرات الإستعجالية التي ما فتئت الحكومات السابقة تتقدم بها من وقت لآخر دون جدوى بسبب استشراء الفساد ؟ .
ما لم يتم تطهير الأطر التنفيذية القائمة؛ تطهيرا مؤكدا من مردة الفساد المحترفين أو استبدال طواقمها وتأهيل المكلفين بالإشراف والتنفيذ ووضع آليات شفافة وصارمة تؤمن نفاذ الحقوق إلى ذويها فستذهب مزايا المشروع جفاء؛وهو ما يجب الاحتراز منه عسى أن [لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ] . الخلاصة أن المبادرات الطموحة في غاية الاهمية لكن التحدي السحري العتيد هو كيف نضمن وصول الحقوق الى اصحابها على رؤوس الاشهاد وماهي الآليات الكفيلة بذلك؟
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ** وتأتي على قدر الكرام المكارم
ليس لنا أن نحاكم النوايا ؛ ولا أن نستبق الأحداث ؛ ولكن لنا أن نقدم حسن الظن ؛ ونحضر النيات ؛ ونحسن التعاون ؛ ونتفاءل حسنا ؛ ونتوكل على الله ﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾