نزل العلامة المؤرخ والأديب المختار بن حامدن ضيفا على صديقه الفاضل محمدن ولد ابيتن، والأخير في متجر له يقع على شارع “صانتنير” بدكار عاصمة السينغال، وقد طلب المختار من ولد ابيتن ورقة، ثم ناوله الأخير إياها، فبدأ المختار يكتب مرتجلا رائعته هذه في وصف الشارع المذور، ومدح صديقه محمدن ولد ابيتن، حتى لم يبق أمامه من الورقة ما لم يتسع لأكثر من بيت واحد ختم القصيدة بقوله:
وهذا من فتوته قليل وضاق الصك عن عد الكثير
وهذا نص القصيدة:
اما والواحد الأحد الخبير ۞ بكنه الغيب من ذات الصدور
لقد جذب العيونَ اليه جذبا ۞ بمرأى منه يزهو للبصير
مَمدُّ الشارع المئَوي طولا ۞ حصيرا وهو أملس من حصير
يشاكه في ملوسته ولونٍ ۞ حديدي له سود القدور
سوى أن القدور مقعراتٌ ۞ قصارٌ وهو ممتد الجرير
قد اكتنفت حفافيَه قصورٌ ۞ ترى فيها الحِذاقةَ بالأمور
فتُبصر ما يروقك من جَمال ۞ وهندسة على تلك القصور
تراه إذا رجعت الطرف فيه ۞ مديدا مثل خُلجان البحور
كهمِّك في امتداد واملساسٍ ۞ فلست ترى هنالك من فطور
تري نهريْن مُدا في استواء ۞ من القطِران لا الماء النمير
ويفصل ذين خطٌّ مستقيم ۞ وممتد الي دار السفير
وتعترض الخطوطُ الصفر شتي ۞ مواضعِه لتسهيل المرور
كلا النهرين ينقسم انقساما ۞ صحيحا لا كمنقسم الكسور
الى فرعين زانهما تواز ۞ فتقرأ خط أربعةٍ سطور
كأوتار المزامير اللواتي ۞ تشد على قراقير الجفير
تري في الشارع السواق تترى ۞ تقاطعها المشاة بلا فتور
وسياراتهُ متخالفاتٌ ۞ قطارٌ في العشي وفي البكور
إذا ألوى لها شبح أرنت ۞ بصوتٍ كالنبيب وكالصفير
فتسمع ما يُصِمك من دَويٍ ۞ على ذاك الممر ومن زفير
فما تخلو من الحركات عينٌ ۞ ولا الأذنان من صوت مثير
هديرِ القرم أو كحنين ذود ۞ معطفةٍ علي رُبَع كسير
وكالزلزال أنذَرَ بانخِساف ۞ وصوتِ المزن في مُرِبٍ مَطِيرِ
ووقع السهم يرمي عبر بحر ۞ وزأر الأسْدِ تشفع بالزئير
أرانا قوسَه، قزحٌ عليها ۞ فأطمعنا بمُنْهَلٍّ غزير
وحيث يقلب الإنسان طرفا ۞ يرى الأزهار باسمةَ الثغور
فباكيةُ العيون بلا انقطاع ۞ وساكبةٌ لمدمعها الغزير
وتبصر هالةً فيه ارتفاعا ۞ مدبجةً معكنةَ الخصور
قد انتطقت ببعض من نبات ۞ نَدٍ متماسكٍ جعدٍ قصير
وأسفلها صفائح من رخام ۞ مسواةٍ بشكل مستدير
(وأعلاه البروق تضيء نورا ۞ فقل ما شئت في القمر المنير)
اذا ما سرت عنها نحو ميل ۞ عبرت إذا قدرت علي العبور
والاخرى تلك إما تدن منها ۞ دعتك الي الوقوف عن المسير
وخلف منارة وأمام أخرى ۞ مناطِحتان للشِّعْرى العَبُور
علي إحداهما أسد هصور ۞ ولكن لا يروعك بالزئير
يُطِل علي سياج من حديد ۞ الى خضر منيفات الجسور
تراها من عيون الْجُفِّ خضرا ۞ يُشُم الليثُ منها ورد جُور
وأشجار غُرِسْن على انتظام ۞ تميس كميس ربات الخدور
لها لِمَمٌ إلي الأذنين منها ۞ ۞ غدائرها من الورَق النضير
يُضيء علي جوانبها سوار ۞ كأن عيونَهن عيونُ حُور
كأوعال معطفةٍ قرونا ۞ تَرَقَّى من منفيات الصخور
ومبتلعاتِ أوساخٍ تراها ۞ تَلقفها كأكلك للفطير
فما تخشى إذا هبت دبور ۞ مَثَارَ النقع من أثر الدبور
كفيلات بنكس الدور نكسا ۞ يقَيِكَ من الغبار المستطير
تراها في دوائر ثَمَّ تسقي ۞ بفوارات ماءٍ ذي خرير
يقلب طرفه في أي نَوْرٍ ۞ على ذاك الصراط وكل نُورِ
وتسمع منه زمزمة وءَاءً ۞ ومنه تشم رائحة العبير
وهذا الشارع الممتد جار ۞ لِحِبٍّ لي مُحِبٍّ لي نصير
عنيت محمدا إني أراه ۞ أخا أدب أخا خَيْر وخِير
أخا لعُرابة الأوسي يسمو ۞ إلي الخيرات منقطع النظير
يفاكهني بشعر أبي ذؤيب ۞ وشعر مرقش وأبي كبير
وقول كثيِّر طورا وطورا ۞ يميل إلي جميل أو جرير
ولست ترى بمجلسه جفاء ۞ ولا مثل الفتيل ولا النقير
هنالك أزوره لتقر عيني ۞ فأرجع عنه ذا طرفا قرير
وثَم أزوره لتُسَر نفسي ۞ فيفرش لي السرور على السرير
وهذا من فتوته قليل ۞ وضاق الصك عن عد الكثير