إسماعيل ولد الشيخ سيديا: ولد بوكرن قتلته السياسة
جريمة متكاملة الأركان والدوافع هي تلك التي مات فيها الشاب ول بگرن على يد ولد احمد زيدان أمام مكاتب سلطة تنظيم النقل في انواكشوط.
حتى الدوافع توافرت قبل الأداة، فالقاتل فيما يبدو استمع في قهوة الإدارة التي التقى فيها بالمقتول إلى أشياء غير مستساغة موجهة لأمه الفنانه عيشه منت شيقالي.
استدعى القاتل المقتول لسيارته فبدأت فصول الجريمة. حسب الصحافة الموريتانية والمدونين فإن الرجلين غلّقا أبواب السيارة التي كانت مسرحا للجريمة وبدأت لحظات ولد بگرن في الحياة الدنيا تتناقص، لتصل إلى ركنه في صندوق سيارة القاتل وهو ينزف فيسلم نفسه وضحيته للقوة العمومية.
لم يكن ولد بگرن -رحمه الله- ليركب مع من أسمعه أذى في أهل بيته قبل دقائق؛ إلا إذا كانت عملية خداع كبيرة حصلت، أو كان المقتول نفسه غير طبيعي.
إذ ليس من المنطقي أن يؤذي شخص أم آخر ويرافقه نحو سيارته.
أما الجاني فقد كان غضبه جهنميا ليطعن جليسه أكثر من مرة ويجدع أنفه ويثقب صدره -حسب المتاح- من الوقائع.
لست في معرض الحكم لأن الجاني بين يدي العدالة الأرضية والمجني عليه بين يدي عدالة السماء.
لكن ولد بگرن الذي ظهر في السياسة؛ مؤخرا مطبّلا ومناصرا وموبّخا ومرافقا، هو فرد من منظومة من المصطفَيْنَ تدور في فلك الشخصيات العمومية، تزمجر عن هذا وتعظم من شأن ذلك، ولهم حظوة من القرب تجعل مناسبات ظهور ألئك القادة والسادة مناسبات لظهورهم.
إنهم شباب يخلطون الليل بالنهار، كل همهم هو الحظوة؛ نظنهم سذجا ولكن لديهم مشروعا يدافعون عنه ومواقع ينافحون عنها.
حناجرهم وجوارحهم محجوزة لدائرة الرئيس، وأحيانا يجدون أنفسهم ضحايا لعائدات خيالية عاجزون عن تدبيرها.
بل وحين يجف ضرع السياسة يرتبكون.
يمسون ويصبحون وهم يحضرون للزيارة الفلانية أو للمؤتمر الفلاني.
من أراد أن يصفهم يمكنه القول إنهم نخبة ضحايا النخبة.
فالسياسة هي التي قتلت ولد بگرن قبل أن تؤدي به طعنات ولد احمد زيدان.
نعم فالماكينة النمطية منذ بداية الدولة الوطنية أفرزت أشخاصا مرحين يصرخون ملء حناجرهم في المطارات والموانئ والأرياف والمدن والقرى، وفي الغالب يحظون بعناية خاصة.
لكن شبابا ظهروا مؤخرا بولغ في إيصالهم، ملابسهم فاخرة وسياراتهم باذخة وحناجرهم صداحة، لايملون وقليلا ما يتذمرون، وإذا مر بهم الساسة شجعوهم على الضياع.
أفّ على السياسة حين تصنع الزعماء على فتات البشر، لقد حاورت الكثير من هؤلاء وحاولت فهم دوافعهم، فلم أتحصل على قناعات ولم ألمس أهدافا عدا الوظيفة المدرة للدخل المميتة للفرد تلك.
رحم الله الشاب ولد بگرن، فقبل مدة وصلني فيديو له وهو يعلن الولاء لحزبين مواليين أمام رئيسيهما وقد سب قبل الإعلان الحزب الحاكم وطريقته، واقترح على رئيسي الحزبين أن يقبل كل منهما ولاء نصف منه.
بدا الرجل أنيقا منهكا، وقد أعيته الحيلة وتكلّف كثيرا في المواءمة بين الجلسة والقناعات والمراد من التصريح، وكأنه دخل عالما لم يكن معَدّا له.
على جميع السياسيين أن يتبرأوا إلى الله من مصائر ألئك الشباب ويبعثوهم في نقاهة واستشفاء لأنهم أدمنوا إحدى الحسنيين فغابت الماهية وتلاشت أشياء جميلة لم تكن لتغيب لولا السياسة والسياسيون.
في المجتمعات الإفريقية بل وحتى في أكثرها ديمقراطية؛ يحصل أن ترى طبالين نحيفي الأجسام وحرسا ضخام البنيات وعجائز مزغردات في حشد سياسي للثناء مدفوع الأجر.
بل الأغرب من ذلك ففي الكاميرون مثلا حين تزور مأتما للتعزية أو التباكي فإنك ترى فرقة نسائية مأجورة تسمى “البكاءات” كل مهمتها التنافس في النحيب واللطم والإجهاش حدّ الحشرجة، وقد تتغامى إحداهن فتحمل على الأكتاف وترش بالماء، وقد تتفاقد إدراكها فتنكشف عورتها ،وللحيطة فهن في الغالب عجائز صرن في حل من الفتنة.
ويحدث في أحد مجتمعات الجوار الإفريقي لموريتانيا أن تسمع إحداهن في تعزية وقد أسرت إلى صديقتها: لقد كان بكاؤك الأروع!
وفي أوروبا توجد شركات للماركتينگ السياسي والرياضي توفد فرقا من شبابها مدفوعي الأجر لارتداء ملابس الحزب السياسي أو فريق كرة القدم، ويسابقون أمام الكاميرات لنيل التوقيعات من النجوم، والتقاط صور هي في الغالب سيلفي، ليرى الآخرون مدى “محبوبية” المُشَهِّر له.
لكن كل هؤلاء اتخذوا من العزف والابتسامة والبكاء واستعراض الأجسام مهنة على مهنهم؛ فليس في كل يوم مأتم ولا مباراة ولا انتخابات، فيعودون إلى مهنهم خارج زمن الذروة.
أما نحن فنعين الشباب على الفراغ ونمجد البطالة والصراخ علانية، وهكذا نصنع عنفا لفظيا متأصلا ذا مردودية كبيرة، قد يتحول إلى دافع لجريمة نكراء.
قد أكون في هذه المعالجة قسوت مع قرائي من ذوي الجاني المتهم أعانه الله على التوبة واستجلاء التحقيق القضائي وقلل من أمثاله، والضحية المقتول رحمه الله وأحسن عزاء ذويه؛ لكن جرت العادة أن نتخذ من أحداث جسام مناسبة لدفع الضرر وجلب المصلحة ولو كانت أدواتها التعبيرية قاسية.
من صفحة الكاتب إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا