الأخبار

فتوى غريبة وجريئة لفقيه موريتاني كبير تثير جدلا واسعا في الشارع

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد خاتم النبيين, و على آله و صحبه و المهتدين بهديه إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الفقير إلى رحمة مولاه محمد الأمين الشاه, إمام مسجد الخيف في مقاطعة تيارت بمدينة نواكشوط عاصمة موريتانيا, عفا الله عنه ونصره وعافاه:
لقد رأيت أن أقدم إلى الناس عرضا عن مسألة بدت لي في غاية الأهمية و الحساسية:
ألا و هي مسألة الولاية في النكاح.
و قد دعاني إلى المبادرة إلى هذا الأمر الخطير, ما لاحظته من تعسير وتضييق في أمور أرى أن فيها سعة ويسرا, تمسكا بأقوال لا تستند إلى دليل قطعي, وربكم جل في علاه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
ومن المعلوم المسلم به أن الدليل الملزم إنما هو نص قطعي الدلالة والثبوت أو إجماع متيقن, فأقوال العلماء لا يستدل بها ولا يحتج بها في الدين, وإنما يحتج لها ويستدل لها.
و قبل الولوج إلى موضوع الولاية نقول كلمة عن النكاح من حيث مفهومه, فهو عقد يحل استمتاع كل من الزوج والزوجة بالآخر على الوجه المشروع.
والعرب تستعمل لفظ النكاح بمعنى العقد والوطء جميعاً، لكنهم إذا قالوا: نكح فلان فلانة، فإنما يريدون تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح فلا ن زوجته أو امرأته فهم يريدون المجامعة .
ولهذا اختلف الفقهاء في أيهما يكون حقيقة وفي الآخر مجازاً, والمشهور أن النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وهو مذهب جمهور العلماء.
وللنكاح شروط وأركان تتوقف عليها صحته.
والفرق بين الشرط والركن هو أن الشرط خارج عن الشيء كالطهارة بالنسبة للصلاة مثلا.
أما الركن فهو جزء منه كالسجود في الصلاة.
وربما أطلق كل منهما على الآخر مجازا لعلاقة المشابهة.
إذا علمت ذلك فاعلم أن أركان وشروط النكاح المتفق عليها هي:
محله: وهو خلو الطرفين من الموانع الشرعية.
حصول الإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الزوجة أو من يقوم مقامها.
حصول القبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه.
وهذه الألفاظ تنعقد وإن تمت هزلا وتكون بأي لفظ دال على النكاح.
تعيين المتزوجين: فلا ينعقد بجهالة.
التراضي: فلا بد من الموافقة إلا إذا كان معتوها أو صغيرا.
المهر: وليس له حد.
الإشهاد أو الإعلان.
وتبقى الولاية محل اختلاف بين العلماء.
والولاية أيها العزيز, حق شرعي ينفذ به الأمر على الغير جبرا عنه، وهي عامة و خاصة.
و قد اختلف العلماء في الولاية على النكاح, فمنهم من ذهب إلى أن الولي شرط في صحة النكاح، وبدونه يكون فاسدا.
ومنهم من قال إن الولاية في حق المرأة البالغة مستحبة، ومندوب إليها إذا كانت حرة عاقلة، سواء كانت بكراً أم ثيباً، وأن لها الحق في مباشرة النكاح أو التوكيل.
ومنهم من اشترط الولاية في البكر دون الثيب.
وإليك أدلة الفريقين:
لقد استدل القائلون بالولاية في النكاح بأدلة من الكتاب و السنة منها:
قوله تعالى من سورة النور: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ }
فهم يرون أن الخطاب بالإنكاح في الآية للأولياء على الأيامى, وإذا ثبتت الولاية على المرأة فلا تكون والية.
واستدلوا بقوله تعالى من سورة البقرة:{ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ }
فخاطب الرجال بالإنكاح دون النساء، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم من المشركين فدل ذلك على أن الولاية إليهم لا إلى النساء.
واستدلوا بحديث:
« أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»
وحديث: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها، فإن الزانية التي تزوج نفسها»
وحديث: « لانكاح إلا بولي وشاهدي عدل»
وذهبت طائفة من كبار الأئمة والعلماء إلى أنه للمرأة تزويج نفسها من كفء.
فقال الزهري والشعبي وأبو حنيفة وزفر: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فدلك نكاح جائز.
وقال الأوزاعي: إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفؤا فالنكاح جائز, وليس للولي أن يفرق بينهما.
وقال عبد الرحمن ابن القاسم العتقي من المالكية: ليست الولاية في النكاح واجبة وإنما هي من سننه.
وقال داود ابن علي إمام الظاهرية: الثيب تزوج نفسها.
ومن أدلة هذه الطائفة:
قوله تعالى من سورة البقرة: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
وكذلك قوله عز وجل من نفس السورة: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }
فقد أسند إليهن فعل الإنكاح.
وكذلك قوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}
ولقوله عليه الصلاة والسلام الثابت في الصحيح « الأيم أحق بنفسها من وليها »
وبما أخرجه الدار قطني بسنده من أن رجلا ( جاء إلى علي ابن أبي طالب وقال امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني, فقال علي: ننظر فيما صنعت فإن كانت تزوجت من كفء لها أجزنا ذلك.)
واستدلوا أيضا بما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي وغيرهما من طريق القاسم ابن محمد ( أن عائشة زوجت حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر ابن الزبير.)
وقابلوا الأدلة من القرآن بأدلة مثلها.
ثم بينوا ضعف الأحاديث الواردة في اشتراط الولي وردوها برمتها.
فحديث: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل.
أخرجه بن أبي شيبة والإمام أحمد وأبوداود والترمذي وابن عبد البر في التمهيد والدار قطني….ولفظه عند أغلبهم (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)
وهو عند جميعهم من رواية ابن جريج عن سلميان ابن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعا.
قال الترمذي: وقد تكلم أهل العلم في حديث الزهري عن عروة عن عائشة.
وحكى ابن علية عن ابن جريج قال: لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره.
لذلك ضعفوا الحديث من هذه الناحية.
وفي بداية المجتهد لابن رشد (.. قالوا: والدليل على ذلك- يعني ضعف الحديث- أن الزهري لم يشترط الولاية, ولا الولاية من مذهب عائشة )
وحديث (لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل)
هو عند الطبراني في الكبير من رواية ابن عباس وفي سنده الربيع بن بدر وهو متروك.
وفي مصنف عبد الرزاق من رواية عمران ابن حصين, وعند الدار قطني أيضا, ولكن فيه عبد الله بن محرر وهو متروك باتفاق أئمة الحديث.
وهو عند البيهقي وابن حزم في المحلى, لكنه عندهما موقوف على عمر.
ونجده عند البخاري ترجمة بمعنى أنه غيرمسنود.
وللحديث طريق آخر عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري تارة, وتارة أخرى مرسل عن أبي بردة بدون ذكر والده.
وبالجملة فلا حجة في هذا الحديث لضعفه واضطرابه.
وحديث ( لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها).
أخرجه الدار قطني وابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم من حديث أبي هريرة, وهو حديث فيه إدراج بل مشكوك في رفعه أصلا.
قال الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة ( هذا إسناد مختلف فيه تارة يروى مرفوعا وتارة يروى موقوفا.)
وهكذا تلاحظ أنه ليس في اشتراط الولي نص قطعي الدلالة والثبوت أو إجماع متيقن.
قال ابن رشد في بداية المجتهد في باب النكاح: (لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولي في النكاح فضلا أن يكون في ذلك نص، فالآيات والسنن التي جرت العادة في الاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة….)
ثم يقرر ابن رشد أنه ( لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم فإن تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز….).
قال محمد الأمين الشاه: ماقاله ابن رشد من غياب الدليل يفسر اختلاف الرواية عن الإمام مالك في هذا الباب, ففي الأحكام للقرطبي وعند تفسير الآية 221 من سورة البقرة, عن ابن خويزمنداد قال (اختلفت الرواية عن مالك في الأولياء, فقال مرة كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها سواء كان من العصبة أو من ذوي الأرحام أوالأجانب …)
قلت: إن هذا التردد من الإمام مالك, وقول تلميذه ابن القاسم بعدم وجوب الولاية في النكاح, هو لعمري من أصرح الأدلة على أنه ليس في الولاية نص صحيح صريح.
ومن زعم أن لديه نصا قطعي الدلالة والثبوت, أو قال بوجود إجماع أقول له: أرنيه؟
تأسيسا على ما سبق:
ونظرا لضعف أدلة القائلين باشتراط الولي في النكاح.
ولأن التقيد بمذهب إمام معين دون غيره, وحمل الناس عليه بشكل إلزامي خطل وخطأ مبين.
وأخذا بالقاعدة القائلة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ونظرا للمكانة المتميزة التي باتت تحتلها المرأة في مجتمعاتنا المعاصرة, حيث تبوأت مختلف المناصب: وزيرة ووصية على المؤسسات والعائلات والأفراد.
ونظرا للتفكك الأسري الذي يعانيه المجتمع, وتملص الكثير من الآباء من مسؤلياتهم وجنوح بعض الأولياء إلى العضل لأسباب واهية.
فإني أنا محمد الأمين الشاه إمام مسجد الخيف بتيارت, أقول وبالله التوفيق:
إذا زوجت المرأة نفسها من كفء, بمباشرة العقد, أو وكلت رجلا من عامة المسلمين, وكان الزواج مكتمل العناصر الأخرى, أعني بشهود وصداق وتراض وسلامة محل..
فهو نكاح صحيح وليس لوليها الاعتراض, علما أن الكفاءة بالنسب لا وجود لها في شرع الله, وإنما المعتبر الخلق القويم والقدرة على أعباء وتكاليف الزوجية.
كتبه في نواكشوط, محمد الأمين الشاه
فاتح صفر1439– 20 أكتوبر2017


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى