ثقافة

ظرافات وظرفاء (56) الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو

في خريف عام 1993 كنت قريب عهد باستكمال القراءات السبع، وكنت مواظبا على ختمة بكل رواية على حدة ثم بأخرى.. وهكذا؛ خشية التداخل والاختلاط الذي لا يؤمن حدوثه في مثل تلك الحال.
وذات مساء سافرت في مؤخرة “نيگابة” لأحد مشاهير الناقلين من العاصمة وإليها، وبعيد خروجنا من المدينة صلينا المغرب ثم واصلنا السير. كنت على طهارة وليس لدي ما أفعله فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وبدأت أتلو.
كنت في ختمة برواية السوسي عن أبي عمرو بن العلاء رحمهما الله، ومن أبرز ما تتميز به تلك الرواية كثرة إبدال الهمز الساكن والإدغام الكبير (إدغام المحرك في المحرك من المثلين والمتقاربين) وفق ضوابط معروفة لدى أهل المجال. وكان يليني رجل مسن لا يألو أنفه حشوا من التبغ، ويبدو أنه من الطبعة المتداولة التي ترى الحق مقصورا على ما تعلمته وتكفر بما وراءه ولو كان قرآنا محكما!
لم يصدق الشيخ أذنه فيما سمع مني فكشف عنها لثامه ثم أدنى رأسه إلي، وجعل يفوه بعبارة استياء من وقت لآخر، ولكني واصلت دون اهتمام به، إلى أن وصلت إلى سورة الفرقان فتلوت قول الله تعالى: {تَبَارَكَ الذِي إِن شَاءَ جَعَل لَّكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّك قُّصُورًا} بإدغام اللام في اللام والكاف في القاف، فعلا صوته بالشكوى “أح أح أح..” فأردفت غير آبه به: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّب بِّالسَّاعَة سَّعِيرًا} بإدغام الباء في الباء والتاء في السين.
هنا وهى صبر الرجل فانفجر: “أتفُ أتفُ أتفُ!” وفار بركانه بتعداد المثالب: “لقد صبرنا لكم التكباط، وصبرنا لكم حلق اللحى، وصبرنا لكم الكتابة المتعصرية، وكلام النصارى، وكذا وكذا.. ولكن أوقفوا ذلك دون القرآن! لن نصبر لكم هذا القرآن الطارئ..”.
عجبت من جهل الرجل وصبره وقوة ذاكرته وكثرة ما أسلفت إليه مما لا يرضاه رغم أني لم ألقه من قبل فيما أعلم، ورغم براءتي من بعض مآخذه “علينا” فلم أشأ مناقشته فيمن يعني بضمير الجمع، وإنما حرصت على أن أخاطبه بمفردات قاموسه، فسألته مرارا: ماذا تريد بهذا؟ أليس مرامك تغيير المنكر؟ ولكني كنت كلما تكلمت استثرت دفعة جديدة من حمم بركانه الثائر، وبعد لأي استطاع الإنصات إلي مدعوما بطلب بعض الركاب (كان أكثرهم على رأيه) فحاورته محاورة لم تخل إجاباته فيها من هزات ارتدادية ولكن ملخصها هو:
– أليس مرادك تغيير المنكر؟
– بلى.. (ثم فورة).
– أليس من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الفاعل على علم بحكم ما جرى لكي لا يقر منكرا أو ينكر معروفا؟
– بلى (وفورة ثانية).
– أليس من شروط إنكار المنكر أن يكون مجمعا على تحريمه؟
– بلى (وفورة ثالثة).
– أليس الكلام صفة ثابتة لله تعالى بالنقل والعقل، والكتاب والسنة والإجماع؟
– بلى (وهينمة).
– ألم يذكر خليل ردة من نفى تواتر السبع أو ألقى مصحفا بقذر؟
– بلى. (وبدأ يهدأ قليلا).
– ألم يذكر شراحه أن لا فرق بين الإهانة الفعلية والقولية في حق الكتاب والسنة وكتب العلم؟
– صحيح.
ويبدو أنه لم يكن ينتظر مني مثل هذا الكلام، وأنه فوجئ بعدم تشنجي. وبعد أن وافقني في المقدمات وارتاح للحديث إلي وصلت إلى النتيجة:
– أما هذا فليس بقرآن طارئ؛ وإنما هو كلام الله الأزلي الذي لا يحويه ظرف. لأن هذه قراءة سبعية متواترة.. وزيادة على ذلك يقال إنها أفصح القراءات! فمن أفف عليها لم يعلق بها التأفيف، ولكن يرتد من شرح صدرا بذلك أو جهل ما علم من الدين ضرورة!
– لقد قرأتُ على فلان، ولقيت فلانا وفلانا، وتلامذة فلان وفلان.. فلم أسمع عندهم ما سمعت عندك!
– وهل تظن الوحي هبط هنا؟! ثم إن من علم حجة على من جهل وليس العكس.
كان وقع كلامي ثقيلا على الرجل الذي كان قد أفرغ شحنته ورجمني بما لديه، لذا أطرق طويلا فاستطعت العودة إلى التلاوة، ثم عاد إلى شحن أنفه بالتبغ وتركني وشأني.
عندما وصلت إلى حيث أريد ودعت المسافرين وودعوني وقال لي صاحبي: الدعاء بخير. وقبل أن تنطلق السيارة أو أبتعد إذا به يقول: “وَرْخَسْتْ ابْكَبَيَّاتْ آخر الزمان”!


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى