
ظرافات وظرفاء (50) / الأستاذ: محمدو سالم ولد جدو
لا تعرف الطرفة زمانها ولا مكانها المناسبين؛ فقد تولد حيث لا محل لها من الإعراب فتذهب سدى في أحسن الأحوال، أو يتجاوز الأمر ذلك فتفسر سلبا، وإلا فلا أقل من بقاء حزازة في نفس مصدرها.
في حدود عام 1995 كنت في مجلس عطر من أهل الفضل والعلم بمنزل أحد كبار رجال المال والأعمال الصالحة (ولا أزكي على الله أحدا) وأثناء سمرنا الممتع نعي لمضيفنا أحد ذوي قرابته فانفض السامر إلى مسجد الشرفاء حيث كانت الجنازة.
هناك علمنا أن الفقيد كان في كامل صحته إلى أن توفي فجأة دون سبب ظاهر، وقيدت وفاته جراء سكتة قلبية. وبعد الصلاة قرر المعنيون الدفن في مقبرة تبعد مسافة خارج العاصمة، وكنت قريب عهد بنوبة ربو حادة والزمن آخر الشتاء، فاحترت هل أغامر بالذهاب معهم وأتحمل عاقبته أم أتخلف ما دام الدفن عبادة مستقلة وتهيأ لها من يقوم بها؟ إلا أني عدلت عن التخلف حين لم أر أحدا من جلسائي تخلف، فلم أرض بتصنيف شاذ من بينهم، فسلمت الأمر لله وذهبت مع المشيعين.
كنت أعرف المدفن المقصود وأرى أن دخوله من الشرق سهل لوقوعه على الطرف الشرقي من ريع مشرف على مجرى صلب (گوْدْ) خلافا للغرب الذي أفحشت عليه ألسنة الرمال فاعترضت كثبان مختلفة الأشكال والأحجام دونه. وبالأحرى خلافا للجنوب والشمال حيث يمتد الريع مسافة طويلة.
بيد أن دراية القوم بالمدفن كانت محدودة على ما بدا، ولذا حاولوا دخوله من الغرب! وحين نبهت رفقائي منهم إلى صعوبة مرامهم قال لي أحدهم بنغمة مؤنِّبة: “لقد دفنا أسلافنا هنا” وكأنه يرى مجرد ذلك يكسب الأحفاد علما بالمكان! وأقره الباقون ضمنا على ذلك بالصمت.
أمسكت لساني وتركتهم وشأنهم، وبعد لأي تيقنوا استحالة اقتراب السيارات من المدفن من حيث أتوه، ورغم ذلك لم يرتئ أحد منهم العودة إلى الطريق المعبد وإتيان المدفن من الناحية الأخرى. وإنما قرروا إنزال الجنازة هناك والاعتساف على الأقدام لإعداد الشق، ثم العودة إليها وحملها بالأيدي في مكان يصعب عبوره.
اقترح أحد من جئت رفقتهم تركي مع الجنازة مراعاة لحالي الصحية، وذهب الباقون إلى المقبرة التي تناهز 200 متر من مكان التوقف، وبعد ذهابهم أضر بي البرد فلم أجد سبيلا لمقاومته أجدى من مشاركة الميت بطانية جيدة نشرت عليه؛ خصوصا وأن جسمه نظيف ووفاته لم تكن بمرض معْدٍ. وتنفيذا لهذا جعلت رأسه على طرف الوسادة الشرقي وجعلت عليه الطرف الشرقي من البطانية بعد ما كان في وسطهما ووضعت رأسي على الطرف الغربي من الوسادة ووليته ظهري وقاسمته البطانية فوجدت دفئا نغصه الإحساس ببرودة جسم الميت؛ وحين ثنيت جزءا من البطانية بيني وبينه تم المطلوب.
استمرأت الدفء فنمت دون أن أشعر إلى أن أحسست بحركة حولي وسمعت قائلا يقول: “هي الجنازه وحده وڸَّ ثنتين؟!” فتحركت لأزيح البطانية عني وحين كشفت عن وجهي كان أغلب المشيعين على مسافات متفاوتة مني! فيبدو أن فعلي لم يكن واردا في أذهانهم، وزاد ارتباكهم جعل جزء من البطانية بيني وبين الميت حتى ظهرنا شخصين متمايزين.
بعد أن استبانت الحقيقة اطمأنت النفوس وعاد من أجفل فحملت الجنازة إلى القبر وأتم الدفن وانصرفنا من حيث أتينا دون تعليق. ولا أدري كيف فسروا تصرفي ولكني بالتأكيد لم أقصد أكثر من الاكتنان في الدفء، وليس الجو ولا الزمان ولا المكان ظرفا مناسبا للسخرية والعبث. ولو تصورت مآل فعلي لعدلت عنه مهما كانت النتيجة.