فِقهُ السُّكوت … / عز الدين كراي أحمد يوره
كان الشيخ حمدَن رحمة الله عليه كثيراً ما يُحدِّث عن غياب ما يُسمِّيه “فقه السكوت” لدى كثير من أهل العلم، وهذا المُصطلح هو أحد مُصطلحات عديدة يطبعها الألق والدقة، برَع الشيخ، طيَّب الله ثراه، في استخدامها، بحيث كانت تَجري على لسانه بدون تكلف أو تعسُّف …
ويُشير الشيخ عند ذِكر هذا المُصطلح الأنيق، إلى تلك المسائل الخلافية التي ربما جرى واستقرَّ عملُ الناس على غير المشهور فيها، والتي ينبغي، بمقتضى فقه السكوت هذا، غَضُّ النظر عنها، وحملُ الناس على جواز أفعالهم ما دام بها قائلٌ من أهل العلم …
وفي الحقيقة، كثيرٌ هو كلام العلماء في هذا الموضوع، فهذا هو العلامةُ النوازلي الورِعُ: المختار بن ابْلولْ الحاجي يقول في مَعرض الكلام على مسألة تتعلق بالإجارة ما نصه: ((وقد ذكر المَوَّاقُ عن بعض أجِلاء شيوخِه أنه إذا جرى عملُ الناس على أمر، وكان له مُستنَدٌ مِن قول للعلماء، فلا ينبغي أن يُعترَض عليهم، وإن خالف المشهور، لأنه يُورِثُ عليهم شغَباً أو حَيرة أو كما قال.))، هكذا أورَده الدكتور الباحث : يحيى بن البراء، في تأليفه مِعيار العصر، الموسوم بعنوان “المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء”.
وما أحسنهُما شعراً وأصوبهُما فقهاً ذينِك البيتَين اللذَين قالهما ابنُ خلدون البلاد: العلامة المختار بن حامدن ضمنَ قطعة جميلةٍ قالها في حق كتاب “أسنى المسالك” لِمؤُلفه الشيخ “بُدَّاه”:
رُوَيدَكمُ، لا تُنكِرُوا غيرَ مُجْمَعٍ
على منعَه، فِعلَ اللجُوج المُمَاحِكِ
فليسَ على الحُكم الخِلافي ينبغِي
عِراكٌ، بلِ المَطلُوب لِينُ العَرائِكِ
ومِمَّا مررتُ عليه في الكنانيش غيرَ مرة – إن كنت أذكر جيدا – أن العلامة أحمد بن أمغر التندغي كان له حديث مع المختار بن بوي (بالياء) الجكني عن العلامة القطب الربَّاني لمرابط محمذن فال بن متَّالِي، قال فيه المختار إنه يأخذ على لمرابط الإفتاء بغير المشهور أو نحو ذلك، فقال له أحمد بن أمغر : دعنا نذهبْ إليه لنرى ما عنده في ذلك، فلما أتياه كاشفهما مِن غير أن يتكلما، وقال ما مضمونه أن “القسطلاني على صحيح البخاري” ذكر في باب الجهاد أن الإفتاء بالضعيف توسعةً على المسلمين يفضُل الإفتاء بالمشهور بما تفضُل به صلاة الجماعة صلاة الفذ …
ومما يناسب ذكره في هذا الموضوع، مما قد يخفَى وهو قريب، ما في كتاب “سَنَن المُهتدين” لخاتمة علماء الأندلس الإمام الموَّاق، وهو أنه ليس بالضرورة في كل مسألةٍ خلافية مُصيب ومُخطئٌ، فقد يتعدد الصوابُ في المسألة ويتعدد المصيبون …
كما يناسب هنا إيرادُ ما قاله أهل العلم عن تعريف “تَــــتَـبُّع الرُّخص” الممنوع والذي قال فيه لمرابط امحمدْ بن أحمد يورَ في آخر نظمه في الأصول الذي سمَّاهُ “سلم الوصولْ إلى مهمات من الأصولْ، وسمَّاهُ “عنبَرُ المُستافْ وجوهرُ الأصدافْ” :
ولمْ يَجُزْ للرُّخَصِ التَّــتَبـــُّعُ
عن كلِّ حبرٍ بالعلومُ ينبُعُ
وخالَفَ الجَمْعَ أبو إسحاقِ
في قولةٍ لمْ تَخلُ مِن مِحاقِ
لقد عرَّفوا “تتبع الرخص” المنهي عنه بأنه الذي تتركَّب منه صورةٌ مُجمَع على تحريمها كما مثَّل له لمرابط ابنُ متالي بالنكاح دون شهودٍ وأولياء ومهرٍ تقليداً في كل رُكن لقائِل بعدم شَرطيته …
ومن طرائف ما اعتادوا أن يروُوه في الرد على أولئك الذين يُريدون حسم الخلافات الفقهية بعد وقوعها، أن العلامة محمد عالي بن محنض الأبهمي رحمة الله عليه كان يقول إنه إذا وقع خلافٌ بين العلماء في مسألة مُعينةٍ، ثم رأى أحد فيها رأياً بعد ذلك، فإنه إنما ينحاز إلى أحدِ أطرافِ الخلاف ويبقى الخلاف قائما …
ومن أمثلة مراعاة الخلاف ما رأيته بخط الوالد رحمة الله عليه في آخر جواب له على سؤال كان طرحه عليه أحدهم بخصوص حكم الصلاة خلفَ ذوِي الأهواء في العقيدة، فقد كتب: (( ثم إذا نظرنا عدم ارتباط المأموم الذي هو مذهبُ إمامٍ من أئمة المُسلمين وهو الشافعيُّ، وجدنا الأمرَ واسِعاً لله الحمد والشكر)).
وإذا قُمنا بتوسيع دائرة هذا الموضوع إلى مجال القضاء أو “ما يقع بين الاثنَين”، فهنا نرى أنهم أوجبُوا العمل بالراجح في المسألة، لما ينطوي عليه الأمرُ هنا من حقوق للمُتخاصمين، يقول القاضي محمذن بن محمد فال”امَّيَيْ” في هذا وذاك:
مِن مَذهبٍ لمذهبٍ يُصارُ
خِلافُ الَأوْلَى قالهُ المعيارُ
كذا انتقالٌ لضعيفٍ مِن قوِي
كما عن المعيارِ أيضاً قد رُوِي
وما مِن الخلافِ بين اثنَينِ
يجبُ فيه أرجحُ القولينِ
وفي دائرة ثالثة هي دائرةُ الورَع، قد يذهب أصحابُه في اتجاه مُعاكس، بحيث يتحرَّجُون مِما أجازه مذهبُهم مُراعاةً لقول غيره من المذاهب، فيُروى من ذلك أن العلامة محمد فالْ بن محمذن “بَبَّها” كان يأمرُ مَن حوله بإماطة وإبعاد أرواث الأنعام، ويقول لهم ما مضمونه أنها نجسة في مذهب الإمام الشافعي وهو حجة في الإسلام لا ينبغي تجاهل أقواله …
كان هذا كلاماً عن السكوت!
طاب يومكم …
عز الدين بن ڭرَّاي بن أحمد يورَ