هل يلحق الولد بأبيه من الزنا..؟/ محمد يالم المجلسي
هل يلحق الولد بأبيه من الزنا..؟
سؤال يتكرَّر ولعلَّ في ما كتبته هنا من قبل إجابة.
حطت أسئلة مهمة رِحالها في سلَّة رسائلي تسأل عن إثبات النسب بالحمض النووي ..ومعلوم أنها مسألة خاض فيها كثير من الناس..ولا أروم هنا إفتاءً ولا ترجيحا ولا تعليلا لعدم الأهلية من جهة، ولأن العلماء ذوي الأفهام المنيرة قد كفونا مشقة تكلُّف ذلك من جهة أخرى، ولكن أنقل هذا من باب مشاركتكم بعض ما ذكروه في هذه القضايا التي كانت ميادين خصبة لبَذر مسائل اجتهادهم المثمرة، وسقيِها بصناعتهم الحديثية الفاخرة، ومداركهم الفقهية الأخَّاذة.
وإن مما يجب علمه أن انتساب الابن لأبيه يثبت بالفراش أي الزوجية، فمتى ثبتت الزوجية ألحق الولد ، وهذا مما أجمع عليه العلماء كما نقل ابن عبد البر وابن القيم وابن قدامة وابن الأثير وغيرهم.
ومتى اندرأ الحد عن الزوجين لشبهة صحة النكاح عندهما ألحق الولد.
وقد صح في الصحيحين حديث “الولد للفراش” وقد رواه غير واحد عن عائشة وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وغيرهم مرفوعا.
فمثل هذا يثبت ولو دل فحص الحمض النووي على خلافه.
وأما إذا لم تكن زوجية فإلحاق ولد الزنا مسألة وقع فيها اختلاف كبير بين العلماء الأخيار والأئمة الأبرار .
فالمشهور في المذاهب الأربعة وهو مذهب ابن حزم وجمهور أهل العلم أن ولد الزنا لا يُلحق بأبيه من الزنا، وذلك لما فهموه من الحصر في حديث “الولد للفراس” فالزوجية هي طريق إلحاق الولد “وللعاهر الحجر” فليس للزاني ولد، بل ليس له سوى الحد .
واستدلوا أيضا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا عند أحمد وأبي داود وغيرهما ،وهو حديث يفيد أن من استلحق ولدا من حرة زنى بها أو أَمَة لم يُلحق به..واستدلوا بغير هذا مما أوضحوا وجوه الاستدلال به، وقرَّبوه لطالبِه.
وذهب آخرون إلى القول بإلحاق ولد الزنا إذا لم يكن فراش، وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري وسليمان بن يسار وابن سيرين وإسحاق وغيرهم من السلف الأماجد ، وهو قول ابن تيمية، وانتصر له ابن القيم، وساق لتقويته أدلة كثيرة لا يشك المتأمل فيها أن هذه المسألة محل اجتهاد ونظر ، وليست محسومة كما يظن كثير من الناس.
كما انتصر لهذا القول كثير من المتأخرين والمعاصرين.
وقد رد هؤلاء الاستدلال بحديث “الولد للفراش” بأنه لا يتناول هذه المسألة التي ليس فيها فراش، وإنما يتكلم عن حالة وجود الفراش، أو التنازع بين الزوج والزاني.
وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، فهو وإن كان من حيث الدلالة أقوى ما استدلوا به إلا أنه من حيث الثبوت لم يقبلوا التفرد بهذه السلسلة للاحتجاج بها في هذه القضية الخطيرة ، لأنها سلسلة لا تخلو من كلام.
ومع هذا استدلوا بأدلة منها قصة جريج وهي عند البخاري في الصحيح وبطولها في الأدب المفرد وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، وفيها أن جريجا قال للصبي الذي تكلم في المهد (من أبوك ..؟) فقال: (الراعي).
فهذا الكلام خارج على وجه الكرامة، فهو حق وليس كذبا، وقد ذكرت فيه أبوة الراعي الزاني لذلك الصبي، وقد بين ابن القيم قوة هذا الاستدلال، وكذلك القرطبي في تفسيره.
وقد كنت أميل لقول الجمهور ثم صرت مترددا بين القولين، ثم حبست مطيَّتي مع القائلين بهذا الرأي ..لما جلبوه من أدلة وردود، ولما ذكروه فيه من مصالح ظاهرة ومزايا باهرة خاصة في هذا الزمان الذي لا ينبغي فيه قبول تضييع ولد من طرف من خُلِق من مائه، وكان سببا في وجوده، فالأخذ به خير من اللجوء إلى فحص الحمض النووي، لأن في إشاعة اللجوء إلى الحمض النووي كشفا لكثير مما أمر الشرع بسَتره، وتأخيرا لما أمر بإمضائه، هذا مع تفاوت أنواعه في الدقة، واحتمال أخطاء الفحوص.
وأما كونه مسألة علمية فإن من المعلوم أن الأحكام قائمةٌ بأسبابها الشرعية, لا بموافقتِها للواقع أو شهادة المسلَّمات العلمية لها..وغير ذلك تورُّط في هوَّة، وليس من القوَّة.
فشتَّان ما بَين حكم الدِّين المُراعي لكلِّ الجوانب وبين حكمِ الواقع الموافق لقطعيَّات العلم البشري أو تصوُّراتِه, ولا تتعدَّى نتيجَتُه إلى مقاصد الحياة الكريمة.
قد يَتَّهم شَخص شخصا بفاحشة ويأتي معه بشاهد أو شاهدين مع أنَّه لا شاهد أعزّ عليه من حَدَقته, وربَّما يكون ما اتَّهمه به واقعا..لكنَّ ذلك لا يُقبَل منه, بل يُعرِّضه لحدِّ القذف..حيث يقول تعالى: (لَولا جاءُوا عليه بأربعة شُهداءَ فإذ لم يأتوا بالشُّهداء فأولئك عند اللَّه همُ الكاذبُون)
قال ابن كثير: (أي: في حكم الله كَذَبة فاجرون) مع احتمال صدقهم في الواقع.
ونَجد مثلَ هذا إذا وقعت الخصومة والنِّزاع في الولد, حيث روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقَّاص وعبدُ بن زمعةَ في غلام , فقال سعد: هذا يا رسولَ الله ابن أخي عتبةَ بنِ أبي وقاص, عهِد إليَّ أنه ابنُه, ، انْظُر إلى شَبَهِه.
وقال عَبد بنُ زمعة: هذا أخي يا رسول الله , وُلِد على فراش أبي مِن وَليدته.
فنظر رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى شَبهه فرأى شَبها بيِّنا بعُتبة، َ، فقال: (هو لك يا عبدُ بنَ زمعة, الولد للفراش وللعاهِر الحَجَر, واحتَجبي منه يا سَودةُ بنتَ زَمعة) قالت: فلم يَر سَودةَ قط.
ف”الولد للفراش” حكمٌ شَرعي ثابت, ولو دلَّ الشبَه الواضح أو القِيافة السَّديدة أنَّ الولد ليسَ لصاحب الفراش.
هذا مع أنَّه قد يأتينا مُحترف تصوير يرى أنَّ في صورته أدلَّة قطعية, ويأتي محلِّل بَصمات يرى أنَّ في شهادتِه برهانا قاطعا, ويأتي خُبراءُ الحِمض النَّووي مدَّعين أنَّ أحكامَهم حاسِمة..ويأتي غيرهم ممن أتقن صنعتَه وتربَّى في مَساطب الغرباء.. لكنَّ ذلك كلَّه لا يُغيِّر من كَون الولد ولدَ صاحب الفراش.
وهكذا يَثبت الهلال بثبوت الرؤية شرعا, لما في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (صوموا لرؤيتِه وأفطروا لرؤيته, فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عدَّةَ شعبان ثلاثين)
وهذه الروايات (غُبِّي, غمِّي, حال دونه غياية, حال دونه غمامة…) كلُّها تفيد احتمال وجود الهلال في السماء إلا أنَّه منعت من رؤيته موانع, فإذا أثبت الفلكيُّون ولادتَه ووجودَه وقتَ البحث عنه, فذلك لا يُغني شيئا ما لم تَره الأبصار.
وهكذا إذا شهدَ العدول أنَّهم رأوُا الهلال, وذكر الفلكيُّون استِحالة ذلك, فالعبرة بما أمر النَّصُّ الشرعيُّ باتِّباعِه, وهو رؤيةُ العدول, لا ما قرَّره الفلكيُّون.
وفي كلِّ ذلك من التَّيسير والتَّقريب والتأليف والسَّتر حِكَم وأسرار لا يَعلمها إلا الله الذي أحاط بكلِّ شيء عِلما.
وردُّ شهادة العدول المكتملة الشروط ورفضُ بناء الأحكام عليها لكونِها ظنِّية أو مخالفةً للواقع من أخطر الأبواب التِّي تُعطَّل بها الشريعة وتُلغى بها المصالح ولا يقوم معها قضاء.
وعلى المسلم إذا ثبت في الشريعة حكمٌ أن يُصدِّقه وينقادَ له, وقد روى البخاري وغيره عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم قال: (رأى عيسى ابنُ مريم رجلا يسرق، فَقَال لَه: أسرقت؟ قَال: كلَّا َوالله الَّذي لا إِلَه إلَّا هو، فَقَال عيسى: آمنت باللَّه، وكَذَّبتُ عَيني)
قال ابنُ القيِّم: (والحقُّ أنَّ الله كان في قلبه أجلَّ من أن يَحلف به أحدٌ كاذبا, فدار الأمر بين تُهمة الحالف وتُهمة بَصره, فردَّ التُّهمة إلى بَصره)
فمَن رأى ما لا يُثبِت الشَّرعُ حكمَ وقوعِه صدَّق حكمَ الشَّرع وكَذَّب عينَه, ولا يُكَذِّب أعيُنَ العدول إذا رأت ما يُثبت الشَّرع حكمَه برؤيتهم.
والله الموفِّق.