المدرسة الجمهورية: الأبعاد والمرامي / الشيخ ولد باباه اليدالي
لعل من المفيد في مستهل الحديث أن نشير إلى أن مصطلح المدرسة الجمهورية ظهر في فرنسا في أخريات القرن التاسع عشر الميلادي إبان قيام الجمهورية الثالثة، وكان الهدف من إطلاقه بلورة القيم التي انبنت عليها الجمهورية الفرنسية من حرية وعدالة ومساواة، والتي ترتكز – كما هو معلوم – على أساس علماني يستمد رؤاه وتصوراته من فلسفة عصر الأنوار
وبما أن هذا المصطلح نشأ في بيئة علمانية ومبادئه التي ارتبطت به تشي بالتصاقه الحميم بهذه البيئة، فإن الاستفادة منه في بيئة أخرى كبلادنا لا بد أن تخضع لعملية “تبيؤ”؛ بمعنى الاستفادة منه وفق شروط البيئة الجديدة، ويعني ذلك – فيما يعنيه – الابتعاد به عن حقل العلمنة ومياسمه التي كانت تسمه في بيئة النشأة، ومن ثم شحنه – قدر الإمكان – بمبادئ الإسلام وقيمه السمحة؛ بما هي من مرتكزات هويتنا القومية وشخصيتنا الحضارية
وبغض النظر عن النشأة العلمانية فإن المدرسة الجمهورية التي يطلق عليها أيضا مدرسة الشعب لها أهمية كبيرة في إصلاح أي منظومة تعليمية يراد لها الإصلاح؛ خاصة أن من مقتضيات هذه المدرسة محو الفروق بين التلاميذ، وتقديم خدمة تعليمية على مستوى عال من الجودة يستفيد منها الجميع على نحو متكافئ بعيدا عن إملاءات الجهوية والفئوية والشرائحية؛ بحيث يتناسى التلاميذ التراتبية الاجتماعية، ويجلسون جميعا جنبا إلى جنب بزي موحد يتلقون دروسهم التي من شأنها أن تذكي فيهم حس المواطنة، وتغرس فيهم الشخصية المتوازنة الإيجابية والفاعلة القادرة على بناء الوطن وإعماره بما ينفع الناس ويمكث في الأرض
وقد تكون المدرسة الجمهورية حلما قديما راود القائمين على التعليم في بلادنا، ورأوا فيه بوابة للخروج بهذا التعليم من مشاكله المزمنة، ومع وصول فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الغزواني إلى الحكم أخذ هذا الحلم طريقه إلى التحقق بفضل إيمان هذا الرئيس الحكيم بأهمية التعليم واعتباره له “أولوية الأولويات” ومن هنا نجده يقول: “إنني مصمم على الشروع – بدون تأخير – في تنفيذ الإصلاحات الضرورية لإرساء قواعد المدرسة التي نحلم بها جميعا لأجيالنا الصاعدة؛ إنها مدرسة يجد فيها كل طفل فرصة لنمو طاقاته، وتفتق مواهبه في جو تعليمي هادئ تطبعه القيم النبيلة المستمدة من ديننا الحنيف وثقافتنا العربية الإفريقية، مدرسة تجمع بين مقتضيات الأصالة ومتطلبات العصرنة، مدرسة تشكل بوتقة للمساواة والتلاحم الاجتماعي، مدرسة توفر لكل فرد فرصة اكتساب المعارف والمسلكيات والمهارات التي تضمن له النجاح في حياته الشخصية والمهنية؛ طبقا لقدراته واختياره الشخصي”
من الواضح – إذن – أن المدرسة الجمهورية صير إليها في منظومتنا التعليمية بإرادة سياسية من رئيس الجمهورية تتغيا النهوض بالتعليم؛ بما هو شرط لا غنى عنه لأي نهضة شاملة تمس المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية…، وفي هذا السياق جاء اكتتاب المدرسين بأعداد كبيرة، وجاء تثمين مهنة المدرس، وروجعت البرامج، وطبعت أعداد معتبرة من الكتب المدرسية، وكان أن بدأ تعميم التعليم في المرحلة الابتدائية بعد تغول المدارس الحرة وتكريسها للفروق على أساس قبلي أو جهوي أو شرائحي؛ حيث أصبح من اللافت وجود مدارس خاصة بشرائح معينة، وأخرى خاصة بشرائح أخرى؛ بل أبعد من ذلك هناك من المدارس ما يكاد يتمحض لقبيلة بعينها، وهذا ما لا حظه فخامة الرئيس حينما قال: “سيبدأ برنامج القضاء التدريجي على المدرسة الأساسية الخصوصية التي ظهر أنها تفاقم الفوارق الاجتماعية، ولذلك ستحل محلها وبنفس التدرج مدرسة أساسية عمومية حاملة لمعاني التلاحم الاجتماعي والوحدة الوطنية، وتجسيدا للتوجه نحو محو الفوارق سيتم اعتماد الزي المدرسي الموحد، وستراجع برامج المرحلة الابتدائية لتعزيز مفاهيم الروح المدنية والولاء للوطن”
ومن الجدير بالذكر أن هذه الإصلاحات التي تحدث عنها الرئيس في الاقتباس أعلاه بصيغة المضارع قد تحققت فعلا وأصبحت إنجازات بعد أن كانت وعودا؛ إذ أن السنتين الأولى والثانية من الابتدائية – كما هو معلوم – قد عممتا، والحبل على الجرار حتى تعمم كل سنوات التعليم الأساسي تباعا
إن المدرسة الجمهورية تقتضي – فيما تقتضيه – تحطيم أسطورة التعليم الحر في كل المراحل التعليمية؛ ذلك لأن هذا التعليم على تنوع مدارسه يكرس التمايز بين فئات المجتمع ويشعر القطاع العريض من شعبنا بالغبن وعدم المساواة؛ من خلال تسليع المعرفة وتكريس القبلية والجهوية والشرائحية والطبقية أيضا، وتحطيمه يكون بتقديم البديل العمومي الناجح؛ بواسطة تحسين التعليم العمومي في مختلف مستوياته، وإزاحة كافة العراقيل والعقبات التي تحول دون بلوغ الأهداف التربوية المنشودة
ولا أهمية – ونحن نتحدث في سياق المدرسة الجمهورية – لأي شكل من أشكال التمييز؛ إلا أن يكون تمييزا إيجابيا لصالح الفئات الهشة التي تعرضت عبر الزمن للظلم الاجتماعي، أو تلك التي تعيش في أحزمة الفقر؛ بسبب غياب العدالة والتوزيع غير العادل للثروات في عهود سابقة، ومن هنا فإن إجراء تسهيل دخول ثانويات الامتياز أمام أبناء الفئات الهشة إجراء جيد ويصب في خانة التمييز الإيجابي، على أن وجود ثانويات الامتياز، والثانويات النموذجية أصلا يكرس الفروق ولا يخدم تعميم العملية التعليمية؛ صحيح أن التلاميذ ليسوا على قدم المساواة في الاستعداد والذكاء الفطري والتحصيل العلمي، ولكن ليس من المعقول تربويا أن يشعروا بالفروق؛ بل تقدم المعارف إليهم بشكل متساو ومتكافئ على أن يأخذ كل واحد حسب استعداده الخاص وذكائه الفطري
ومن الحري بنا أن نلاحظ هنا أن معالي الوزير يواكب ويتفقد بنفسه سير المدرسة الجمهورية من خلال الزيارات الميدانية للحجرات الدراسية، ويحث معلمي المدارس وهيآتها التأطيرية وآباء التلاميذ على استكمال كافة الإجراءات المطلوبة لهذا المشروع الهام الذي تحتاج إليه منظومتنا التعليمية ومجتمعنا ككل؛ بما فيه من تعدد عرقي وتنوع ثقافي