الشيخ إبراهيم بن يوسف بعلق على كلام نسب للشيخ سيدي باب
كتب العلامة إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
التعليق على التدوينة التى كُتبت
عن لُقيا الشيخ سيدى بابه –
رحمه الله تعلى – لجبريل عليه السلام!!!
قرأت منشورا متداولا خلاصتُه أن الوالد الجد الشيخ سيدى بابه سئل عن أفضل الأذكار فقال مجيبا: سألت عنه جبريل…إلخ.
***
يوهم ظاهرُ هذا السياق أن السؤال والجواب كانا يقَظة.
وهو خلاف الواقع.
فالقصة كانت رؤيا منامية لا أكثر ولا أقل.
فالشيخ سيدى بابه لم يلق جبريل عليه السلام، ولا كلمه يقظة بحال من الأحوال، ولا ادّعى ذلك يوما من الدهر.
ولا يمكن أن ينزل جبريل بشىء من الدين على مخلوق بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بوحى ولا بذكرٍ و لا دعاءٍ…
فلا مجال للزعم أنه يكلم الناس ويكلمونه يقظة، ويسألونه عن شىء من أمور الدين ويجيبُهم يقظة.
وأيضا، فإن لقاء جبريل عليه السلام ليس بالميسور، ولا هو بهذه السهولة المظنونة بحيث يتمكن المشايخ من سؤاله عما يُشكل عليهم.
ولو كان ذلك ممكنا لأتيح لأبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ولسائر الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، فهم أفضل، وبه أجدر، والذى أشكل عليهم أكثرُ وأشهر.
وقد أبطأ جبريل ذاتَ مرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم فلما كلمه بعدُ فى ذلك نزل قول الله تعلى:
(وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا). أخرجه البخارىّ فى صحيحه.
وهو صريح فى أن الملائكة عليهم السلام لا يتنزلون بأمر مخلوق، ولا حسب رغبته أبدا، ولو كان أفضلَ الخلق: محمدا صلى الله عليه وسلم.
ثم إن اعتقاد أن جبريل يمكن أن ينزل على أىّ أحد بشىء من الدين بعد النبىّ صلى الله عليه وسلم أمر عظيم تلزم منه فواقِرُ كلُّ واحدة منهن أكبر من أختها:
أ – جواز استمرار الوحى بعد وفاة الرسول صلى الله عايه وسلم،
ب – عدم ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم،
ج – عدم اكتمال الدين على يديه صلى الله عليه وسلم…
وهذا لا يقول به مسلم أصلا، لا الشيخ سيدى بابه، ولا ابن حميه، ولا ابن أحمد يوره، ولا السيدان الفاضلان الداه ابن الربانى، والأستاذ محمدن بن سيدى بَدِّنَّه.
فقد أعاذهم الله من الكفر والضلال البعيد.
ودون الإطالة بمقدمات أخَرَ أخلص إلى القصة كما علِمتُها ورويتُها ورواها ابن حمَّيه عن جدى.
إن رواية شيخنا محمد عبد الودود ابن حميه مشهورة عندنا، فقد رويتها عن الشيخ إسحق بن أبى مدين عنه، وعن شيخنا العلامة محمد سالم ابن عبد الودود عنه أيضا.
وقد قصها الشيخ إسحق بحضرة والدى الشيخ يوسف بن الشيخ سيدىَ بابه فأقرّه عليها، وكلهم يرويها عن ابن حميه عن الشيخ سيدى بابه على أنها رؤيا منامية. وهذا لا إشكال فيه.
وكان من رواية الشيخ إسحق – وهو فى منتهى الضبط والإتقان – أن عبد الودود سأل الجد عن جبريل فقال له: بياض كالثلج، وقال لى محمد سالم ابن عبد الودود إن ابن حميه سأل الوالد الجد: من أين عرفت أنه جبريل؟ فقال له: “الروح ما تِتْغَشْمَى”.
يعنى أن الأشياء لا تنبهم عليها، لصحة إدراكها.
وكان شيخنا محمد سالم يستحسن هذه العبارة غاية الاستحسان.
وهذا دليل قاطع على أنها رؤيا مناميةٌ، فضلا عن كون هؤلاء الثقات الأجِلاء لا يروون القصة إلا على هذا الأساس، ويصرحون جميعا بذلك.
ثم إن الأخ عبد الله بن محمد بن أبى مدين حين رأى المنشور الغريب المشار إليه اتصل بالشيخ محمد محمود بن أحمد يوره ابن الربانىّ مستفهِما عن حقيقة ما قرأ، فأكد له أن القصة منامية، وأن لفظ “الباطنة” ليس فيها، وأن الشيخ قال: “عالَم الأرواح”. وهذا يلتقى مع رواية الشيخ محمد سالم تماما فى أنها منام.
وقد نشَر مضمون مكالمته معه بهذا الخصوص على صفحته، فليعد إليها من شاء.
والشيخ محمد محمود بالباب، فى تِنِّسْوَيْلِمْ – والحمد لله – فليسأله من يخامره أدنى شك فيما نقول.
ووالله الذى لا إله غيره ما سمعْتُ والدى ولا أحدا من أعمامى ولا غيرهم من كبراء أسرتى، ولا أحدا من مشايخى الذين أدركوا جدى ولازموه كسِبطه شيخنا العلامة المحدث محمد بن أبى مدين وكالمقرئ العلامة المعمَّر عبد الودود ابن حميه نفسه الذى لازمتُه أنا دهرا، وقرأت عليه خمسة كتب من تآليفه، ولا سمعت غيرهما ممن لازمه وعرفه عن كثَب من تلامذته ومن الكبراء والفضلاء من جميع القبائل والشرائح – وفيهم من عاش دهرا طويلا بعده فى حيه الذى تُوفى فيه، وفى أحياء أبنائه وبناته، وقد أدركت كثيرا منهم، وتحدثت إليهم – يذكر مرة واحدة أن الشيخ سيدى بابه لقِى فى اليقظة ملَكا أو نبيّا أو صحابيا أو أحدا ممن قد مات، فضلا عن تلقى الأذكار أو الدلالة على كتبها عن روح القدُس أمينِ الله على وحيه جبريلَ عليه السلام أفضلِ الملائكة وأقربهم منزلة من رب العالمين – جل جلاله وتقدست أسماؤه!!!!!
جبريل الذى وصفه الله عز وجل فى سياق تعليمه القرآنَ لرسوله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتِه الأولى إياه بالأفُق الأعلى بقوله عز وجل: (علمه شديد القُوى ذو مِرَّة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى…)، وبقوله عز وجل:
(إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثَم أمين)،
ثم ذكر رؤيته الثانية له ليلة المعراج بقوله سبحانه:
(ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى).
لقد رآه هاتين المرتين على صورته التى خُلق عليها، أما التى بمكة فقد رآه سادًّا الأفُق، أى ما بين المشرق والمغرب، وأما التى فى السماء فقد رآه وله ستُّمِائة جناح!!!
جبريل الذى اقتلع قرى سَدُوم: مدائنَ قوم لوط بجناحه،
جبريل الذى كان إذا نزل بالوحى على النبىّ صلى الله عليه وسلم يقَظة وجد منه شدة، فيحمرُّ وجهه ويُسمع له غَطيطٌ كغطيط البَكر، ويَتَفصَّد جبينُه عرَقا فى اليوم الشديد البرد، وفى أحد الأيام كادت فخِذُ زيد بن ثابت تُرَضُّ، وكانت فخِذُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه حين نزل جبريل بقوله تعلى: (غير أولى الضرر).
علما بأنه صلى الله عليه وسلم قد قوَّاه ربه وهيَّأه للتلقى من الملإ الأعلى، وأن جبريل كان يأتيه يقَظة فى صورة دحية الكلبىّ، أى على هيئة رجل حسن الصورة معروف عنده، ومع ذلك يلاقى من الشدة ما ألمحنا إلى بعضه.
فكيف يُطيق سؤالَه ومخاطبتَه ولقاءَه وأخْذ شىء من الدين عنه يقظةً – كما يأخذه عن بعض مشايخه – مَن ليس بمُهيَّإ لذلك، ولا مُقوًّى عليه، ولا هو برسول أصلا؟!!!
بل كيف يأخذ عنه الدين أحد بعد ختم النبوّة والرسالة؟
ذلك ما لا يكون حتى يلِجَ الجَملُ فى سَمّ الخياط.
نعم. ليس فى التدوينة التصريحُ بأن هذا اللقاء كان يقظة، لكنّ ظلالَها وأجواءَها وإيحاءاتِها كالصريحة فى ذلك.
وفى ذلك خطر بيِّنٌ على عقائد العامة.
وعموما لا أحد بعد النبىّ صلى الله عليه وسلم، ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، يستطيع أن يقول مجيبا لسائله: سألت عن ذلك جبريل، فقال لى: كذا وكذا…
فهذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خِصِّيصَى، وللمرسَلين من قبله عليهم الصلاة والسلام.
فلا ينبغى إذن أن يُظن أو يُتوهَّمَ أو يَخطرَ ببال أحد أن الشيخ سيدى بابه كان يدّعِى نزول جبريل عليه، وتمَكُّنَه من لقائه وسؤاله عما يَعرِض له من إشكالات.
فمن اعتقد ذلك فقد ظلمه، وظلم نفسه، وأساء إلى أهل بيته ومحبيه وسائر أهل السنة، وصنف الشيخَ دجَّالا مُحَرِّفا، وفتَّانا مُخَرِّفا.
وقد أعاذه الله من ذلك.
كما أنه لا ينبغى ظن ترويج الخرافات والأكاذيب بالعلامة السنّىّ المقرئ محمد عبد الودود ابن حمَّيه، ولا بتلميذه السُّنّى الإمام الجليل العلامة الفاضل سلالة السادة الأفاضل الشيخ محمد محمود بن أحمد يُوره ابن الربانىّ، حفظه الله، ورحم المذكورين.
والحاصل أن هذه القصة لم يروها الإمام الشيخ محمد محمود ابن الربانىّ عن شيخه العلامة عبد الودود ابن حَمَّيْه إلا على أنها رؤيا منامية. وكذلك قال كل من حدَّث عن ابن حمَّيه من عامة الثقات والعلماء الأجلاء والرواة الأثبات الذين سمعوها منه. فلم يرو أحد منهم أن هذا اللقاء تم يقظة، ولا حدّث الشيخ سيدى بابه بأنه كان يقظة، ولا قال ذلك أحد من أبنائه ولا حفدته ولا تلامذته أبدا. ولا يُتصور فى حقه بحال من الأحوال أن يدّعى نزول جبريل عليه بشىء من الدين.
هذا ولا إشكال فى الرُّؤى المناميّة، فيجوز عند أهل السنة والجماعة أن يرى المؤمن فى منامه ربَّ العالمين – جل جلاله وتقدست أسماؤه – وأن يرى ما شاء الله من عالم الغيب كالملائكة والجنة والنار وأهوال القيامة وعذاب القبر ونعيمه وغير ذلك.
والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوَّة، وهى المبشرات التى بقيت بعد ذهاب النبوَّة وانقطاع الوحى وخبر السماء، كما هو معلوم من صحاح الأحاديث.
لكنه من المحال – وهذا مما أكرره وألحُّ عليه – أن ينزل جبريل عليه السلام بشىء من الدين على أحد بعد النبىّ صلى الله عليه وسلم، لقوله تعلى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا)، ولقوله جل وعلا:
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين).
فلا نبىَّ بعده ولا رسول، ولا وحْىَ ينزل به جبريل، ولا دينَ، ولا ذكرَ ولا دعاء إلا ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغَ المبين فى حياته.
وكل ما خالف هذه الأصول القطعية
أو أحدَها فكفر بَوَاح وضلال صُرَاح.
والله على ما نقول وكيل.