أعلام

الدرة الثمينة مريم خيرينه

(الدرة الثمينة مريم خيرينه)
مريم “خيرينه” بنت عبد الله “النها” الحفيد بن الشيخ بن النها الكبير بن محمذ بن محمودن الحسنية البنعمرية جبل علم انزاح، وجسم انهكته الروح فاستراح، ركن قوم انهد، وقميص طاهر قد، بدر تمام شع فغاب، وبحر علم فاض وملأ الرحاب، مريم بنت النها… ثلاث وستون عاما من العطاء علما وتعليما، وتربية وسلوكا، تاريخ مجيد متدارك، وعلم نافع مبارك،، عمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم،،، ثلاث وستون عاما زرعت فيها القيم وغرست خلالها المثل التي ولعت بها وهي غضة طرية، فاستغلظ زرعها واستطال، واعشوشب غراسها واستمال، فصنعت التاريخ وربت الأجيال وعلمتهم أن المرأة محرك المياه الراكدة، ومشهودة وشاهدة، والخبر المتم الفائدة،،،،،
ولدت الجوهر الفريدة مريم بنت النها في منتصف شوال من عام 1378 من الهجرة النبوية وتربت في أسرة تتنفس اللغة والأدب والسيرة النبوية كبارا وصغارا، رجالا ونساء، أسرة تتلمذت على عروة ابن الزبير، ومحمد شهاب الزهري، ومحمد بن إسحاق، والزبير بن بكار، وعبد الرحمن السهيلي، فأشربوا السيرة وحلت بقلوبهم وحياتهم وبيوتهم ومجالسهم، وسيطت من دمائهم الأخبار والآثار والديار، فخرجت منهم أعلام مرفوعة في درب السيرة النبوية، يعتبرون حيهم – بلمغاس أو تغرريت أو الصفا أو الأجرع أو الجرذان- جزء لا يتجزأ من طرف الحي الشرقي من الوبرة أو واقم أو بياضة،،،،،،
نشات مريم بين والديها وفي كنف اسرتها تمتص اللغة الأدب والعقل والفقة والتاريخ والقضاء ومكارم الأخلاق وظهرت عليها علامات النبوغ والفهم الثاقب وهي حديثة السن فكانت تكتب وتحفظ الوجه الكامل من اللوح الكبير في أقل من ساعة،،،، وكانت الوالدة الحنون والجدة المباركة ميمونة بنت النها “غيلون” رحمها الله (آخر عنقود القاضي الجليل والعلامة الفذ النها الكبير) تشرف على عملية التلقين الأولى لمريم وبواكير إقرائها ونبوغها صحبة أمها المباشرة المرأة الصالحة التي بلغت مقام الإحسان في كمال الدين وحسن الخلق : فاطمة بنت محمذ باب بن النها وجنبا إلى جنب معها ، وكانت ميمونة عالمة مربية وشاعرة مجيدة لقسميه الفصيح والشعبي، وكانت أديبة رفيعة الذوق عذبة الخلال طريفة المقال ومن طريف ادبها “كاف” تقوله في تاجر قدم الحي ومعه بضاعة مرتفعة الثمن :
طرح الكور هون صرفو ** ما طرحو بالهون
يا منصابو باط صرفو ** ملانا عن هون.
كانت ميمونة “غيلون” رحمها الله حريصة على تعليمها القرآن والآداب والسلوك وأمهات المكارم، بينما كان والدها العالم الجليل والقاضي الورع “النها” الحفيد رحمه الله من جهته يربيها ويدنيها في مجلسه ويعهد إليها اثناء الدرس بعرض الكتاب وقراءته، كأنما يحدس في مقلتيها أصالة الرأي وتوقد الفكر، ويشيم في محياها وميضا سيفيض سلسالا ويعم اجيالا بعد غيابه أزيد من أربعين عاما، وكأنما كان ينظر فيها إلى الغيب من وراء ستر رقيق،،،،
تلك هي البصمات الأولى واللمسات المثلى التي افتتحت بها خيرينه حياتها العائلية بين يدي ابيها وامهاتها فنهلت من علمهم وسمتهم وعقولهم،،،، شبت خيرينه واستلمتها خالتها العالمة الجليلة والسيرية النسابة والأديبة الفذة أميمه بنت حمين، المرأة الصالحة المعمرة في العلم والطاعة وجمال الدرس وحسن اليراعة، فلازمتها خيرينة ملازمة الظل وطفقت تنهل من معارفها الجمة وتعب من علمها الغزير، وخاصة علم السيرة النبوية والأنساب، وكانت اميم بنت حمين – متع الله بها- تحفظ كتاب سيرة بن إسحاق كاملا وتحفظ الروض الأنف للسهيلي وعمود النسب وديوان الشعراء الستة وانظام الوالد الشيخ محمد المامي رحمه الله، فقرأت عليها انظام الآداب والسير كالمطهرة وسيرة محمد بن إسحاق وعمود النسب للبدوي والحلبية والروض الأنف، وانظام الوالد العلامة الشيخ محمد المامي بن البخاري وكثيرا من كتبه وغيرها،،،،، ومن خالات مريم التي تربت في كنفهن: العالمة والأميرة العاقلة اخديجات بنت احمدو بن النها رحمها الله وكانت تحفظ القرآن وتجيد رسمه وضبطه ومن نوادرها فيه أنها ذات مرة جيء إليها – بعد صلاة المغرب – بمصحف جديد مطبوع في إحدى المطابع العالمية برواية ورش عن نافع فأخذت كشافا ومرت عليه تلك الليلة وتتبعته آية آية وحرفا حرفا من أوله إلى آخره واكتشفت فيه زيادة واو قبل السين في قوله تعالى: “سارعوا إلى مغفرة من ربكم”.
كما قرأت العالمة الجليلة مريم بنت النها رحمها الله على خالها ووالدها العلامة القاضي الداه بن حمين – متع الله به- ورافقته كثيرا، ونهلت من معارفه في اللغة والفقه والسيرة والتاريخ ولازمته زمانا فحضرت مجالسه في القضاء والإفتاء ودروسه في الأنساب والأيام وحوادث السنين، والعلامة القاضي الداه هو من هو وخاصة في مجالها الذي تميزت فيه رحمها الله (السيرة النبوية) فهو كما وصفه القاضي محمذ بن محنض باب “سيلوم” في المرهم الدوي على نظم البدوي:
ومن مراجعي فضيلة الإمام ** الشيخ الداه بن حمين الهمام
فهو عذيق السيرة المرجب ** جذيلها المحكك المجرب عمره الإله فينا ازمنا ** بصحة ونال منتهى المنى،،،
مكثت الراحلة خيرينة في قريتها اعوما سبعة بعد وفاة والدها النها رحمه الله الذي توفي عام 1401 تقلب إرثه من الكتب، وتحصد حرثه من القيم والسؤدد، وتستجمع آثاره من المسموع في القضاء والإفتاء والدرس وتستعرضها أثرا أثرا وكتابا كتابا حتى وعت كل ذلك وانضجته على نور فكرها الهادئ وقلبها الواعي وعقلها الراجح، وأصبحت مريم بنت النها خيرينة بعد هذا العمر الشبابي الحافل ومضة من ذلك السراج، وعصارة من ذلك المعين وخلاصة من ذلك العقد الفريد المنتظم أعلاه ومزنة من ذلك الوابل الصيب قد استهلت وأطلت واغدقت واغدودقت وامطرت سماء المدينة، ولسان حالها ينشد :
علمي معي حيث ما يممت يصحبني ** صدري وعاء له لا بطن صندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ** أو كنت في السوق كان العلم في السوق.
بعد أن نشطت مريم بنت النها رحمها الله في باكورة شبابها في التعليم والدعوة والإصلاح وتعددت جوانبها في ذلك علميا واجتماعيا وسياسيا، في قريتها الهادئة “اندومري انتقلت ابنة القرية الوادعة : في عام 1407من الهجرة النبوية – وهي الشابة الفطنة، والشمعة الثاقبة، والعالمة المكينة، والداعية الحكيمة- وحلت بقلب العاصمة انوكشوط وهي لم تبلغ الثلاثين لكن علمها الجم النقي، وعقلها المتأثل، كان قد سبق عمرها بعقود وآماد …..
نشطت مريم بنت النها هذه المرة في مدينة انواكشوط نشاطا كثيفا في الدعوة والإصلاح وتعددت جوانبها في ذلك علميا واجتماعيا وسياسيا، وشاركت في امتحان البكالوريا عام 1413 هجرية فكانت من الناجحين من نفس السنة، ثم دخلت في نفس السنة مدرسة التكوين المهني للمعلمين وتخرجت منها ثم باشرت التدريس في الداخل في كيهيدي وغيره، كما درست في المعهد العالي للبحوث الإسلامية وتخرجت منه بعد أن كتبت رسالتها : “القيم والمثل في المقاومة الثقافية في موريتانيا”، وكان بحثا شيقا غنيا ينبئ عن مكنون الأدب في صدرها وعن الرصيد العلمي والحس الحضاري الذي تتمتع به، وفي عام 1414 اتصلت الراحلة بالجمعية الثقافية الإسلامية ونادي عائشة أم المؤمنين ونشطت في تيار الإصلاحيين فتعلمت منه كثيرا ووربت وعلمت فيه أكثر، وشاركت في كثير الندوات واللقاءات العلمية والاجتماعية، وعبأت في كثير من المهرجانات والتظاهرت السياسية، لكن شخصيتها العلمية وطبيعتها المرنة وسعة باعها واطلاعها كل ذلك منعها من التقوقع داخل الإطار الواحد، كما أن تواضعها وحبها للخير والإصلاح هو الآخر ظل محتفظا داخل إطار كل شيء فيه نفع وصلاح للناس.
في عام 1420 تزوجت مريم بنت النها من العالم الجليل الشيخ محمد الأمين بن الحسن بن سيدي القادر مدير ومؤسس ومدرس مدارس العون الإسلامية في انوكشوط، ومكثت في بيته أزيد من عشرين عاما كانت كلها عطاء غير مجذوذ ومسيرة حافلة بالإنجاز، والشيخ محمد الأمين رحمه الله هو ذلك الشيخ الذي ظل عنوانا لكلمة الحق والقوة في الله والصدق، وشعارا لدحض الباطل وربانية الموقف، وهنالك في محظرة العون ومعهد خير الورى دخلت الراحلة مرحلة جديدة فتح لها فيها من أبواب الدعوة وآفاق التعليم والإصلاح ما لم يفتح من قبل، وكأنما انطبق عليها قول مطوق الحمامة :
هنالك يدرى أن للبعد قصة ** وأن كساد العلم آفته القرب.
من هناك ومن ذلك الإشعاع انطلقت الراحلة مريم بنت النها بروح جدية جديدة وتضاعف نشاطها المكثف فوصلت الليل بالنهار لا يشغلها عنه شأن ولا يصرفها عنه صارف، فامتدت دعوتها وكلماتها واياديها وربانيتها ونصائحها بين الأرجاء وملأ صداها الاوساط الدعوية والعلمية، فأصبحت رمزا من رموزها ومركزا من مراكزها، فربت وعلمت اجيالا غرست فيهم القيم وزرعت المثل.
لم تحظ الراحلة مريم بنت النها بأبناء بطنها لكنها خلفت وربت اجيالا من خيرة الأبناء برا وتربية وعملا وتلك – والله- هي الذرية الصالحة الناجحة التي تنفع وترفع وتدفع، ولله در القاضي محمذ بن محنض باب “سيلوم” حين استثني التقى والفضل من نسل عامر بن عبد الله بن الجراح فقال عن وفاة ابنيه في حياته: ودرجا فما بقي نسل ** لعامر إلا التقى والفضل.
مرضت مريم بنت النها وألح عليها المرض ولاحقها زمانا طويلا وهي صابرة محتسبة رابطة الجأش باسمة المحيا راضية مرضية حتى التحقت بالرفيق الأعلى وهي على ذلك وووريت الثرى بين والديها بواد السعداء “لمغاس” ، وخلفت وراءها ألسنة لا تحصى تلهج بالدعاء، وأفواها كثيرة تمتلئ بالثناء والرثاء وحسن الرجاء. لقد احتسبناها عند الله وما عند الله خير لنا ولها فعوضنا الله خيرا، ورحمها الله برحمته الواسعة وأسكنها الفردوس الأعلى وجزاها الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

من صفحة مولاي الشنقيطي


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى