يوم شربت الكوكا كولا (قصة من زمن الطفولة)
كان جدي العلامة الورع الزاهد المنفق عبد اللطيف بن بديه رحمه الله، يُدَلِّلُنِي كثيرا، ويظهرلي من عطفه وحنانه ما لا يظهره لغيري من أطفال الدار، وكان يتحفني بالهدايا غِبَّ كل سفرة له..
كان من هو أكبر مني سنا من أطفال البيت وتلاميد المحظرة، يذهب معه بشكل شبه يومي إلى تگند لعرض ما يحفظ من كتاب الله، وكان المحظوظ من يذهب معه؛ فالشيخ الوالد رحمه الله ليس كغيره من الشيوخ، فهو لا يضرب تلاميده، وكلما وصل مشارف المدينة التفت إلى تلميده وأوصاه باثنتين: تَذكَّرْ المكان الذي وصلت له في عرضك،
ولا تبارح حانوت احمدو سالم،
ثم مدَّ له من النقود ما يكفي لشراء خبز وحلويات وفي بعض الأيام ما يكفي لشراء مشروب غازي فاخر..
كنت استعجل اليوم الذي أرافقه فيه في رحلة العمر….!
… وجاء اليوم الموعود….
رغم أن ما لدي يومها من القرآن لا يزيد على بضع سور قصار تكفي المسافة بين المسجد والمنزل لعرضها فقد اصطحبني الوالد رحمه الله معه كرما منه وتلبية لرغبة واستجداء دائمين ..
انطلقنا من المنزل في حدود الساعة الثامنة صباحا في يوم صيفي من عام 1987 لا زلت أحفظ تفاصيل طقسه المعتدل نسبيا!
مرَّ رحمه الله في طريقه بعدة أسر فقيرة بعضها في أطراف حيِّنا والبعض الآخر في الأحياء التي تفصلنا عن المدينة، كان يلقي عليهم السلام دون أن يدخل منازلهم، ثم يترك في مكان وقوفه أمام خِيمِهم صرَّة فيها نقود، وفي كل مرة كنت أسترق النظر في التفاتة لأرى من يلتقط الصرة من أهل المنزل ويدخلها إلى الداخل، لقد تعودوا على زياراته وطريقته في تقديم هداياه..
ختمت سُوري مرات عديدة قبل أن نصل قلب تگند النابض،
وصلنا تگند فأعطاني أول مبلغ مائة أوقية أتسلمه في حياتي ثم أوصى أهل حانوت بي وبرعايتي من خطر مصارعة الأطفال واجتياز الطريق المعبد الذي يفصل المدينة نصفين.. وذهب لمهامه التدريسية والتجارية فضلا عن شراء حاجيات أهل الدار اليومية ….
أمسكت المائة أوقية مزهوا بها، ثم اشتريت خبزا وفطائر وحلويات، وجلست على خنشة من الأرز عيار مائة كيل اغرام تحمل عارضة خضراء وشرعت في التهام مشترياتي،
وفي لحظة تفكير عابر بين المضْغِ والبَلْعِ تذكرت حديث من سبقوني من الأطفال إلى هذه السفرة عن المشروبات الغازية وكم هي حلوة لذيذة!
فبادرت صاحب الحانوت بالقول ملوحا بما تبقى من النقود وبدون مقدمات أريد كوكا!
قال بأنه لا يبيعها فحانوته لا يتوفر على ثلاجة،
أخذني معاون صاحب الحانوت وبأوامر منه إلى الحانوت الوحيد الذي يبيع المشروبات الغازية يومها في تگند وهو حانوت الوالد مُحَمَّدَا ابن العيدي أمدَّ الله في عمره وهو أحد مؤسسي تگند الجديدة، وكان يعمل معه حينها والدنا سيدي بن احمد مولود رحمه الله،
اشتريت من عنده قنينة من الكوكا كولا كان حجمها كبيرا، فتحوها لي فبدأت أعاملها كما كنت أعامل الفطائر والخبز لكن شتان ما بين اليزيدين….!
لقد شرقت بالكوكا! فتسرب الغاز من أنفي وأحسست وكأن الأرض تدور بي كنت أصرخ وأبكي وأتقيأ وأقول لهم الدخان يخرج من أنفي!
في تلك الأثناء دخل الوالد رحمه الله فوجدني على تلك الحالة..
في بداية أمره خاف علي إلا أن صاحب الحانوت طمأنه قائلا ما معناه هذا أمر طبيعي يحدث لمن يشرب الكوكا كولا أول مرة وسوف يصبح هذا الولد من أكبر مدمني مشروب الكوكا …. مازح الشيخ الوالدُ صاحبَ الحانوت قائلا (هذا لِمُناط متأكدين عنو ماه مبجوع من ش مُسْكِرْ! )
جرت بعد ذلك اليوم مياه كثيرة تحت الجسر وا وانسكبت أنهار من الكوكا في كؤوسي وقواريري!
كان حدس صاحب الحانوت صادقا فقد أصبحت من أكبر مدمني الكوكا كولا فشربتها في كبريات المدن داخل البلد وخارجه، وفي المطاعم الفاخرة والمتواضعة، وفي حوانيت التجزئة، وعلى موائد الأصدقاء الفاخرة، ولي في شربها مذاهب وفنون وطقوس.
النبهاني ولد أمغر