القانون فى الفضاء السيبراني (1) / د. سيد محمد سيد أحمد
شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثورة تكنولوجية غير مسبوقة أدت إلى ميلاد عصر المعلومات أو العصر الرقمي الذى بدأ -حسب البعض- سنة 1970 من القرن المنصرم، ولا تزال هذه الثورة مستمرة، بل ومتسارعة إلى اليوم؛ متغلغلة في مجمل قطاعات الحياة المعاصرة، مرغمة إياها على التكيف معها والسير في فلكها. ونتيجة لذلك، أصبحت الحياة المعاصرة تعتمد على التكنولوجبيا اعتماد كبيرا إن لم نقل كليا؛ وقد أدى ذلك إلى نشوء مجال أو فضاء جديد مواز للمجالات التقليدية (البر، البحر الجو)، يسمى الفضاء السيبراني أو الالكتروني أو الفضاء الافتراضى، فيه يمارس الناس جوانب كثيرة من أنشطتهم اليومية، وقد استفادت الدول والمنظمات والأفراد من الفرص التي يوفرها هذا الفضاء.
وأوضح دليل على أهمية الفضاء السيبراني في حياة الناس اليوم هو الكم الهائل من البشر الذي يرتاد هذا الفضاء، ويمارس فيه مختلف الأنشطة التجارية والتعليمية…إلخ. فعلى سبيل المثال، عدد سكان العالم اليوم يتجاوز 7.9 مليار نسمة -حسب إحصائيات الأمم المتحدة- وأكثر من نصف هذا العدد يستخدم الانترنت، ليس ذلك فحسب بل إن محرك كوكل وحده يستقبل يوميا 3.5 مليار بحث في المتوسط، وعدد الأجهزة المتصلة بالانترنت يتوقع أن يبلغ 50 مليار جهاز في سنوات قليلة، أضف إلى ذلك أن منصة فيسبوك يستخدمها في الشهر أكثر من 2.9 مليار مستخدم وفي اليوم أكثر من 1.9 مليار شخص.
وانتقال أنشطة البشر إلى الفضاء السيبراني استدعى إخضاع تلك الأنشطة للقانون (مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في المجتمع والتي تقترن بجزاء يوقع على من يخالفها)، الذي يهدف إلى تنظيم الروابط الاجتماعية التي تقع في الفضاء السيبراني، وبيان الحقوق والواجبات وحماية تلك الحقوق من الاعتداء عليها؛ فأصبحت هناك قوانين خاصة بالفضاء السيبراني جنبا إلى جنب مع القوانين التقليدية. وتشتمل القوانين السيبرانية على أهم فروع القوانين التقليدية؛ فهناك مثلا قوانين تتعلق بالمجال الجنائي، وأخري بالمجال التجاري والإعلامي …إلخ. والفضاء السيبراني ينظر إليه اليوم على أنه فضاء أو مجال مساو للمجالات التقليدية (الأرض، البحر، الجو)؛ ولذا يخضع لقانون الدولة أو الدول التي يقع في إقليمها. والولوج أو النفاذ إلى الفضاء السيبراني يعتبر حقا من حقوق الانسان في هذا العصر؛ لذا جاء في المادة 6 من القانون التوجهي لمجتمع المعلومات الموريتاني: “يكرس هذا القانون مبدأ النفاذ إلى الإعلام والاتصال. – لكل شخص الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال الالكتروني المفتوحة للعموم وفى استخدام الأدوات التكنولوجية للأغراض الشخصية أو الجمعوية أو المهنية”.
والتأثير الهائل للثورة التكنولوجية على مختلف جوانب الحياة المعاصرة، وعلى القوانين التي تنظم سلوك أفراد المجتمع والروابط التي تربط بعضهم ببعض يثير تساؤلات عديدة لعل من أهمها الآتي:
ما هو الفضاء السيبراني وما الذي يميزه عن الفضاءات أو المجالات التقليدية التي تمارس الدولة فيها سيادتها؟ وما هي المبررات التي أدت إلى وجود قوانين تتعلق بالمجال السيبراني جنبا إلى جنب مع القوانين التقليدية، ومتى وجدت تلك القوانين؟ أين موقع الدولة الموريتانية في الركب السيبراني (الدول التى استحدثت قوانين خاصة بالفضاء السيبراني)؟ وما هي أهم المجالات التي تناولتها القوانين الموريتانية السيبرانية؟
من أجل إلقاء الضوء على “القانون فى الفضاء السيبراني”، سيحاول الكاتب -بحول الله وقوته- الإجابة على هذه الأسئلة في سلسلة مقالات متتالية؛ يناقش في كل مقالة زاوية أو جانبا من جوانب الموضوع، آملا أن يساهم بذلك في نشر الثقافة القانونية بشكل عام، وإعلام جمهور الفضاء السيبراني بوجود قوانين تتعلق بهذا الفضاء، وهي مثل القوانين الأخرى تنطبق على كل من يدخل في مجال من مجالاتها. ومن أهداف هذه السلسلة أيضا تعريف الجمهور السيبرابي بالقوانين السيبرانية (وبشكل خاص القوانين الموريتانية منها)، وحث كل فرد من أفراد هذا الجمهور على أهمية الاطلاع على تلك القوانين والعمل بمقتضاها قبل أن يقع في شركها إذ “لا عذر لأحد في جهل القانون”.