الإيمان إكسير القبول.. والفكر دليل الوصول / رقية أحمد منيه
في أزمنة الفتن الفكرية، يقف الإنسان حيران له أصحاب يدعونه إلى الردى، وداعي الفطرة والإيمان؛ يقوده إلى حيث النجاة في الأخرى، فتتنازعه عوارض التشهي مع ثوابت النصوص القطعية الصريحة بشأن تمحض الخضوع والاستسلام لما قضى الله ورسوله من الأمر، وتلك المعركة الداخلية التي يخوضها مع النفس والهوى، أشد وقعا وأقوى وطئا من معارك خارجية أسلحتها الأفهام والأقلام؛
فأي الفريقين أحق بالأمن؟
إن حسم الجدال لا يكون إلا بالاحتكام إلى الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذا حال من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وأما ترك الاعتصام بحبل الله فصاحبه سيبقى مترددا بين الداعيين حائرا، تختلط عليه أمور العقائد بأحوال العادات، وأصول الإيمان بآداب المعاملات، وهذه حال الناس كلهم، إلا من عصمه الله تعالى، والعصمة هنا حفظ من الزيغ وليست بالمعنى الخاص المنطبق على صفوة الخلق من الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فمن ترك زمام النفس لأهل الأهواء تلون المضمر لديه وصار إيمانه على خطر، وسار يتبع أهل الضلال لما يجده فيهم من دواعي التفلت وجواذب معارضة الحق، بينما الأولى له اتباع دواعي الرسالة الخاتمة والعقل السليم، والفطرة المستقيمة، ولزوم سنة المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، وترك الخوض فيما لا يعني، وسؤال الله الثبات على الإيمان، والتمسك بنهج النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، قال الإمام الذهبي في السير: “إذا وقعت الفِتَن فَتَمَسَّك بالسُنّة ، والزم الصَمت ، ولا تَخُض فيما لا يعنيك ، وما أشكَلَ عليك فرده إلى الله ورسوله ، وقف وقل : الله أعلم”.
ولعل من غرائب الصدف أن يجتمع ضلال العقائد مع تنطع الفكر التكفيري وثَالِثَةُ الأثَافِي؛ فساد الذمم والأخلاق، ليشكل الكل بأريحية مستهجنة وصاية على المسلمات والضروري من علوم الدين؛ فيخرج أهل الإيمان من الأمة المحمدية الموحدة من ربقة الدين ومن ثم من رحمة الله الواسعة، ويدخل غيرهم من الذين أشركوا في دائرة الأمة المرحومة، أو في أحسن الأقوال يترك الأمر لمشيئة الخالق جل شأنه، وإن كان في الأمر تفويض لا يعترض عليه إلا من جهة الجمع بين الأدلة التي لا تعارض فيها لجامع وجوب الإيمان المطلق بكلام الله تعالى إيمانا يشمل المحكم والمشتابه الذي يجب الإيمان به على مراد الله تعالى، كل من عند ربنا،
أو لا يسع أهل التوحيد ما وسع غيرهم؟
أم أن ذنوبهم أعظم من الشرك؟
وهو ما بين القرآن الكريم فيه القول الفصل؛ يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿إنَّ الله لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ .[النساء ٤٨].
يقول صاحب التحرير والتنوير:”وقَدِ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ كُلُّهم عَلى أنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الكُفْرِ، أيِ الإيمانَ، يُوجِبُ مَغْفِرَتَهُ سَواءٌ كانَ كُفْرَ إشْراكٍ أمْ كُفْرًا بِالإسْلامِ، لا شَكَّ في ذَلِكَ، إمّا بِوَعْدِ الله عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، أوْ بِالوُجُوبِ العَقْلِيِّ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ؛ وأنَّ المَوْتَ عَلى الكُفْرِ مُطْلَقًا لا يُغْفَرُ بِلا شَكٍّ، إمّا بِوَعِيدِ الله، أوْ بِالوُجُوبِ العَقْلِيِّ؛ وأنَّ المُذْنِبَ إذا تابَ يُغْفَرُ ذَنْبُهُ قَطْعًا، إمّا بِوَعْدِ الله أوْ بِالوُجُوبِ العَقْلِيِّ.
واخْتُلِفَ في المُذْنِبِ إذا ماتَ عَلى ذَنْبِهِ ولَمْ يَتُبْ أوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الحَسَناتِ ما يُغَطِّي عَلى ذُنُوبِهِ، فَقالَ أهْلُ السُّنَّةِ: يُعاقَبُ ولا يُخَلَّدُ في العَذابِ بِنَصِّ الشَّرِيعَةِ، لا بِالوُجُوبِ، وهو مَعْنى المَشِيئَةِ، فَقَدْ شاءَ الله ذَلِكَ وعَرَّفَنا مَشِيئَتَهُ بِأدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ”.
وعليه يتبين أن الحق الذي مراء فيه أن تعلق النجاة في الأخرى مشروط بوجود الإيمان، واعتبار التصديق بأركان الإيمان تصديقا بعالم الغيب، فالآخرة غيب والحساب غيب والجنة غيب والنار غيب، ويوم العرض الأكبر غيب ..
فمن آمن حق الإيمان يستحيل أن يترك عقيدته هملا تتقاذفها الاحتمالات والفرضيات والمتناقضات، فلا بد أن يمعن النظر ويبذل الجهد في البحث عن الحق، ويعلم حق العلم أن من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا بد له من تحقيق شرط الإيمان، قال الله تعالى:.﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهْوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾.[الإسراء].
يقول صاحب التحرير والتنوير:”وجِيءَ بِجُمْلَةِ وهو مُؤْمِنٌ اسْمِيَّةً؛ لِدَلالَتِها عَلى الثَّباتِ والدَّوامِ، أيْ وقَدْ كانَ راسِخَ الإيمانِ، وهو في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] لِما في (كانَ) مِنَ الدَّلالَةِ عَلى كَوْنِ الإيمانِ مَلَكَةً لَهُ”.
ثم إن الإيمان بالله تعالى، يحقق الغاية من خلق الخلق، فالإنسان خلق لعبادة الله وتوحيده، وصرف كل أنواع الأفعال إليه، ابتغاء مرضاته جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره، ولم يخلق الخلق عبثا، إنما خلق لهدف أسمى وغاية أعلى؛ ألا وهي إفراد الله بالتوحيد، والتقرب إليه بما شرع، واتباع المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عند الله تعالى، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.
والإيمان بالنسبة للدين؛ المسبار الذي يقيس حقيقة التصديق، بوجود الخالق، والتصديق بما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم، من الغيبيات الواقعة لا محالة، ولنا في أخبار القرآن الكريم، الشواهد التي يصعب حصرها.
أليس كل صانع أدرى بصنعته؟
فما بالك بالعليم الحكيم، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، ولذلك جاءت أحكام الشرع، تناسب الطبيعة الفسيولوجية للإنسان وجعل القدرة على الاختيار جبلية، وهذه خاصية لا تنسحب على كل المخلوقات؛ فعالم الحيوان، يختلف عن عالم النبات، وكل له مميزات، وتلك سنة كونية ثابتة لا تتبدل ولا تتحول.
ثم إن الإيمان لا يناقض العقل، ولا ينكر محوريته بل يجعل منه أداة للتبصر ووسيلة لمعرفة الخالق جل جلاله؛ يقول أبو حامد الغزالي في حجاجه لأهل الأهواء:”ما من ذرّة في السماء و الأرض إلا والله سبحانه وتعالى يضل بها من يشاء ويهدي بها من يشاء، فمن نظر في هذه الأمور من حيث إنها فعل الله تعالى وصنعه استفاد منه للمعرفة بجلال الله تعالى وعظمته واهتدى به، ومن نظر فيها قاصرا للنظر عليها من حيث تأثير بعضها في بعض لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب فقد شقي وارتدى فنعوذ بالله من الضلال، ونسأله أن يجنبنا مزلة أقدام الجهال بمنه وكرمه وفضله وجوده ورحمته”.
بالله عليكم ما قيمة فكر لا يرشد صاحبه لتعظيم الخالق وتعظيم شعائره وتحقيق التقوى بالامتثال رجاء الثواب والاجتناب خوف العقاب!
إن في كلام الله تعالى المعجز بيان الحق، قال الله تعالى: ﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألْبابِ﴾
﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾
﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾
﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكم فَآمَنّا رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ﴾
﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ .[آل عمران ١٩٠-١٩٤].
يقول صاحب التحرير والتنوير:”وقَوْلُهُ ﴿ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ عَطْفٌ مُرادِفٌ إنْ كانَ المُرادُ بِالذِّكْرِ فِيما سَبَقَ التَّفْكِيرَ، وإعادَتَهُ لِأجْلِ اخْتِلافِ المُتَفَكَّرِ فِيهِ، أوْ هو عَطْفٌ مُغايِرٌ إذا كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ يَذْكُرُونَ ذِكْرَ اللِّسانِ. والتَّفْكِيرُ عِبادَةٌ عَظِيمَةٌ. رَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في جامِعِ العُتْبِيَّةِ قالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْداءِ: ما كانَ شَأْنُ أبِي الدَّرْداءِ ؟ قالَتْ: كانَ أكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أتَرى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الأعْمالِ ؟ قالَ: نَعَمْ، هو اليَقِينُ”.
ثم إن الإيمان يمثل حياة القلوب، وروح الأبدان، والعيش بلا إيمان، نزع للروح عن البدن؛ فيعيش حياة بهيمية، يأكل ويشرب ويتكاثر، كما يحدث في عالم الحيوان، لا هدف ولا غاية ولا مقصد،
كيف يمكن للكون أن يوجد صدفة؟
وأصغر آلة وأقلها تعقيدا، تحتاج لصانع، فلو أراد ابن آدم سد حاجته للجوع، لاحتاج لاعداده أو تناوله بوسيلة ما.
يقول الغزالي في تهافت الفلاسفة:” إن القوة العقلية، غذائها ولذتها، في درك المعقولات؛ كما أن القوة الشهوانية، لذتها في نيل المشتهى؛ والقوة البصرية، لذتها في النظر إلى الصور الجميلة؛ وكذلك سائر القوى.
وإنما يمنعها من الاطلاع على المعقولات، البدن وشواغله، وحراسه، وشهواته.
والنفس الجاهلة في الحياة الدنيا، حقها أن تتألم بفوات لذة النفس، ولكن الاشتغال بالبدن، ينسيه نفسه، ويلهيه عن ألمه، كالخائف لا يحس بالألم، وكالخدر لا يحس بالنار، فإذا بقيت ناقصة، حتى انحط عنها شغل البدن، كان في صورة الخدر، إذا عرض على النار، فلا يحس بالألم، فإذا زال الخدر شعر بالألم العظيم دفعة واحدة هجوما.
والنفوس المدركة للمعقولات، قد تلتذ بها التذاذا خفيا، قاصرا عما تقتضيه طباعها، وذلك أيضا لشواغل البدن وأنس النفس بشهواتها”.
ولبيان حقيقة الإيمان في الاصطلاح يقول الإمام بن دقيق العيد:” الإيمان بالله: هو التصديق بأنه سبحانه موجود موصوف بصفات الجلال والكمال، منزه عن صفات النقص وأنه واحد حق صمد خالق جميع المخلوقات، متصرف فيما يشاء، يفعل في ملكه ما يريد”.
فالإيمان بالتنزيه يوافق تعظيم الكتاب العزيز وتصديقه في الغيبيات، والسير على طريق الحبيب الشفيع عليه الصلاة والسلام الذي بين أركان الإيمان؛ فعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-:{ الإِيمانُ: أنْ تُؤمن بِاللهِ ومَلائِكتِه، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخِرِ، وتُؤمن بِالقَدَرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ}.صحيح الجامع.
ولمن أراد سلوك سبيل العارفين، فعليه أن يعلم أن تعاليم الإسلام السمحة، تقوم على تحقيق مقاصد عامة، تكمن إجمالا في؛ التوحيد والعدل، فالله سبحانه وتعالى خلقنا لنعبده وحده، ونصرف كل أفعال التعبد إليه، وأمرنا بالعدل والإحسان، ليقوم الناس بالقسط، ولا يبغي أحد على أحد، ولهذا فكل أحكام الشريعة لا تخرج عن المقصدين السابقين؛ فالتوحيد جوهر العبادة، والعدل والإحسان قواعد التعامل بين الناس، فمن جمع بينهما حصل الحسنتين .. الدنيا والآخرة.
وأما من اختار غير مكره ولا مرغم طريق الجحود وكفر بالخالق بعد التمكين المطلوب من النظر وفق الكتاب المنظور ودلائل الكتاب المسطور فعليه تحمل العواقب ولو كان عمل وعمل …﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهْوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ .[المائدة ٧٢]
“وجُمْلَةُ ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمَلِ. والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ إباحَةَ تَزَوُّجِ نِساءِ أهْلِ الكِتابِ لا يَقْتَضِي تَزْكِيَةً لِحالِهِمْ، ولَكِنَّ ذَلِكَ تَيْسِيرٌ عَلى المُسْلِمِينَ. وقَدْ ذُكِرَ في سَبَبِ نُزُولِها أنَّ نِساءَ أهْلِ الكِتابِ قُلْنَ لَوْلا أنَّ اللَّهَ رَضِيَ دِينَنا لَمْ يُبِحْ لَكم نِكاحَنا.
والمُرادُ بِالإيمانِ الإيمانُ المَعْهُودُ وهو إيمانُ المُسْلِمِينَ الَّذِي بِسَبَبِهِ لُقِّبُوا بِالمُؤْمِنِينَ، فالكُفْرُ هُنا الكُفْرُ بِالرُّسُلِ، أيْ: يُنْكِرُ الإيمانَ، أيْ يُنْكِرُ ما يَقْتَضِيهِ الإيمانُ مِنَ المُعْتَقَداتِ، إذِ الإيمانُ صارَ لَقَبًا لِمَجْمُوعِ ما يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ.
والحَبْطُ بِسُكُونِ المُوَحَّدَةِ والحُبُوطُ: فَسادُ شَيْءٍ كانَ صالِحًا، ومِنهُ سُمِّيَ الحَبَطُ بِفَتْحَتَيْنِ مَرَضٌ يُصِيبُ الإبِلَ مِن جَرّاءِ أكْلِ الخُضَرِ في أوَّلِ الرَّبِيعِ فَتَنْتَفِخُ أمْعاؤُها ورُبَّما ماتَتْ. وفِعْلُ (حَبِطَ) يُؤْذِنُ بِأنَّ الحابِطَ كانَ صالِحًا فانْقَلَبَ إلى فَسادٍ. والمُرادُ مِنَ الفَسادِ هُنا الضَّياعُ والبُطْلانُ، وهو أشَدُّ الفَسادِ، فَدَلَّ فِعْلُ (حَبِطَ) عَلى أنَّ الأعْمالَ صالِحَةٌ، وحَذْفُ الوَصْفِ لِدَلالَةِ الفِعْلِ عَلَيْهِ. وهَذا تَشْبِيهٌ لِضَياعِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ بِفَسادِ الذَّواتِ النّافِعَةِ، ووَجْهُ الشَّبَهِ عَدَمُ انْتِفاعِ مُكْتَسِبِها مِنها. والمُرادُ ضَياعُ ثَوابِها وما يَتَرَقَّبُهُ العامِلُ مِنَ الجَزاءِ عَلَيْها والفَوْزِ بِها.
والمُرادُ التَّحْذِيرُ مِنَ الِارْتِدادِ عَنِ الإيمانِ، والتَّرْغِيبُ في الدُّخُولِ فِيهِ كَذَلِكَ لِيَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ أنَّهم لا تَنْفَعُهم قُرُباتُهم وأعْمالُهم، ويَعْلَمَ المُشْرِكُونَ ذَلِكَ”. المحرر الوجيز.
فالإيمان جوهر التقوى، والتقوى سر القبول؛
قال الله عَزَّ وجَلَّ -:
﴿واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِن أحَدِهِما ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِن الآخَرِ قالَ لأقْتُلَنَّكَ قالَ إنَّما يُتَقَبَّلْ اللهُ مِن المُتَّقِينَ﴾.[المائدة ٢٧-٢٩]. قال ابن عطية:” وإجْماعُ أهْلِ السُنَّةِ في مَعْنى هَذِهِ الألْفاظِ أنَّها اتِّقاءُ الشِرْكِ؛ فَمَنِ اتَّقاهُ وهو مُوَحِّدٌ فَأعْمالُهُ الَّتِي تَصْدُقُ فِيها نِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ؛ وأمّا المُتَّقِي لِلشِّرْكِ والمَعاصِي فَلَهُ الدَرَجَةُ العُلْيا مِنَ القَبُولِ؛ والحَتْمِ بِالرَحْمَةِ؛عُلِمَ ذَلِكَ بِإخْبارِ اللهِ تَعالى؛ لا أنْ ذَلِكَ يَجِبُ عَلى اللهِ تَعالى عَقْلًا”.
وأما اختصاص أهل الإيمان بالوعد بالرحمة فقد صرحت به النصوص القطعية الصريحة منها؛ قوله تعالى:.﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله إنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .[التوبة ٧١]وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ مُقابِلٌ قَوْلَهُ في المُنافِقِينَ فَنَسِيَهُمْ
والسِّينُ لِتَأْكِيدِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ في المُسْتَقْبَلِ، فَحَرْفُ الِاسْتِقْبالِ يُفِيدُ مَعَ المُضارِعِ ما تُفِيدُ قَدْ مَعَ الماضِي كَقَوْلِهِ: ﴿ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٥]
والإشارَةُ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ما سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الإشارَةِ صارُوا أحْرِياءَ بِهِ مِن أجْلِ الأوْصافِ المَذْكُورَةِ قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: أنَّهُ – تَعالى – لِعِزَّتِهِ يَنْفَعُ أوْلِياءَهُ وأنَّهُ لِحِكْمَتِهِ يَضَعُ الجَزاءَ لِمُسْتَحِقِّهِ”. التحرير والتنوير.
وأما قوله تعالى:﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ “يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصاً في الرحمة، وعموماً في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي: تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصاً في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموماً في الرحمة، وفي كل شيء ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم، وهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانت رحمة الدنيا، فهي أيضاً مختصة بهم لأنّ الله نصرهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم، وإن كانت على الإطلاق: فقوله: سأكتبها تخصيص للإطلاق ﴿وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغير هذه الأمّة” ذكره. ابن جزي الغرناطي المالكي.
“وعُلِمَ ذَلِكَ بِإخْبارِ اللهِ تَعالى؛ لا أنْ ذَلِكَ يَجِبُ عَلى اللهِ تَعالى عَقْلًا”. المحرر الوجيز.
“فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ العَظِيمَةُ تَخْتَصُّ بِالَّذِينَ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، وتَشْمَلُ الرُّسُلَ والأنْبِياءَ الَّذِينَ أخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِالإيمانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَكانُوا عالِمِينَ بِبَعْثَتِهِ يَقِينًا فَهم آمَنُوا بِهِ، وتَنَزَّلُوا مَنزِلَةَ مَنِ اتَّبَعَ ما جاءَ بِهِ، لِأنَّهُمُ اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ، وتَشْمَلُ المُسْلِمِينَ مِنَ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ غَيْرَ بَنِي إسْرائِيلَ لِأنَّهم سارُوا – مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ اليَهُودِ – في اتَباعِ الرَّسُولِ النَّبِيءِ الأُمِّيِّ”. التحرير والتنوير.
وأما قوله تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء ١٠٧]
فذلك لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت رحمة للعالمين وملاذا للمذنبين وإنظارا للكافرين ليوم الحساب، فمن شاء آمن ومن شاء كفر، لكن عليه أن يتحمل التبعات، فمن عرضت عليه سبل السعادة فأعرض عنها، وقدمت له أسباب الرحمة فنكص على عقبه فهو الملوم، لا سلامة الرسالة ومنهج التبليغ، إلا إذا لم تبلغه فعذره عند الله تعالى، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾. [ سورة الإسراء ].
يقول صاحب التحرير والتنوير:” ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ اللَّهَ لا يُؤاخِذُ النّاسَ إلّا بَعْدَ أنْ يُرْشِدَهم رَحْمَةً مِنهُ لَهم، وهي دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلى انْتِفاءِ مُؤاخَذَةِ أحَدٍ ما لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ إلى قَوْمِهِ”.
وأما كون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فهو واضح المعنى لمن تدبر؛
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾؛ يقول ابن جزي الغرناطي:”هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تشريف عظيم، وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول، والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة، ويحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره: أرسلناك راحمين للعالمين، أو يكون مفعولاً من أجله، والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة، فإن قيل: رحمة للعالمين عموم، والكفار لم يرحموا به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم، والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدّمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك”.
ويمكن وضع مسائل نقاش المسلمات في إطار الإلحاد بمعناه الخاص، إذ الواسع المتمثل في عدم الاعتقاد أو الإيمان بوجود الخالق، وبمعناه الضيق المتمثل في نقد الدين أو التشكيك في صدقيته، يعتبر المرض القاتل الذي يسري في جسد الأمة، ويضعف مناعتها الإيمانية بصفة متناقصة، تهدد علاقة البشر بخالقهم، وتهدم بناء الحياء من الله تعالى الخالق الرازق القادر المقتدر العظيم العليم.
وقد ظهر للاحاد مفهوم جديد هو الإنسلاخ من ربقة الدين؛ بمحاولة التشكيك في أحكامه، وادعاء التقدمية، واعتماد العلوم المجردة؛ للوصول إلى الحقيقة، والعكس صحيح، وقد تنامت هذه الظاهرة في الآونة الأخيرة، ولا تزال الأسباب قيد الدراسة، و المهم هو علاج هذا المرض الخبيث، المتمدد في جسم الأمة، وبيان الحجج والبراهين والأدلة على حقيقة الإيمان، ومواجهة الأفكار المنحرفة، ورد شباب الأمة إلى طريق الحق.
ولا جدال في أولوية حفظ الدين؛ باعتباره أصل الكليات، والحكمة من الخلق، والعلة من وجود البشرية؛ فالدين سبيل لمعرفة الخالق، وطريق للوصول لأحكام الشرع؛ الذي جاء ببيان ما تصلح به أحوال المكلف في العاجل والآجل.
ولما كان المقصد من الخطاب التكليفي تحقيق العبودية الحقة لرب العالمين؛ كان لزاما أن يتناول القواعد المنظمة لشؤون الدين، جمعا بين الحسنتين في الدنيا والآخرة، لذا يلاحظ عناية الشريعة الإسلامية ببناء الفرد المسلم، والحرص على بث روح التلاحم، وحب المؤمنين بعضهم البعض، ومنع الخلاف المفضي إلى التدابر، ونبذ الفرقة والحض على اجتماع الكلمة، والقيام بمهمة تبليغ دين الله تعالى على الوجه الأكمل.
ثم إن الحرص على نشر الدين الحق، والتمسك بالثوابت من الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة، وإعمال الفقه السديد المراعي لتنزلات الزمان والمكان؛ يمثل نشرا لروح الدين وجوهره.
وكذا إعمال المقاصد العامة للشريعة، التي تقوم على جلب المصالح، ودفع المضار، والمصالح المقصودة تلك المعتبرة شرعا، ومن أهمها حماية الثوابت الدينية المشتركة بين جميع أفراد الأمة، وأولاها بالعناية، الإيمان بالله تعالى، وصيانة ذالك التصديق عن شوائب الإلحاد والشك والضلال والشرك.
وحاصل الأمر أن حقيقة الدين الحق، تكمن في التصديق بدين الله تعالى، والاستسلام والخضوع لرب الأرض والسماوات، والشعور الوجداني القائم على الرحمة بالكائنات، والجمع بين صلاح الظاهر والباطن، والعلم بالأصول وفهم الوقائع، والجمع بين جوهر الدين وفقه الشريعة، والإيمان بالغيب واليقين بعالم الشهادة، والتحلي بالأخلاق المحمدية – صلوات الله وسلامه عليه- الفاضلة المتممة لمكارم الأخلاق، وانطواء النفس على محبة الخالق، والإحسان إلى الخلق.
ورعاية المعاني السامية الموصلة إلى صفاء الروح، ونقاء السريرة، وتخلية القلب من أمراض القلوب، وتحليته بالإيمان الصادق، وحب الخير للجميع، وتعليق القلوب بما عند الله تعالى، خير وأبقى من إشغالها بما لم تخلق له.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.