وهم القائلين بعموم الرؤية(1) / محمد الامين ولد آقه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه اجمعين.
وبعد :
في كل عام تقريبا تحدث بلبلة ولغط ؛ من طرف المنادين بعموم الرؤية واتباع الأهلة في البلدان النائية ..
وما حال من يصوم والناس مفطرون ؛ او يفطر والناس صائمون في بلده الا كحال المصلي وراء الصفوف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا صلاة لمنفرد خلف الصف “.
فانظر الى هذا الحال الذي آل اليه أتباع هذا المقال !
وليس ذلك لنصّ اتبعوه.. بل هو مجرّد فهم فهموه !!
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ
فليتك ثمّ ليتك ما فهمتَ!
هؤلاء يظنون بأنهم يأخذون بالدليل ويسلكون منهج الاتباع و التأصيل ..
ولو انهم رمقوا الادلة بالنظر السديد
وتجردوا -برهة – من التبعية والتقليد
لبان لهم ضعف القول الذي ذهبوا اليه ..وهشاشة الركن الذي اعتمدوا عليه ..
ولأدركوا أنه سراب لاح عليه خضاض فاغتر به من أناض !!
وان المنادي بالدليل دون اقتناص الفقه بالملكة ؛ ما هو الا فرّوج يصرخ مع الدِّيَكَة !
هكذا بعض الناس !
يتغنى باتباع الدليل ويشجب التقليد ؛وهو غارق في مستنقعه ومذبوح بسكينه من الوريد الى الوريد !!!
وقد أردت في هذه الحلقة من هذا الموضوع الفريد ، الاجابة على بعض التساؤلات طالبا من الله العون والتسديد :
***
1- هل يدل حديث كريب بالقطع على أن لكل أهل بلد رؤيتهم ؟
2- هل قول ابن عباس في حديث كريب : (هكذا امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) له حكم الرفع ؟
3- هل تفسير ابن عباس لحديث(صوموا لرؤيته) مقدم على تفسير غيره ؟
4- هل قول الصحابي يعتبر حجة ؟
5- هل مذهب ابن عباس في حديث كريب مخالف للنص ؟
واستعين بالله على الشروع في المقصود :
***
1- هل يدل حديث كريب بالقطع على أن لكل أهل بلد رؤيتهم ؟
—————————
من اوضح الادلة في هذه المسالة :
حديث كريب وفيه: أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريباً إلى معاوية بالشام فقدم المدينة من الشام في آخر الشهر فسأله ابن عباس عن الهلال فقال: رأيناه ليلة الجمعة فقال ابن عباس: لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقال: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والحديث رواه مسلم واصحاب السنن.
وهذا الحديث صريح في ان لكل اهل بلد رؤيتهم.
ولهذا بوب له الإمام النووي في شرح مسلم : “باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم”.
وبوب له الإمام الترمذي بقوله: ” باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم”.
وبوب له الإمام النسائي بقوله: ” اختلاف أهل الآفاق في الرؤية”.
و بوب له أبو بكر بن خزيمة بقوله: “باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة لرؤيتهم لا رؤية غيرهم”.
وقال ابن رشد :
(فظاهر هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيته)بداية المجتهد :(ص:231 /1)ط : دار الفكر.
وقال المباركفوري :
(هذا بظاهره يدل على أن لكل أهل بلد رؤيتهم ولا تكفي رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر) .تحفة الاحوذي (ص: 1/255)ط: دار الكتب العلمية.
****
2- هل قول ابن عباس في حديث كريب : (هكذا امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) له حكم الرفع ؟
——————-
لا ريب أن هذه صيغة صريحة في رفع هذا الحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا تحتمل الشك ولا التأويل وابن عباس رضي الله عنهما يعرف مدلول هذا اللفظ ويعرف خطورة نسبة شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل به .
وقد نص العلماء على قبول رفع صيغ دون هذه الصيغة بكثير مثل قول الصحابي : “من السنة” وقوله “أمرنا” وقوله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم : “كنا نرى” كقول جابر: “كنا نعزل والقرآن ينزل” ، فهذه الصيغ كلها يعطى لها حكم الرفع ،وقد أشار إلى ذلك العراقي في ألفية الحديث بقوله :
قول الصحابيّ “مِنَ السُّنّة” أو **
نحوُ “أُمِرْنا” حكمه الرفع ، ولو
بعد النبيّ قاله بأعصر **
على الصحيح ، وهو قول الأكثر
وقوله “كُنّا نَرَى” إن كان مَعْ**
عصر النبيّ مِنْ قَبيلِ ما رَفَعْ.
وهذه الصيغة التي ذكر ابن عباس في هذا لحديث ؛ نص الشيخ سيدي عبدو الله في المراقي على صيغة اضعف منها وبين ان لها حكم الرفع فقال :
ثم نهى او أمرا ..
إن لم يكن خيرَ الورى قد ذكرا .
أي : إذا قال الصحابي: امرنا او نهانا ولم يسمي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا له حكم الرفع لان الآمر لهم عادة هو النبي صلى الله عليه وسلم.
واما اذا قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يبقى شك في الرفع.
ولهذا صرح جمع من أهل العلم بان قول ابن عباس في هذا الحديث : “هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم” له حكم الرفع :
– قال الإمام أبو العباس القرطبي في ” المفهم على صحيح مسلم ” 🙁 و قول ابن عباس : “هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم”: تصريح برفع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم ، و بأمره به):( ص: 3/142).
– وقال صاحب عون المعبود :
( ابن عباس لم يعمل برؤية أهل الشام وقال في آخر الحديث هكذا أمرنا، فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر)عون المعبود (454/6)ط: المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
وهذ يدلك على عدم دقة الشوكاني حين قال : (ولم يأت ابن عباس بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمعنى لفظه حتى ننظر في عمومه وخصوصه إنما جاءنا بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام) نيل الاوطار (209/3)ط : دار الكتب العلمية.
وكذلك صديق حسن خان حين رد قول ابن عباس بقوله : (وأمَّا استدلال من استدل بحديث كريب …فغير صحيح ، لأنه لم يُصرّح ابن عبّاس بأنّ النّبيّ- صلى الله تعالى عليه وسلم- أمَرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عبّاس أنه أمرهم بإِكمال الثلاثين أو يروه، ظنّاً منه أنّ المراد بالرؤية رؤية أهل المحلّ ، وهذا خطأ في الاستدلال أوقع الناس في الخبط والخلط) الروضة الندية 295/1 ، ط: دار الكتب العلمية.
قلت: الذي او قع الناس في الخبط والخلط هو رد هذه الرواية الصريحة من كلام ابن عباس رضي الله عنه.
وليت شعرى ! إذا جاز لنا أن نرد قول ابن عباس الصريح بمثل هذا التأويل وهذه الدعوى ،فقد جاز لنا أن نرد الكثير من الأحاديث التي رفعها الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغة نفسها !
****
3- هل تفسير ابن عباس لحديث(صوموا لرؤيته) مقدم على تفسير غيره ؟
—————–
اذا اعتبرنا قول ابن عباس “هكذا امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم” غير مرفوع ؛ وأنه من باب الاجتهادِ والتفسيرِ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته)..بانه يعني ان لكل بلد رؤيته ..فيصوم كل بلد برؤيته دون رؤية غيره .
فاعلم أن ابن عباس من الصحابة الذين رووا هذا الحديث ..
والقاعدة أن الصحابي أدرى بمرويه من غيره فإذا روى حديثاً وفسره أو حمله على معنى من المعاني فإنه ينبغي الوقوف على ما ذهب إليه.
قال السمعاني : (وأما تفسير الراوي لأحد محتملي الخبر فيكون حجة في تفسير الخبر كالذي رواه ابن عمر أن المتبايعين بالخيار مالم يتفرقا ، وفسره بالتفريق بالأبدان لا بالأقوال فيكون أولى ، لأنه قد شاهد من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما عرف به مقاصده وكان تفسيره بمنزلة نقله) قواطع الأدلة ( 1/190 ).
أقول : كيف يطلب منا الغاء اجتهاد ابن عباس في تفسير حديث :”صوموا لرؤيته” و ابن عباس ادرى بهذا الحديث وأخبر بملابساته وقد تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وهو أعرف بمراد النبي صلى الله عليه وسلم منا ؟.
وهو-مع ذلك- ترجمان القرآن وحبر الامة الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال : “اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل” .
****
4- هل قول الصحابي يعتبر حجة ؟
——————————–
قول الصحابي واجتهاده يعتبر حجة اذا لم يخالفه صحابي آخر .
وقد قال ابن عاصم في “مرتقى الوصول” :
والقول ان يُرْوَ عن الصحابهْ
دون مخالف يَرَى اجتنابَهْ
ان كان عندهم من المنتشر
فهو بالاجماع السكوتيّ حري
او كان لم يَذِعْ فإنّ مالكا
يراه حجة فخذ بذلكا.
وقال ابن القيم في بيان حجية قول الصحابي : (وان لم يشتهر قوله او لم يعلم هل اشتهر ام لا ، فاختلف الناس هل يكون حجة ام لا ؟
فالذي عليه جمهور الامة انه حجة، هذا قول جمهور الحنفية ؛ صرّح به محمد بن الحسن ، وذكر عن أبي حنيفة نصّا وهو مذهب مالك وأصحابه وتصرّفه في موطئه دليل عليه وهو قول اسحاق بن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه واختيار جمهور أصحابه ، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه مقرون به وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة .
وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جداً ؛ فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة)
إعلام الموقعين (3/90) ط: دار الكتب العلمية.
والنص المنسوب الى ابي حنيفة هو قوله : ( ما بلغني عن صحابي أنه أفتى به فأقلده ولا أستجيز خلافه) انظر :شرح ادب القاضي للخصّاف ، مع شرح الحسام الشهيد، ص: 18، ط: دار الكتب العلمية.
وأما الشافعي فقد قال : (إنَّ أصل مذهبنا أنْ لا يُخَالَف الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلّا أن يخالفه غيره منهم). طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي (2/ 137) ط. اولى : دار إحياء الكتب العربية.
*****
5- هل قول ابن عباس في حديث كريب مخالف للنص ؟
———————————–
إذا روى الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا محتمل الدلالة فإن تفسيره لهذا الحديث مقدم على تفسير غيره كما نص على ذلك اهل العلم .
واما اذا كان الحديث نصا غير محتمل الدلالة وخالفه قول صحابي فهذه الحالة هي التي يقال فيها ان الصحابي تقدم روايته على رايه.
ولهذا لما اعتقد الشوكاني حديث “صوموا لرؤيته” نصا لا يحتمل الا وجها واحدا ؛ اعترض على قول ابن عباس المخالف لهذا الوجه فقال : (واعلم أن الحجَّة إِنِّما هي في المرفوع من رواية ابن عبّاس؛ لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس والمشار إِليه بقوله هكذا أمَرنا رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم)!!!
فاعتبر الشوكاني ان قول ابن عباس معارض للحديث الذي رواه !
وهذا التعارض بحسب فهم الشوكاني فقط ..
واما ابن عباس فإنه لا يرى تعارضا بين ما رواه وما رآه ..
والخطأ الذي وقع فيه المخالفون لقول ابن عباس هو ظنهم بان قوله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته” نصٌّ في دلالته على عموم الرؤية ولا يحتمل التأويل ..
وهذا بعيد من الواقع ..
فالقول بعموم الرؤية لم يرد صريحا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ،وإنما هو فهم فهمه بعض العلماء من هذا الحديث؛ الذي يمكن ان يكون الخطاب فيه موجها الى الامة بعمومها؛ ويمكن ان يكون موجها الى كل بلدة بخصوصها.
واذا كان الحديث لا يعتبر نصا في عموم الرؤية وهو مجمل ويحتاج الى البيان
فكيف يقال : إن ابن عباس خالف النصّ ؟!
وهل يعقل ان يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا صريحا ثم يخالفه باجتهاده ؟
قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله – في مسألة تعارض قول الراوي مع الحديث : (وإن ناقض عمله روايته، مع ذكره لها، ولم يحتمل محملًا في الجمع، فالذي أراه امتناع التعلق بروايته؛ فإنّه لا يظن بمن هو من أهل الرِّواية أن يعتمد مخالفة ما رواه إلّا عن ثَبَثٍ يوجب المخالفة)البرهان في أصول الفقه (1/ 442)ط. أولى: القطرية.
يتواصل ان شاء الله…