رئيس الجمهورية وخطاب إصلاح الإدارة / الحضرمي ولد محمد ولد انداه
تابعتُ بمزيج من الإعجاب والترقب خطاب فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني خلال حفل تخرج أكبر دفعة في تاريخ المدرسة الوطنية للإدارة من حيث الكم وتنوع التخصصات، وذكرني خطاب فخامته بجديته في الإصلاح واستشعاره لجسامة المسؤولية التي كلفه بها الشعب الموريتاني الذي يجله ويقدره ولا يساوم على مصالحه العامة، ولعل الجميع يدرك أن فخامته لم يترشح بحثا عن سلطة ولا مال ولا جاه بل كان دافعه معرفته بالبلد الذي خدمه حاميا لحماه وملبيا لندائه أنى ما دعاه، فكان الوفي بالعهود والساهر على أمن المواطنين وسلامتهم حين عجز الرئيس السابق عن تأدية مهامه الدستورية في حادثة مشهودة، فحرص من أول يوم قدم فيه برنامجه الطموح “تعهداتي” الذي آنس به المواطن جذوة أمل في نفق مسدود كاد يودي بدولة بناها أبناء بررة ورووها بدمائهم الزكية، وهو بالضبط ما عمل فخامته على ترسيخه بعد أن كادت تندثر قيم مجتمعنا النبيلة قبل استلامه مقاليد الأمور، فصان المال العام بتفعيل الهيئات الرقابية للدولة وإعطائها الإمكانيات والوسائل التي ستمكنها من الاضطلاع بمهامها على أكمل وجه لعمق إدراكه بأن الفساد بطبيعته مقوض لدعائم التنمية بهدره لموارد الدولة وتعطيله للمشاريع فضلا عن اخلاله بالتوزيع العادل للثروة مما جعله حريصا على تجفيف منابعه ومحاربة كل أشكاله مع التأكيد على مضاعفة الجهود والتركيز على إرساء حكامة رشيدة.
هذا وقد ظل فخامة رئيس الجمهورية في كل مرة يخاطب فيها شعبه حريصا على انتقاء عباراته والابتعاد عن قول ما لا يمكن الوفاء به كما سبق وأن استحضر ذلك لحظة الشروع في كتابة “تعهداته” التي شكلت بلسما لجراح غُبن غائرة ظلت تنخر جسد فئات وطننا الهشة، فكان خطابه في حفل التنصيب فرصة لاكتشاف قادة العالم لشخص فريد من نوعه يحكم بلدا موارده شحيحة، لكن بطموح أبنائه وتفانيهم في العمل وحنكة قادته السياسيين سيتخطى كل الصعاب بإذن الله، فخاطب الوفود الحاضرة ومن خلالهم المواطنين بل والعالم بأسره قائلا: “من هذا المقام الذي أتولى فيه رئاسة الجمهورية، استشعر أحاسيس ومشاعر أبناء وطني جميعا وهو ما يجعلني أدرك ثقل هذه المسؤولية وأقدرها حق تقديرها، إنها مسؤولية بحجم الآمال والطموحات المشروعة لكل فرد من هذا الشعب العزيز في الظفر بأسباب العيش الكريم والاطمئنان على حاضره ومستقبله، إنها مسؤولية بقدر واجبنا اتجاه أجيالنا القادمة لتوريثها وطنا يحقق لها شروط الأمن والسعادة ويذكي فيها بواعث الفخر بالانتماء إليه، إنها مسؤولية بمستوى المكانة التي نتطلع إلى أن يحتلها بلدنا وشعبنا حاضرا ومستقبلا بين بلدان وشعوب العالم”.
لذلك فمن غير المستغرب أن يخاطب فخامة رئيس الجمهورية صناع الحاضر وقادة المستقبل بنبرة الواثق من نفسه الساعي إلى الإصلاح بلغة يفهمها المواطن البسيط الذي من أجله تحمل فخامته مسئولية قيادة البلد، مهنئا الخريجين ومستنهضا هممهم، قائلا إنهم سيشكلون إسهاما كبيرا في سبيل مد الإدارة بالكادر البشري المؤهل والمهني فضلا عن تمكين الشباب من الولوج لمراكز القرار ومنح الإدارة نفسا جديدا يرفع من ديناميكيتها ومستوى أدائها العام.
ولعل مخاطبته لكبار مسؤولي الإدارة العامة الذين تمت دعوتهم لهذا الغرض دليل قاطع على سعيه الجاد لإصلاح الإدارة التي قال عنها في أكثر من مرة “إنه لم يعد من المقبول إلا أن تكون أقرب إلى المواطن وأكثر إصغاء له وأسرع في الرد عليه وحل مشاكله، ويجب أن يكون المواطن قادرا على إجراء معاملاته الإدارية بسلاسة ويسر والحصول على ما يحتاجه من إيضاحات واستيفاء ما له من حقوق بكرامة وسرعة وبحكم كونه مواطنا لا غير”، من هذا المنطلق -عزيزي القارئ- يمكن أن يتنزل تأكيد فخامته على ضرورة العمل الجاد في مجال إصلاح الإدارة وجعلها أقرب للمواطن وأكثر إصغاء له بردها السريع على تساؤلاته ومشاكله التي يطرحها عليها لأن الغاية والمبتغى منها هو حل مشاكله، ونجاحها منوط بمدى تسهيلها لمعاملاته وتمكينه من استيفاء حقوقه وسرعة وسهولة وسلاسة التعامل معه بما يضمن كرامته، قائلا إن العدد الهائل الذي تستقبله مؤسسة رئاسة الجمهورية من رسائل المواطنين وتظلماتهم من بينها مشاكل بسيطة لسهولة التغلب عليها لو أن الإدارة اهتمت بذلك، لكن إهمالها المتكرر لطلباتهم هوما جعلهم يفقدون الثقة فيها ويلجؤون للرئاسة التي سخرت موظفين لتنبيه الإدارة وتذكيرها بمشاكلهم وهو ما لا ينبغي يقول فخامة رئيس الجمهورية حيث إنه آن الأوان لأن نبني إدارة عصرية وفعالة تتمحور حول خدمة المواطن وتكون رافعة للتطور والنمو لأنه لم يعد من المقبول الاستمرار في تلك المسلكيات.
وفي معرض تناوله لأداء الوزارات قال فخامة رئيس الجمهورية إنه من غير الوارد انعدام جهات لاستقبال المواطنين وتوجيههم إلى الإدارة أو المؤسسات التي هم بصدد التوجه إليها لحل مشاكلهم أو طرحها على الأقل رغم الاستثناءات، لكن يجب تعميم ذلك على جميع الوزارات مؤكدا على ضرورة ألا يتسم التعامل مع المواطنين بالمزاجية والتباطؤ والتراخي في الرد على المراجعين منهم ولا في ضعف الرقابة على الموظفين وحضورهم في الوزارة، معطيا أمثلة بإدارات العقارات والإسكان التي قال فخامته إن حقوق المواطنين تضيع فيها نتيجة تداخل القطع الأرضية الممنوحة وتعدد المنح لها، فضلا عن المخططات العمرانية التي لا تستقر على حال وكأنها شفرة لا يراد لها أن تفكك وهو ما لا ينبغي، كما أن الشبهات الكبيرة في التقديرات الجزافية للضرائب وتركها تتراكم على من استحقت عليهم حتى تصل حدا تعجيزيا لا يمكن سدادها معه هي الأخرى لم تعد مقبولة.
وأشار فخامته إلى أن المؤسسات العمومية الخدمية أيضا لم تسلم من استهداف المواطن والتضييق عليه كما هو حال شركة المياه من خلال الانقطاعات المفاجئة والحجز على العداد دون إنذار مسبق للمواطن والتي غالبا ما تكون مع بداية عطلة نهاية الأسبوع، كي يتضرر ويحس بأنه معاقب مؤكدا أن ذلك حتى ولو كان في إطار العمل يجب أن يقرن بإحساس المواطن بأن هذه المؤسسة التي تقدم له الخدمة تحترم كرامته من خلال إشعارها له قبل أن تضيق عليه، وأشار فخامته إلى أن الأخطاء الجسيمة في الفوترة وسوء التعامل مع من حدثت لهم تلك الأخطاء، فضلا عن غياب التواصل مع الزبون بشكل مناسب وتراكم الفواتير حتى تصل مبلغا لا يمكن معه سدادها مسلكيات طبعت تعامل بعض الشركات الخدمية خصوصا شركتي الماء والكهرباء، مشيرا في الوقت ذاته إلى الإجراءات المتخذة في سبيل التغلب على تلك الاختلالات.
وفي معرض حديثه عن الحالة المدنية قال فخامته إن صعوبة حصول المواطن على التسجيل أو استصدار مستخرج قد يمضي ثلاثة أيام أو أسابيع قبل أن يحصل عليه لم يعد مقبولا لأنه لا فائدة من الرقمنة إذا لم تعجل الأمور وتضبطها، وذكَّر فخامته أن اتصال الإدارة الإقليمية بالمواطنين ضعيف جدا وزيارات الولاة في ولاياتهم نادرة الحدوث مما يترتب عليه قلة الصلة بالمواطن وعدم الاطلاع على ظروفه وبالتالي خلق قطيعة أو ما يشبهها بين المواطن والإدارة التي ينبغي عليها أن تطلع على أحواله بشكل يومي، كما أن نقص المراقبة على المصالح المعنية بالخدمة العمومية الجهوية كمصالح الصحة والتعليم والحالة المدنية والمياه والكهرباء سيساعد فيه المسؤولون في الولاية عن هذه المصالح التي ينبغي أن تكون صلتهم بها ومراقبتهم لها بصفة دورية لتقريب الخدمة من المواطن، كما أشار فخامته إلى أن تأخير البت في قرارات بسيطة جدا والتأجيل الدائم للبت في النزاعات العقارية وفي أراض غير مأهولة أو أخرى غير مستغلة وفي نقاط المياه والأمور الملحة التي تدخل في صميم عمل الإدارة كي تظهر حيادا لغرض الإيحاء بأن الولاية لا تظهر فيها مشكلة ليس مطلبا بل ينبغي السعي في حل تلك المشاكل، وهو ما سيتيح لبلدنا التغلب على النواقص التي ظلت تعيق النهوض به.
لذلك -عزيزي القارئ- لا يمكن أن يصنف خطاب فخامة رئيس الجمهورية هذا إلا في خانة التدشين الفعلي لمرحلة جديدة عنوانها الصراحة والمكاشفة سبيلا لإصلاح الإدارة المنشود، والذي تبناه فخامته من أول يوم استلم فيه مقاليد الحكم وما فتئ يكرره ويعمل على تذليل الصعوبات التي تحول دون تطبيقه على أرض الواقع ممن لا يريدون خيرا لهذا البلد وما فتئوا يتربصون به الدوائر، لكن لا عذر لمتخلف عن ركب الإصلاح بعد اليوم لأن قطاره انطلق وسفينة العبور بالبلد لن يركبها إلا مصلح جاد في خدمة وطنه بعيدا عن الانتماءات العرقية والشرائحية الضيقة.