آراء وتحليلات

روسيا والصين.. عوامل التقارب وعقبات التحالف/ عماد الدين فارس

قال العالم الأمريكي جوزيف ناي: “مع انهيار الاتحاد السوفييتي، انتهى ذلك التحالف الفعلي بين الولايات المتحدة والصين، وبدأ التقارب بين الصين وروسيا”.

إلا أن هذا التقارب “الروسي الصيني” يوصف بأنه معقد، حيث شهدت العلاقات بين الجارين الكبيرين تاريخاً حافلاً من التقلبات بين التحالف والتنافس وصولاً إلى صدامات حدودية دفعت أكبر دولتين شيوعيتين في العالم إلى حافة الحرب سنة 1969.

وقد قال “ديمتري روجوزين” زعيم حزب رودينا القومي، والرئيس السابق للشؤون الخارجية في مجلس الدوما، إن الخطر الأساسي على روسيا مصدره الجنوب (الصين) وليس الغرب.

وقد وقعت أولى الخلافات بين البلدين على الحدود، عام 1858، عندما ضمّت روسيا نهر أمور، الذي يعد خط الحدود بين البلدين، إلى منطقتها الجغرافية، ومنذ تلك الفترة والتوتر دائم بين الدولتين، ولم تنته الخلافات إلا عام 1991 باتفاقية بين الاتحاد السوفيتي (وريثته روسيا) والصين حول ترسيم الحدود.

وبموجب هذا الترسيم حصلت روسيا على 1163 جزيرة، والصين على 1281 جزيرة، إلا أن هذه الحدود بطولها البالغ 4300 كم لاتزال مصدر قلق للدولتين النوويتين، لأسباب عدة، أبرزها أن روسيا ترى أنها لم تحصل على حقها في الجزر المتنازع عليها، وأن القوة البشرية الصينية الهائلة المرابطة على الجانب الآخر من حدودها تهدد أمنها الديموغرافي.

وبالعودة إلى علاقات البلدين خلال القرن الماضي نجد أنه مع صعود الاتحاد السوفيتي بصفته قوة عظمى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، تلقت الصين -التي تبنت النظام الشيوعي- مساعدات تنموية كبيرة من موسكو، وتبادل البلدان التمثيل الديبلوماسي في 1949.

دخلت العلاقات بين موسكو وبكين مرحلة جيدة، لكنها سرعان ما توترت عندما قرر الاتحاد السوفيتي في مطلع الستينيات قطع المساعدات عن الصين إبان نزاعهما على الحدود الذي كاد أن يشعل حرباً عالمية ثالثة، ما أدخل الأخيرة في حالة من التراجع الاقتصادي والبطالة والفقر.

تعاون اضطراري

وفي تسعينيات القرن الماضي وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالقرار الدولي وانحسار الدور الروسي في العالم حتى كاد يُنسى، أدرك الروس أن التخلي عن الصين كان “خطأً تاريخياً”، وسرعان ما أصبحت بكين الشريك الاقتصادي والسياسي الحقيقي لروسيا المفككة، وزاد التعاون الاقتصادي بشكل كبير، كما نشأت شراكة عسكرية جديدة بين الجانبين.

ومع مطلع القرن الحالي شهدت العلاقات بين الجانبين تطوراً متنامياً على المستوى الاقتصادي والتنموي بالدرجة الأولى، والعسكري والسياسي بدرجة أقل، فالحاجة الصينية للطاقة والسلاح والطرق والأسواق، والحاجة الروسية للبضائع والأيدي العاملة والتكنولوجيا الصينية، نشأ عنها تطور في العلاقة بدأ منذ نحو عقد ونصف.

كما أن عوامل أخرى تتعلق بأمن واستقرار المجال الحيوي المشترك والحدود المشتركة الهائلة بين الجانبين تجعل من تطور العلاقات بينهما متاحاً على الدوام، وقد صار هذا التعاون ضرورة لا بد منها وإن كان لا يرغب به الطرفان أو أحدهما.

وجاءت سياسات الضغوط والعقوبات الأميركية تجاه الصين وروسيا لتشكل عاملاً جديداً من ضرورات العوامل التي دفعت الجانبين إلى تعزيز علاقاتهما وإنشاء أطر ثنائية وإقليمية وحتى دولية رديفة للأطر التقليدية، كما فعلا حين أسسا منظمة شنغهاي التي تضم إلى جانب روسيا والصين دولاً من آسيا الوسطى وهي: طاجيكستان، أوزبكستان، كازخستان وقيرغيزستان.

وقد عمل الطرفان على جعل العقوبات الأميركية فرصة للتمدد الاقتصادي والتجاري، وتشير مؤشرات العلاقة الاقتصادية بين الجانبين في اتجاه إيجابي، ويبرز ذلك بتوقيع اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية، والتعاون الرقمي، وإطلاق مشاريع البنية التحتية الداخلية والمشتركة، وتعزيز قطاع المشاريع المالية المشتركة، والغاز الطبيعي، بالإضافة لمشاريع الممرات البرية والبحرية كمشروع “ممر بحر الشمال”.

ويعد مشروع “خط قوة سيبيريا” الذي وقع الطرفان على إنشائه، عام 2014، وقيمته 400 مليار دولار، لتصدير الغاز الروسي نحو الصين، واحداً من أكبر مشاريع الطاقة في شرق آسيا.

وتمثلت العلاقة العسكرية بين الجانبين بسلسلة من المناورات المشتركة، حيث شهد عام 2016 مناورة كبرى تدربت فيها قوات روسية وصينية على عمليات استيلاء على جزر في بحر الصين الجنوبي، وهذا يعني تهديداً مباشراً لمصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة التي تشهد توتراً ملحوظاً بين الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي من جهة والصين من جهة.

أما على الساحة الدولية، تشهد العلاقة زيادة ملحوظة في التضامن، وهو ما يبرز في مجلس الأمن، خاصة في مواجهة سياسة العقوبات الغربية، والرغبة في الحد من التفرد الأميركي في قيادة العالم وتأثيراته على اقتصادها أولاً، وربما يكون هذا أهم ما يشغل بال الصين وتريد الحد منه عبر سلسلة إجراءات تتخذها، من ضمنها التقارب مع روسيا، للضغط على واشنطن، كما يشترك الجانبان في رفضهما للتدخل الغربي في المجال الحيوي الخاص بهما في مناطق شرق آسيا وجنوب شرق آسيا والقوقاز وشرق أوروبا.

التحالف مستحيل

رغم هذا التقارب والتنامي الكبير في العلاقات بين الجانبين، فإنه لا يلغي “التعقيد”، إذ إنه ثمة محدودية لا يمكن تجاوزها، وتخوفات متبادلة، بالإضافة لفجوة كبيرة في المقومات، وهو ما يبقي على التباين في الرؤية الإستراتيجية للقوتين حاضراً في أذهان صناع القرار في البلدين.

فإن لدى روسيا جملة من التخوفات حول مستقبل العلاقة مع الصين، تستند إلى التنافس بينهما في آسيا الوسطى، ومنطقة الشرق الأقصى، ففي آسيا الوسطى، يتسارع إيقاع التمدد الصيني في منطقة نفوذ روسية تقليدية.

وفي الشرق الأقصى تراقب موسكو بارتياب طبيعة تسلح الصين، التي تملك أكبر قوة دبابات في العالم، وهو ما يعطي إشارة بأن العقل الاستراتيجي الصيني ما زال يعتبر أن الجوار البري (روسيا) هو مصدر التهديد الرئيسي له.

ورغم أن الصين استوردت أسلحة ومعدات عسكرية روسية بقيمة 26 مليار دولار ما بين 1992 و2006، إلا أن هذا الاعتماد الصيني على التكنولوجيا العسكرية الروسية تقلص، وأطلقت الصين في عام 2017 جيلها الخامس من مقاتلات تشنغدوJ-20 التي تروج بكين إلى تفوقها تقنياً على المقاتلات الروسية سوخوي سو -57، مما يهدد سوق تصدير روسي رئيسي، كما يهدد سمعة موسكو العسكرية وينذر باستغناء بعض الدول عن السلاح الروسي وتوجهها نحو الصين في المستقبل المنظور، كما تعزز بكين قوتها البحرية بشكل كبير في الوقت الراهن بمعزل عن موسكو.

كما أن طموحات بكين في القطب الشمالي تشكل مصدراً آخر للقلق في موسكو، ورغم أن روسيا هي من استجلبت اهتمام الصين بالمنطقة، فإن لهجة القادم الجديد تتصاعد حول “حقوق” له هناك.

أضف إلى ذلك أن طبيعة الاقتصاد الصيني المعتمد على الصناعات المحلية والتجارة الخارجية يختلف في بنيته عن الاقتصاد الروسي الذي تشكل فيه قطاعات الطاقة والبتروكيماويات ركيزة أساسية، في وقت ترى فيه الصين أن السوق الروسية محدودة مقارنة بالأسواق الغربية والآسيوية، ناهيك عن رغبة الصين بالسيطرة على ثروات روسيا، وقد فعلت جزءاً من ذلك فعلاً عبر عمالها الذين تغص بهم سيبيريا والشرق الأقصى داخل الأراضي الروسية.

وعسكرياً لا يمكن لروسيا ولا الصين دعم الاحتياجات الاستراتيجية للطرف الآخر، فالتهديد الأساسي الذي يواجه الصين قادم من البحر، والقدرة البحرية الروسية محدودة وغير قادرة على تلبية الاحتياج الذاتي وسد ثغراته، هذا إن كان ثمة رغبة روسية أساساً في الدفاع عن الصين فيما لو تعرضت الأخيرة لهجوم بحري تراه الصين وشيكاً قادماً من البحر والمحيط، خصوصاً بعد أن شكلت واشنطن حلف “أوكوس” مع بريطانيا وأستراليا.

كما أن الاعتمادية التجارية التي تحكم العلاقة الأميركية الصينية لا وجود لها في حالة روسيا، بل يقابلها إدراك أميركي بأن موسكو تمثل الحلقة الأضعف في المعادلة بين القوى الثلاث، وهذا ما يدعم موقف الصين على حساب روسيا في أي مفاوضات بينهما.

وفي عام 2013 اختار الرئيس الصيني شي جين بينغ الكشف عن مبادرته “الحزام والطريق” – وهو مشروع بنية تحتية عملاق لربط بكين بالعالم على غرار طريق الحرير القديم – في العاصمة الكازاخستانية أستانا بدلاً من موسكو، ورغم دلالة الخطوة، وحديث البعض عن تهميش الصين لروسيا، فإن التعاون الصيني الروسي استمرّ، حتى في إطار مبادرة “الحزام والطريق”.

وبالرغم وجود ترتيبات روسية- صينية في ملف آسيا الوسطى، تنص على تقسيم العمل بين البلدين، ففي حين تتوسع الصين اقتصاديًّا فيها، تضمن روسيا أمن المنطقة، إلا أن مصالح روسيا والصين تتعارض في كثير من الأحيان، وخصوصاً في هذا الملف، بينما تتفق حين يتعلق الأمر بمواجهة النفوذ الأمريكي.

وهذا قد يقوي التقارب الصيني الروسي في مواجهة الولايات المتحدة أحياناً إلا أنه يثير مخاوف روسيا وقلقها المستمر من تغول الصين وسيطرتها الاقتصادية التامة على مناطق نفوذ روسيا الحيوي في دول آسيا الوسطى وأوربا الشرقية فضلاً عن سيطرتها على روسيا نفسها، في ظل التفوق الاقتصادي الصيني والضعف الروسي.

ورغم كل عوامل التقارب وعقبات التحالف بين البلدين، فإنه وبحسب مارك جالويوتي، الخبير في الشأن الروسي: “روسيا والصين تريدان بوضوح إزاحة نقاط التنافس والخلاف جانبًا، والاستفادة القصوى من مواضع التعاون الاقتصادي، لكن ملف آسيا الوسطى يعد قنبلة موقوتة، وأي خلاف صغير بين البلدين في هذه المنطقة، قد يتحول لأسباب بسيطة، لأزمة كبيرة بينهما”.

خلاصة

في ضوء هذه التناقضات التي تميز العلاقات الروسية الصينية هل تأمن روسيا على نفسها من التنين الصيني الذي يسعى للسيطرة على العالم كله، وخصوصاً أن المصالح الاقتصادية الأمريكية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصين القادمة من الشرق تلتهم دول العالم كلها بمنتجاتها وصناعاتها، حتى زاحمت الاقتصاد الأمريكي في أمريكا نفسها، فأي مصلحة لأمريكا مع روسيا الضعيفة في الوقت الذي تجد فيه مصالحها كلها مع الصين “زعيم العالم المرتقب”.

ومن المتوقع أن يواجه مسار العلاقات بين الطرفين تحديات تتعلق بالتنافس الاستراتيجي على النفوذ في المجال الحيوي المشترك، والتباين في طبيعة القوة ومستقبلها.

وإن طبيعة النمو الصيني وتصاعد دور بكين في السياسة الدولية يختلف عن طبيعة الدور الروسي وحجم تأثيره الحالي والمستقبلي، نظراً لفارق المقومات بين الجانبين، وهذا ما يدفعنا للقول إن قطباً صينياً قد تشرق شمسه على العالم قريباً.

وإن المشكلة الديموغرافية التي تتعرض لها كل من: روسيا والصين ماهي إلّا تأكيد على العبارة الرائجة، والتي تجسد هذه المشكلة بدقة من خلال التوصيف القائل: إن روسيا أرض تحتاج إلى شعب، والصين شعب يحتاج إلى أرض.

وإن مثل هذه المعادلة قد تمثل حدثاً خطيراً قد يقلب موازين الأمن والاستقرار في المنطقة، خصوصاً في ظل الانخفاض الكبير بمعدل السكان بالنسبة لروسيا يقابله الارتفاع الكبير والمتنامي في عدد سكان الصين الذي يتزايد بشكل كبير جداً بحيث سيقترب في عام 2050م من ملياري نسمة.

وقد اتهم الرئيس السابق للشؤون الخارجية في مجلس الدوما الصين بالتخطيط للاستيلاء على سيبيريا الجنوبية عبر الغزو البشري، وإن لم يكن بالقوة، وفي عام 2006م، طلب بوضع قوانين جديدة تساعد روسيا على الحماية والسيطرة على حدودها، للحد من تدفق الصينيين الذي أصبح وجودهم داخل الاراضي الروسية يمثل مصدر قلق بالنسبة لروسيا.

فهل ترى الصين كل هذه المساحات الشاسعة في روسيا خِلواً من السكان وفيها كل هذا الخيرات والثروات وتتركها لتمد عينيها إلى وراء المحيطات والبحار، خصوصاً أننا نرى بعضاً من القوميين الروس من يقول إنّ هذه المسألة تشكّل خطراً وتهديداً لروسيا من باب: أن الانفجار السكاني الصيني لا بد وأن يدفع الصين في مرحلة من المراحل إلى التمدّد الجغرافي، فتكون روسيا هي الضحية!

إذن هل سنشهد في المستقبل القريب تحالفاً حقيقاً بين الصين وروسيا أم أننا على عتبة صراع حتمي بين قوة اقتصادية لا تتسع أرضها لشعبها وبين جارتها التي تعيش تحت وطأة الفقر وسيف العقوبات وقلة عدد السكان؟

كاتب سوري

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى