صعب عليّ أن أفهم.. / محمد فال ولد سيدي ميله
في سنة 2018، أحصت صحيفة واشنطن بوست 1900 كذبة للرئيس الأمريكي دونالد اترمب خلال العام الأول من مأموريته بمعدل 185 كذبة كل شهر. الأمر الذي استغله باراك أوبوما، داعما المرشح جو بايدن خلال الحملة الرئاسية الأخيرة، قائلا ان “الديمقراطية لا يمكن أن تنجح مع رئيس يكذب”. وبالفعل كادت الولايات المتحدة تتطاحن، بينيا، في مشهد رهيب غير مسبوق في الديمقراطيات بسبب الأضاليل التي بثها رئيسُها، فصدّقها أنصاره، وراح ضحيتها السلم والاستقرار ومبادئ الشفافية.
من أجمل القيم التي يتحلى بها الرؤساء أن يصارحوا شعوبهم بحقيقة الأوضاع حتى ولو كانت سيئة، لأن المصارحة بالحقيقة تدفع الشعب إلى العمل، وتدفع المصالح الحكومية إلى التدبير، وتعطي المصداقية للشركاء ورأس المال الأجنبي الذي يفر أمام كذب الحكومات.
والحقيقة أنه ليس من صفة الزعيم أن يكذب على شعبه. فالشفافية مبدأ جوهري في الحكامة، ومن أهم مقتضياتها أن يُطلع الرئيسُ شعبَه على حقيقة ما يجري في البلاد بكل صدق. وكم حيّرتنا الضجة التي أعقبت قول الرئيس، أمام الجالية الموريتانية في إسبانيا، ان “البلاد فقيرة”. فهل كانوا يريدون له أن يكذب؟ أم أنهم تعودوا على كذب الرؤساء إلى درجة جعلت صدقهم مذمة؟.. أمر غريب، صعبٌ عليّ أن أفهم دواعيه، فبدلا من تثمين شفافية وصدق الرئيس، انهال عليه بعضهم بالتسفيه وكأن الصدق أصبح، في قاموسنا، مأخذا..!!.
منذ آدولف هتلير وأكاذيب النازيين، أصبح الكذب شيمة للطغاة والدكتاتوريين وحدهم.. وفي بلادنا سمعنا رؤساء تحدثوا، في أحلك الليالي، عن تصدير موريتانيا للكهرباء إلى جاراتها!! حينها لم ينبس الفايسبوكيون ببنت لثة، لكنهم اليوم يملأون الفضاء ضجيجا لأن رئيسهم قال بأن بلدا فقيرا، مثل موريتانيا، يحتاج إلى سواعد الشباب في الداخل وفي الشتات!!..
ربما لم يعلم هؤلاء أن الكذب كثيرا ما أضر بزعماء العالم، وكثيرا ما أضر كذب زعماء العالم ببلدانهم. لذلك حاربت بعض الشعوب كذب السياسيين. وكان الفرنسيون سباقين إلى هذا النهج باستحداث مجموعة من الصحفيين لـ “جائزة الكذب السياسي”، وهي “تكريم” فكاهي يُمنح لصاحب أشهر كذبة يتم تسجيلها في أوساط الطبقة السياسية الفرنسية. وكان من سوء حظ نيكولا ساركوزي أنه أول من حصد هذه الجائزة في فبراير 2015 “تكريما” له على كذباته الـ 17 خلال حملة الترشح لرئاسة حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية (وسط اليمين). فيما كانت “الفتاة” مارين لوبين، زعيمة حزب الجبهة الوطنية، بأقصى اليمين، ثاني من يحصل عليها، سنة 2016، “تكريما” لها على ما ادعته من فريات “حمراء” حول الهجرة. إنه الكذب السياسي المربك للعملية التنمية والمبيد لمصداقية الدولة. لذلك تحاشاه الكثير من عظماء القادة، خاصة نلسون مانديلا إذ لم يكذب أبدا على شعبه، فأحبه الناس وتعلقوا به، وبالتالي قفزت جنوب إفريقيا في عهده لأنه أوضح للجماهير، في عديد المرات، أن “أوضاع البلاد تدهورت بسبب ضعف الانسجام الوطني وغياب الأمن وسوء التسيير وانعدام السياسات التنموية الرشيدة”، فكانت تلك المصارحات الشهيرة أكبر مشجع للشعب على تغيير العقليات ونبذ الكسل وانطلاق التسيير الجاد، لتصل جنوب إفريقيا، على إثر ذلك، إلى ما هي عليه اليوم من تقدم ورفاه جعلاها في طليعة كل المؤشرات التنموية والاقتصادية والصناعية في القارة السمراء.
غريب أمر من حطموا مسامعنا بالضجيج بعد إعلان الرئيس أن موريتانيا بلد فقير. ومتى كانت غنية؟ وهل يعني مجرد التصريح بهذه الحقيقة أن الأمل مات؟ وهل يعني أن باطن الأرض لا يطمر أثمن المعادن وأكثرها ارتباطا بالثراء؟ وهل يعني أننا غدا لن نستطيع الوقوف والشموخ ورفع التحديات؟..
موريتانيا فقيرة.. كانت فقيرة.. لم تزل فقيرة.. إنه تحصيل حاصل، لكن ذلك لا يعني أن الأوضاع ستظل كذلك، وإنما يعني أن علينا أن نعمل من أجل تغييرها.. ففقر موريتانيا لا يعود إلى تصريح الرئيس، وإنما يعود إلى حقيقة اقتصادية تنموية تاريخية تؤكدها الأرقام وتدعمها جميع تصنيفات الهيئات المالية الدولية. مؤسف جدا أن ينفخ الفايسبوكيون في الصور لمجرد أن الرئيس صدَق وتحرّى الصدق أمام شعبه ليدفعه إلى العمل، بيد أن جلودهم لم تقشعر أبدا أمام كذبة “ملعب يتسع لـ 30 ألف متفرج في نواكشوط”، ولم يعلقوا بكلمة واحدة على كذبة “مشروع السكر لتشغيل 12 ألف عامل”، ولم يولوا أي اهتمام لكذبة “أكبر مسجد في غرب أفريقيا يستوعب 15 ألف من المصلين”، ولم يشجبوا، ولو على استحياء، كذبة “كلية العلوم البيطرية بكيفه”، ولم يتناولوا بشطر كلمة كذبة “أطول برج في موريتانيا يتكون من 18 طابقا”، ولم يعبأوا بكذبة “جسر كارافور مدريد”، ولم يتهكموا، وهم المتهكمون، على كذبة “مصنع تركيب الطائرات” التي حطمت الأرقام القياسية لكل أكاذيب الرؤساء…
أن يكون الميزان العقلي لبعضنا متعطلا، أمر في غاية المرارة، لكن الأمرّ أن يكون عطبه على مستوى المكابح، لأنه بذلك سيفقد السيطرة على صوابه ويطلق الأحكام جزافا قبل أن يحلل ويستوعب ويستخلص. وفي المُحَصّلة، فإنه لا يمكن لعقل ميزانُه سليم أن يستاء من صدق رئيسه، أحرى أن يفضل رئيسا يكذب ليفتح باب الأمل، ومن ثم الكسل، على رئيس يصدق ليدفعنا إلى الواقعية، ومن ثم العمل.