قصة ضابطين موريتانيين أسقط العدو طائرتهما في الصحراء يرويها أحدهما – تستحق القراءة
بمناسبة ذكرى 16 مارس، تترجم صحيفة نواكشوط لقرائها محضرا نادرا كتبه الملازم أول الملاح محفوظ ولد جدو في شهر يوليو سنة 1977 حول سقوط الطائرة العسكرية التي كانت تقله والرائد محمد عبد القادر (كادير) عندما كانا يطاردان بها مفرزة من قوات البوليساريو المنسحبة من هجوم لها على مدينة ازويرات خلال ما بات يعرف بـ”حرب الصحراء”.
.
نذكر هنا أن كاتب المحضر، الملازم أول محفوظ، توفي في حادث تحطم طائرة عسكرية سنة 1996 على مشارف نواذيبو حين كان ملاحا برتبة عقيد، وأن كادير الذي كان رائدا إبان كتابة المحضر، أعدم سنة 1981 وهو حينها برتية عقيد.
كما نذكر أن هذا المحضر السري، الفريد من نوعه، كان موجها لوزير الدفاع قائد القوات المسلحة الموريتانية، وقد نشر باللغة الفرنسية، قبل سنوات، على موقع “اكريديم” من قبل شخص لم نتبين هويته.
وللتعريف بكاتب المحضر، فهو العقيد الشجاع، المعروف في أوساط الجيش الموريتاني بـ “افــّـال محفوظ”، (إسمه الكامل: محفوظ ولد سعد بوه ولد جدو)، المنحدر من مدينة المذرذره، وسَمِـيّ جده لأمه محفوظ ولد ألمين احد رجالات المقاومة المشهورين
…………………………………..
المحضر:
يشرفني أن أطلعكم على ما يلي:
بدأت الأمور في صبيحة يوم السبت 16 يوليو 1977. كنت في قاعدتي العسكرية بمدينة أطار عندما علمنا بالهجوم على مدينة ازويرات.
كنت على أهبة الاستعداد، وقد اتخذ الرائد كل التدابير من أجل دعم جوي للفيالق الصديقة المشتبكة مع العدو. عِـلما بأن الرائد كادير، القادم من نواكشوط على متن طائرة اسكيفان، حط عند الساعة الـ 11 و10 دقائق.
النقيب انجاي جاكْ اعتلى طائرة اسكيفان باتجاه ازويرات حيث سيحمل من هناك بعض الجرحى. أنا والرائد كادير حلــّـقنا بالطائرة بعد أن ربطنا الاتصال بالوحدات الموجودة في حالة اشتباك.
في حدود الـ 13 حلقنا فوق الوحدات الصديقة في الجنوب الشرقي لمدينة ازويرات متتبعين آثار العدو. قال لنا الأصدقاء، عبر جهاز اللاسلكي، انهم فقدوا الاتصال المباشر بالعدو.
وفي أحوال جوية غير مواتية، بحثنا عن آثار الأعداء خلال ساعتين على الأقل حتى وصلنا إلى أقصى الحدود المخولة لنا. عدنا أدراجنا، لنحلق من جديد عند الساعة الـ 16 و30 دقيقة. كانت الأحوال الجوية جد سيئة. بعد نصف ساعة من البحث استطعنا العثور على آثار الأعداء المتوجهين نحو تورين.
أرغمتنا الظروف على التحليق لمسافة منخفظة (غير عالية) كي نحافظ على رؤية الآثار. بعد ساعة من إقلاعنا، أي حوالي الساعة الـ 17 و30 دقيقة، وجدنا العدو كامنا في واد.
صحتُ على الرائد: “الحذر، الحذر، إنهم في الواد”. وقبل أن نقوم بأية خطوة، مهما كانت، تعرضت طائرتنا لوابل من أعيرة 18-8. تمكنا من التحليق بالطائرة المعطوبة على علو أكبر بقليل. تواصل الرائد مع المسؤولين في الوحدات الصديقة وقال لهم:”نحن في مواجهة مع العدو، وسنحدد لكم مواقعه في اللحظات القادمة”. وبالطبع لم نحدد تلك المواقع أبدا.
عندما كان الرائد عند الجهاز ليقدم الرسالة المطلوبة، أخذتُ الخريطة وبدأت أبحث عن موقعنا عليها، غير أن انفجارا ضخما مفاجئا وقع في مكان مّا من الطائرة، فاهتزت بشكل عنيف وبدأت تسقط عموديا نحو الأرض. إلا أننا نجحنا في السيطرة على توازنها وهي في حالة سقوط.. كانت النيران تجتاح المقصورة الخلفية، وكان اللهب يتقدم سريعا نحو مقصورة القيادة.
حدث ثغب كبير مباشرة وراء مقعدي. سقط المحرك الأيمن، وكان الجانب الأيسر خاويا، ولاحظنا أن مساعدنا، الجندي من الرتبة الثانية، أحمد ولد محمد عبد الله، لم يعد في الطائرة. بمعنى أن الصاروخ الذي أحدث الانفجار دخل من الجانب الأيسر وحمل معه الجندي الثمين الذي كان جالسا وراءنا. لم يبق غير المحرك الأيسر المتقد وحده كما لو أنه لم يعد مربوطا ببقية الطائرة.
عمـّـت النيران على المقصورة كلها وكافة أرجاء الطائرة التي أصبحت مجرد شعلة محلقة في الهواء. بدأنا في كفاح مزدوج: من جهة ضد النار التي تصر على ابتلاعنا، ومن جهة ضد الطائرة التي تتهاوى عموديا نحو الأرض.
وأخيرا وصلنا الأرض. تدحرجت الطائرة على مدى ثوان قبل أن تتوقف نهائيا. أدت قوة الصدمة بالأرض إلى فتح باب الطائرة تلقائيا. حاولتُ، بدون جدوى، أخذ قنينة ماء كانت بجانبي، إلا أن ألسنة النار منعتني. خرجنا مسرعين من الطائرة التي انفجرت كليا بعد ثوان قليلة من خروجنا.
أخذنا نعدو عَـدْواً أشبه ما يكون بأبطال الألعاب الأولمبية.. ابتعدنا عن الحطام. رأينا سيارة للعدو تنزل من قمة الجبل متوجهة نحو الطائرة. صرخ الرائد في وجهي قائلا: “انبطحْ، ولا تــُـحدث أية حركة”.
دارت السيارة حول الطائرة، ورأينا سيارات أخرى تنزل نحوها. أصبح الدخان المنبعث من الحريق أكبر، وأصبحنا نرى عددا أكبر من الأعداء يدورون بالطائرة على طريقة الهنود. هنا دخلنا مرحلة حاسمة من هذه المغامرة: مرحلة الصياد والطريدة المجروحة. اصطف الأعداء وتقدموا باتجاهنا. عشنا دقائق مأساوية.
وببطء اقتربت السيارات منا. لم يكن لدينا ما نفعله سوى الانتظار. لكن، انتظار ماذا؟. هنا حدثت المعجزة. كانوا يبعدون منا أقل من 300 متر على مساحة منبسطة.
وفي الوقت المطلوب حل بنا العامل المنقذ لحياتنا: الرياح المحملة بالأتربة. عصفت الرياح حاملة معها الأتربة والغبار، فغطتنا تماما. بعد دقيقة، استدار العدو وواصلت الرياح عصفها مخفية إيانا عنه.
نظرتُ إلى ساعتي. كانت تشير إلى الـ 18 و15 دقيقة. لم تبق إلا ساعتين قبل حلول الليل. عند حلول الظلام حَبـَـوْتُ نحو الرائد. كان على بعد 5 أمتار مني. ضمني إليه بحرارة، قائلا: “تشجـّـعْ صغيري، سوف ننجو”.
كنت واثقا تماما من نفسي ومن قائدي الذي أعرف أنه رجل شهم. ابتعدنا من الحطام لمسافة 3 كيلومترات على الأقل. في الظلام الدامس بدأنا نتلمس الأشياء ونتحسسها.
وجدنا نبتة يعرفها الرائد. قمنا بمص أوراقها آملين أن نجد بها القليل من السوائل. قال لي الرائد: “إسمع صغيري، لقد نجونا من كل المطبات التي واجهتنا حتى الآن، ولا يوجد أي سبب لعدم تمكننا من تجاوز البقية.
ومن المؤكد أن أصدقاءنا أعلنوا حالة استنفار من أجلنا ووضعوا كل وسائلهم بغية معرفة ما حل بنا”. أفهمني الرائد أن وسيلتنا الوحيدة للنجاة هي حطام طائرتنا. بعد ذلك استلقينا، لكننا لم ننم طبعا.
عند ساعات الفجر الأولى وقفنا، كنا نرى الحطام من بعيد. بعد الفطور (قطعة من السكر كانت في جيب بزتي، كسرناها وتقاسمناها) توجهنا إلى الطائرة.
لم يكن هناك أي أثر للحياة. كانت الرياح تعصف بشكل رهيب.
تجولنا حول الحطام عسانا نحصل على وعاء من الماء كان بداخلها. كانت الساعة تشير إلى الـ 8 و30 دقيقة. كنا نخشى الألغام ونخشى أن يكون العدو أعد كمينا غير بعيد.
كان العدو قد حمل معه أجزاء من هيكل الطائرة المتحطم، وكتب شعارات على بعض الأجزاء المتبقية، من قبيل: “لا سلام، لا أمان”.
ورغم احتمال أن يكون العدو وضع ألغاما بالقرب من الطائرة، فقد قررنا القيام بجولة تعرّف في المحيط القريب. أثناء تلك الجولة عثرنا على جثة أحد الجنود الأعداء، وعلى مسافة منها عثرنا على حاملة الصواريخ اليسرى لطائرتنا. حاولنا إشعال النار أملا في أن يشد الدخان انتباه أصحابنا عساهم يكتشفون مكاننا. أشعلنا النار في الإطار الأيمن للطائرة الذي نجا وحده من الحريق، غير أن رياحا عصفة منعت الدخان من الارتفاع على علو كبير وفرقته قريبا من سطح الأرض. لم تكن الشمس حارة، وكانت الرياح، رغم قوتها، تساعدنا بقليل من البرودة. كان الأمل يحدونا مما أنسانا العطش الذي بدأنا نحسه بالفعل. في حدود الـ 9 توجهنا إلى مرتفع ظنا منا أننا سنرى مساحات أكثر من المنطقة. بعد مسيرة طويلة (لأننا أسأنا تقدير مسافة المرتفع منا) وصلنا القمة. هنا تفرقنا. طلع الرائد فوق القمة لمراقبة المنطقة، ونزلت أنا في الواد لعلي أجد قنينة ماء نسيّها الأعداء أو أعثر على بئر غير بعيدة. خاب أملي كليا. لم أعد أرى الرائد.
ربما كان على الجهة الأخرى من القمة. بعد فترة وجيزة التحق بي الرائد. لم يكلم أي منا الآخر إذ لا جدوى من ذلك لأن أحوالنا مقروءة بوضوح على وجهيْـنا. هنيهة، طلب مني أن نلتحق بمكان تحطم الطائرة.
نظرة خاطفة على ساعتي تشير إلى الـ 10 و30 دقيقة. بدأت حرارة الصحاري تضرب بعنف. هنا انطلقتْ أقسى رحلاتنا، لأننا استهلكنا 80 في المئة من طاقتنا. كنا نشعر أننا كلما اقتربنا من حطام الطائرة كلما ابتعد منا. مع ذلك وصلناها لنسقط خائري القوى بجانبها. جلس كل واحد منا على حدة تحت ما تبقى من جناحي الطائرة أملا في القليل من الظل. اشتد حر الشمس. وأكثر من أي وقت مضى، أصبحنا نشعر جديا بوقع العطش. أخذ التعب يشل أعضاءنا. لكننا حافظنا على بقية من أمل. كنا ننتظر مسألة ما. كان لابد من أن يستجد جديد. من أين؟ كيف؟ متى؟ لا نعرف، لكننا كنا ننتظر والساعة تشير إلى الـ 13 و45 دقيقة.
فجأة سمعتُ أحدا يصرخ: “افــّــال، إنهم هناك. الأصدقاء هناك”. لم أعرف من أين أتت هذه الصرخة. استبدت بي قوة خارقة أخرجتي من تحت جناح الطائرة. هل هو حلم؟ هل تحققت معجزة أخرى؟ لا يمكنني أن أقتنع. مع ذلك كانت الطائرات تحوم فوقنا. خرجنا نجري ملوّحين بمناشف عندنا كنا نحتمي بها من الغبار. رأونا؟ لم يرونا؟: إنهما السؤالان اللذان يجوبان ذهني. رأينا الطائرات تبتعد، وتبتعد. أصبحت صغيرة، فأصغر. في هذا الوقت بالتحديد فهمت أن حظوظنا أصبحت، على شاكلة الطائرات، صغيرة فأصغر. عدنا إلى مخبأيْــنا دون أن يكلم أحدنا الآخر. كنا مغلوبيـْـن على أمرنا وفاقديـْـن كل أمل. كان من المستحيل على جسميْـنا أن يبقيا في وضعية أو أخرى. كانت الحرارة تغزوني من الداخل. أصبحتْ حنجرتي جافة تماما ومليئة بالأتربة. انسدت المناخر بالحصا. هذه الرياح المحملة بالأتربة، التي أنقذتنا بأعجوبة بالأمس بتغطيتنا عن الأعداء، تأتي اليوم لتكون كارثة علينا. كنت أحبذ الموت على أن أسقط أسيرا بين يدي أعدائنا. والحقيقة أنه لابد من نهاية لكل شيء. لقد كافحنا حتى النهاية، وها نحن نبلغ النهاية. لقد تعاملنا بعزة وشرف مع القضية التي ندافع عنها.
والآن انتهى الكفاح، ولم يعد بمقدورنا أن نتصرف. عندما تأكدتُ أن نهايتنا اقتربت، أخرجت جواز سفري واستخدمت آخر ما لدي من قوة جسدية وعقلية لأكتب لشعبي الرسالة التالية: “مثل العديد من رفاقنا، سقطنا في ساحة الشرف، ساعين للحفاظ على مصالح وكرامة الشعب الموريتاني، ومن أجل وحدته الوطنية. فليجعل الله تضحياتنا مثالا لكل الرجال المسكونين بالعدالة والسلام. إننا في الطريق إلى أن نخسر معركة، لكن شعبنا سيربح الحرب”.
كنت فخورا بنفسي، ولم أكن أهتم كثيرا بالذي سيعثر على جـثـتيـْـنا: عَدُواً كان أم صديقا. كنت أفكر في مدى الإرادة التي تحدو أبناء موريتانيا وإلى أي حد يمكنهم أن يصلوا. وإذا ما عثر أصدقاؤنا على جثتيـْـنا سيعلم شعبنا أن أبناءه سقطوا بعزة وكبرياء.
بعد الرسالة والأفكار التي شغلتني، غرقت في غياهب العدم. لم أعد أحس بأي ألم، بأي عطش، بأي تعب. كم أمضيت على هذه الحال؟ الله أعلم. بقيت هكذا في حالة إغماء إلى أن سمعت صوتا بعيدا كأنه قادم من بين طيات الأرض. مستحيل، إن أصدقاءنا هنا، أمام ناظريّ. وسمعتُ رجالا يصرخون: “إنهم أحياء.. إنهم أحياء”.
وهكذا أسدل الستار على كابوسنا
من صفحة Moctar Bah Aidelhe