الأخبار

الدكتور بدي المرابطي في افتتاح المؤتمر العلمي الدولي “المدارس الدينية التقليدية في المغرب العربي وإكراهات التحول العولمي”

كلمة الدكتور بدي المرابطي مدير معهد الراسات الأبستمولوجية في بروكسيل في افتتاح المؤتمر العلمي الدولي “المدارس الدينية التقليدية في المغرب العربي وإكراهات التحول العولمي”
جامعة القرويين – مؤسسة الدار الحسنية للحديث
الرباط : 16 مارس 2022

معالي السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد التوفيق
سعادة السيد رئيس جامعة القرويين الدكتور آمال جلال
سعادة السيد مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية الدكتور أحمد شملالي

السادة العلماء الأجلاء الأستاذات والدكتورات والأساتذة الدكاترة الأفاضل،
الطالبات والطلاب الكرام
أيتها السيدات أيها السادة،

أود أن أتوجه إليكم جميعا منظمين وباحثين مشاركين وضيوف شرف وحضورا كريمًا بالشكرالجزيل،
كما تعرفون يكتسي مؤتمرنا العلمي هذا أهمية خاصة في السياق الراهن عبر عدد من الميزات ننوه من بينها استهلالاً بالرمزية المزدوجة لتنظيم هذا المؤتمر بالشراكة مع جامعة القرويين وتحديداً مع مؤسسة الدار الحسنية للحديث. إنها من جهة رمزية عبق التريخ والوفاء لعقود وأجيال من التعليم العتيق والعريق ورمزية التجدد واستنفار المعارف والمناهج المختلفة في تفاعلها وتكاملها، وبالتالي العمل على المساهمة بفاعلية في صياغة القيم الروحية والأخلاقية في العالم.

 

وأنوه هنا بشكل خاص بحرصكم الحثيث في هذه المؤسسة على استنفار ما كان يسمى بعلوم الآلة عبر مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، وبحرصكم بنفس المعنى ونفس الأسباب على أن تستعيد العلوم الاسلامية ألقها وأن تصبح من جديد وجهة للطالبات والطلبة المتميزين وذوي القدرات العلمية الاستثائية عكسا لما أصبح عليه حال توجيه الطلبة في أغلب البلدان الاسلامية.

والواقع أن تجربة التربية والتعليم في المملكة المغربية وفي عموم بلدان المغرب الخمس تشكل اليوم مجال اهتمام كبير للباحثين لأسباب عديدة أحدها أنها لم تعرف القطائع التي حجّمت وأحيانا دمّرت المجالات التي كان يطلق عليها علوم الآلة والتي شهدتْ كما تعرفون تراكما وتطويرا استثائيا جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وظلتْ الجسر الذي يربط العلوم الإسلامية الدينية بمختلف العلوم الأخرى ويسمح باستنفار علوم اللسان وما يرتبط بها بلاغة ومنطقا بل واستنفار محاور من العلوم التي أصبحنا نسميها البحتة.

 

فكما تعرفون كانت علوم الآلة كما يوحي به اسمها آلة أو أدوات للتعامل مع النصوص المنزلة ومن ثم فإنها شكّلتْ فضاء الإنسانيات الذي تحركتْ فيه العلوم الدينية وجسر التكامل المعرفي الذي يمكن أن يربطها بالتطورات بل بالطفرات المعرفية المعاصرة والراهنة والتي بقدرما فرضتْ تخصصية كبيرة في مراحل معينة بقدرما أصبحتْ تعبّر عن حاجتها إلى تجسير الهوة بين الحقول المعرفية المختلفة فيما أصبح يعرف بالتعددية التخصصية وبالبيتخصصية.

 

وكما أن بعض المؤسسات التعليمية المغاربية عرفت مستوى ما متزايد من التفاعل بين العلوم الدينية والعلوم الإنسانية والاجتماعية وإن بنسب وعلائق وخرائط مؤسسية وأكاديمية تختلف من بلد إلى آخر بل وتختلف من مؤسسة جامعية أو غير جامعية إلى أخرى داخل البلد نفسه عرف أيضا بعضها إقبالا كبيرا من مختلف الطلبة المهتمين بالدراسات الدينية الاسلامية في العالم. وهي ظاهرة أخذت في السنوات الأخيرة منحى جديدا. فقد تحول كثيرون من الطامحين لتكوين ديني من القادمين من آسيا وافريقيا وغيرهما عن وجهتهم التقليدية في مصر والشرق الأوسط إلى بلدان المغرب، إنها ظاهرة ربما تعني تحولا يحتاج منا إلى العناية والدراسة.

 

أيتها السيدات الفاضلات أيها السادة الأفاضل،
ندرك أهمية العمل على استعادة التعليم الديني ألقه وانفتاحه على التطفرات المعرفية الحالية وقدرته على استقطاب الطالبات والطلبة الأكثر تميزاً، ندركه حين نتأمل الخريطة الدعوية والفوضى التي عرفتها في العقود الأخيرة، وما نتج عن ذلك على أكثر من صعيد. ليس لأن التكريس الإعلامي والاديلوجي أبعد المعاييير العلمية لصالح الضجيج الدعائي وقدرته على النفاذ إلى عقول ومشاعر الأجيال الجديدة التي دفعتها الثقافة الرأسمالية التسليعية المهيمنة عالميا إلى أن تميل تلقائيا إلى البحث عن سوق استهلاك كهنوتية، تبحث عن مواقف وفتاوى جاهزة للاستهلاك، تبحث عن ready to wear or to think أو prêt à porter ou à penser بل أيضا لأن التكوين الإسلامي الديني في كثير بلدان العالم قد تمّ إفقاره معرفيا ولم يُـبعد فقط عن الطفرات العلمية الحديثة والمعاصرة بل أبعد أيضا وبدرجة ربما أكثر عن فضاء إنسانياته أي عن مرتكزاته الموسوعية التي تشكلت عبر القرون.

 

إن هذه الظاهرة تعيدنا إلى تلك الملاحظة التي قدمها ابن رشد في مختصره لمستصفى الغزالي، مختصره المعروف بالضروي في أصول الفقه. ففي مقدمته يُعرّف المجتهد بأنه الفقيه. ولكنه في آخر الكتاب بعد أن يعرض لاشكاليات الاجتهاد والتقليد يقوم بمناقشة وضعية من يسمون في زمانه بالفقهاء فيخلص مفارقياً إلى أنهم مقلدون فيقول ” وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون. والفرق بين هؤلاء وبين العوام أنهم يحفظون الآراء التي للمحتهدين فيخبرون عنها العوام، من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد، فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين. ولو وقفوا في هذا لكان الأمر أشبه ولكن فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم حكم على ما نقل عنه في ذلك حكم ، فيجعلون أصلا ما ليس بأصل، ويصيرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم وكفى بهذا ضلالا وبدعة”
بعبارة أخرى أصبح التعامل مع الفروع كأنها أصول وأصبج بحسبه المعنى العرفي لكلمة فقيه في زمانه يتناقض حصرا مع معناها الاصطلاحي عند أهل الفن كما كان يقال او أهل الاختصاص كما يقال راهنيا.

 

ويمكن أن نعيد التأمل في مثل هذه الملاحظة من زاوية ما آل أليه وضع التكوين الديني في كثير من بلدان العالم الإسلامي وما رافق ذلك من تسليع دعائي للخطاب الأيديولوجيي الذي يقدم بقوة الضخ الإعلامي باعتبار الأخير يقدّم نفسه كحامل للمعنى القيمي والروحي والديني.

 

أيتها السيدات أيها السادة،
كما تعرفون إن قضية الاجتهاد والتقليد التي ناقشتها العلوم الإسلامية بشكل عام مطولا، وناقشها علم أصول الفقه بشكل خاص، وصارت جزءا من مباحثه بإسهاب، كانت تناقش في أجواء كان فيها المتعلمون ذوي طابع موسوعي غالبا يزاوجون بين علوم الملة وعلوم الآلة ولكنهم يشكلون أقلية بشكل عام داخل المجتمع، وهم الذي كانت تطلق عليهم أو على بعضهم صفة ‘الخاصّة’ في مقابل “العامة”. وبالتالي كان الإشكال مطروحا بالنسبة لمجتمعات أغلبها غير متعلم. الإشكال بالنسبة لنا اليوم أصبح مختلفا كثيرا، لأن المتعلمين القادرين على القراءة والكتابة زاد عددهم، ولكن علاقتهم بالأدوات التخصصية التي تمنحهم التعامل مع النصوص الدينية قد تراجعت ليس فقط -مثلا- لدى عموم قراء اللغة العربية القادرين على القراءة والكتابة بالعربية، ولكن حتى لدى المختصين سواء في العلوم البحتة أو العلوم الإنسانية، وهو ما لم يكن الحال عليه قديما لدى المختصين، لأن الدراسات الإسلامية الدينية كانت جزءا من المعارف العمومية لأصحاب الفنون داخل الحضارة الإسلامية حتى لدى غير المسلمين، ولأن علوم الآلة كانت أيضا جزءا من الخريطة العلمية المشتركة لدى المتعلمين.

 

وبالتالي فالإشكال الآن بالنسبة للتقليد والاحتهاد لم يعد صادرا عن ثنائية المتعلم وغير المتعلم ؛ وينطبق هذا بشكل خاص على الجاليات المسلمة في الغرب التي هي بشكل عام جاليات متعلمة.

 

والإشكال الثاني أن العربية لم تعد اللغة العالمة المشتركة لدى أغلب المسلمين خارج العالم العربي. أغلب مفاهيم الخاصة والعامة والمجتهد والمقلد صيغت في فترة كانت فيها العربية هي اللغة العالمة للطبقات المتعلمة في عموم المجتمعات الإسلامية بغض النظر عن انتماءاتها العرقية والجهوية.

 

بينما قد صار من نتائج ما عُرف بالوطنيات الحديثة والتحولات الحديثة بشكل عام، أن العربية كلغة عالمة أصبحت خاصة بالناطقين بها (العالم العربي وجالياته) وهو عالم لا يمثل الآن -إحصائيا – إلا ما يزيد قليلا 15% من المسلمين في العالم، فالأقلية الإسلامية في الهند (كدولة لا أقصد عموم شبه القارة الهندية) عددها يناهز أو يزيد على كل مسلمي العالم العربي، وبالتالي الإشكاليات الديمغرافية تغيرت كثيرا. هذه الأقليات الإسلامية في الهند أو مسلمي باكستان وإندونيسيا ومسلمي تركيا ومسلمي البوسنا أو جنوب الصحراء في إفريقيا أو الجاليات الإسلامية في العالم غير الإسلامي ؛ هذه المجتمعات الإسلامية والجاليات الإسلامية لقرون عديدة كانت لغتها العالمة -ليس فقط لدى الطبقات المتعلمة- بشكل عام هي العربية، وذلك كان أيضا مرتبطا بأن العلوم الدينية كانت جزءا أساسيا مما يتعلمه مختلف الذين حصلوا على امتياز القراءة والكتابة في هذه المجتمعات. لم يعد الحال كذلك؛ أصبحت لديهم لغات عالِمة أخرى إما محلية أو لغات أوروبية انتشرت في الحقبة الاستعمارية كما هو حال عديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء وعدد من دول آسيا التي تستعمل الإنجليزية أو الفرنسية أو البرتغالية والإسبانية كلغة عالمة. هذه الوضعية نقلتْ قضية الاجتهاد وإشكالية الاجتهاد والتقليد من مفرداتها التي اعتمد عليها الذين ناقشوها تاريخيا إلى مفردات مغايرة تماما تحتاج منا إلى أن نناقشها نقاشا مختلفا.

 

لنضرب على ذلك مثالا واحدا من أمثلة عديدة ممكنة، إذا أخذنا علوم الحديث سنجد مثلا أن موطأ مالك بن أنس، أو أن صحيح البخاري أو صحيح مسلم أو السنن إلى آخره ربما كانت توجد من كل واحد منها نسخة واحدة في كل ولاية أو منطقة شاسعة لدى عالم أو فقيه أو إمام إلى آخره، وهو المتخصص الذي ربما يجيب على أسئلة المؤمنين الذين لديهم أسئلة بهذا الخصوص في ذلك المكان بصفته مختصا أو تقني نصوص.

 

الإشكال الآن أن هذه الكتب الآن أصبحت متوفرة لدى كل قارئ، ليس فقط بالعربية، ولكن بأغلب لغات العالم، وبزر في الكومبيوتر يستطيع أن يقرأها بدون أن يكون قد تمكن من تكوين الأدوات التأويلية والتفسيرية، سواء تلك التي طورتها جيلا بعد جيل، وقرون بعد قرون العلوم الإسلامية وعلوم الآلة التي كانت توظفها هذه العلوم الدينية الإسلامية، ودون أن يكون يتمتع من باب أحرى بالأدوات التفسيرية والتأويلية والمنطقية الحديثة.

 

وفي حالات معينة يمكن أن يكون لديه أدوات حديثة، ولكنها لا تأخذ بعين الاعتبار هذه الأدوات التي تطورت قرونا بعد قرون، والتي يمكن أن نسميها بالآليات التي سمحت بالانتقال من الأنثروبولوجيا الخاصة بسياق ما إلى انتروبالوجيات مختلفة جذرية.

 

أيتها السيدات أيها السادة،
إن الواقع الذي سمح بصياغة عدد كبير من المفاهيم التي كانت تبنْيِنُ العقل التأويلي لدى المدارس الدينية في العالم الإ سلامي قد تغير وبالتالي إن هذه المفاهيم حتى لا تموت أي حتى لا تفقد كل محتوى يحيل إلى واقع يلزم أن تتغير.

 

هنالك عدد كبير من الآليات المعرفية والمنهجية التي تحتاج منا إلى مراجعة جدية، والمزاوجة بين المناهج التي تشكلت قرنا بعد قرن والمناهج الحديثة لا يمكن أن يكون لا إجتزائيا ولا انتقائيا، ولكنه يحتاج فهما نقديا مزدوجا، وبالتالي إلى ماما يسمى بالعلوم المعرفية بقراءة منعكسة لكل مبدأ منهجي تسمح باستثماره وتسمح في نفس الوقت بمراجعته، بما يسمح بإدراك أعمق لهذه الأدوات التاريخية التي تشكّلتْ وبإدراك قدرة هذه الأدوات إذا استُثمرتْ نقديا ليس فقط على أن تستفيد من الأدوات الحديثة، ولكن على أن تشارك نفسها في تطوير هذه الأدوات الحديثة.
وبالتأكيد أن هذا الندة ستساعد إنشاء الله في هذا المضمار عبر استقراء التجارب التعليم الديني في البلدان المغاربية في في أفق ما تعنيه في انغراسها التاريخي وفي انفتاحها النقدي واقعا أو إمكانا على الطفرات المعرفية الراهنة.

أشكركم.

 

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى