ثقافة

شنقيط جوهرة الصحراء/ الولي طه

 

مقال كتبتُه للعدد الأول من يومية مدائن التراث

بين الرمال الذهبية والجبال المُتأبِّية الشامخة في قلب الصحراء شُموخًا يمنحُ الفضاءَ دفءً وسكينةً وخشوعا وجلالا مهيبا…. جَنبَ واحات النخيل الجميلة الغناء المِعطاء بانتكمْكمْتْ، وتندوعْلي، والتوراتنْ، وآبّير بنخيله، وتندوجه، وأغفرَرْتْ، ولعكيله، والزر القِبْلي.
بين هيْبةِ ذاك الجلال ورهبته، وجاذبيةِ هذا الجمال ومتعته، تتربع مدينة شنقيط، تربُّع الحكيم المُطرِقِ المُتَأمِّلِ في تجارب الأزمان، وحوادث السنين، المُعتَزِّ بمغالَبَةِ الخُطوبِ والشدائد، الخارج من معارك الدهور بكامل زاده المعنوي شرفًا وكرامةً وشمَمًا وإباءً.
مدينة شنقيط مازالت إلى اليوم تحمل جلائلَ التاريخ ونفائِسَه على أكتافها، ورغم كل المطبات والصعاب لم تقبل أن تتركه وراءَها كومَ رماد، بل ما يزال هذا التاريخ في أرجائها حيا يتنفس برئتيْهِ، بين المئذنة والمحراب و “الحَجْرة” وفي رفوف المكتبات، وعتيقات المباني.
هنا عاش أسلافٌ من الطراز الرفيع، طوّعوا فدافِدَ الصحراء وقُحولتَها وركبوا الأهوال للتمكين للإنسان في بيئة لم تكن ذَلُولا في يوم من الأيام لتحقيق هذا المطلب.
فأسسوا مُدُنًا في هذه الربوع انزَوَوْا بها للعلم والتعلُّم، والإعمار، لَمُّوا بها شَعَثَ الصحراء، وانطلقت منها أنوارُ العلم والإيمان نحو عوالم البَدوِ المُتَأبِّين على الاستقرار، المُتّخِذينَ من ظُهور العيسِ مَأْلَفًا يُعين على دوام التقويضِ والتطنيبِ في تَعَسُّفِ مجهُولاتِ البيدِ والفقار.
فاستطاعت أنوارُ العلم المنبعثةُ من هذه المدن أن تضيءَ دواخلَ أؤلئك البُداة المتفرقين في جوارها وجوار جوارها، وتحولَهم حمَلَةَ علمٍ غزير، وتُثبتَ لهم -في نموذج فريد- أن العلمَ ربيبُ الإنسان المهْتمّ، وليس بالضرورة الإنسانَ المتمدن، فأصبح من مألوفات القوم أن تَرى الجمالَ المُحَمّلةَ بصناديق الكتب تسير مُتّئِدةً في قلب الحي الظاعن، والشيخُ راكبٌ على جمله يُقرِئ طلابَه من عويصات الفنون، وهو لا ينظر من الكتبِ إلا تجاعيدَ الرمال في قلب الصحراء.
حتى قال قائلهم:
ونحن ركبٌ مـن الأشـراف مـنـتظــــــــــمٌ
أجلُّ ذا العصر قَدْرًا دون أدنـانــــــــــا
قَدِ اتَّخذنـا ظهـورَ العـــــــــــيس مدرسةً
بـهـا نُبَيِّنُ ديـنَ اللّه تبـيـانــــــــــا
نـتلـو كتـاب إله العــــــــــرش كلَّ مَسًا
وكلَّ حينٍ، فـمـن نلقى تَوقَّانـــــــــــــا
على نجائبَ هُوجٍ لا وَناءَ بها
تطوي المهامِهَ بُلْدانًا فبُلدانَا
هذه الحالة الفريدة كان لمدن البلادِ التاريخيةِ شرفُ الأُسْتاذِيةِ فيها، وكانت مدينةُ شنقيط صاحبةَ حظ وافر من تلك الأستاذية.
فماذا عن تاريخ هذه المدينة وما أبرز معالمها ومكنوناتها؟
*شنقيط: التأسيس والدلالة*
على البئر الذي حفره الفاتح حبيب بن أبي عبيدة إبان حملته في الصحراء سنة 116 تأسست شنقيط القديمة بعد 44 سنة من حفره، وبهذا البئز مُيِّزَت حيث عُرفت ب”شنقيط آبِّير”
وبعد أن عاشت قرونا هناك، كانت على موعد مع الاندثار، لتقومَ على أنقاضها شنقيط الحالية بأواسط القرن السابع الهجري، فتتلقى الرايةَ باليمين، وتبدأ حكايةَ فعلٍ حضاريٍّ فريد إلى جانب أخواتها من مدائن القطر.
ومهما كانت دلالة التسمية؛ هل هي كلمة بربرية تعني عيون الخيل (العيون التي تشرب منها) أو هي كلمة عربية مَصَحَّفة من “سِنْ قِيط” أي طرف جبل قيط المجاور لها، أم أنها جاءت من “الشقيط” الذي هو نوع من الأواني الخزفية كان منتشرا في المنطقة…..
بغض النظر عن الاختلاف في الدّالِّ (الجانب الصوتي لكلمة شنقيط) فإن المدلولَ (الجانب المعنوي للكلمة) ظل بارزا شامخا بتألقه على مر العصور.
*تاريخ من العمران*
– ظلت شنيط مدينة عامرة تستقبل وتوفِد القوافل التجارية الكبيرة، وهي التي خرج منها في يوم واحد 32000 اثنان وثلاثون ألف جمل محملة بالتجارة عشرون لأهل شنقيط، واثنا عشر لأهل تيشيت، وباعت الرفقة في “زَارْ” وكان المشهد مدعاةً لتعجب الناس من مستوى الإعمار الذي وصلت له المدينتان (كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط: ص ٤٢٢)

*منطلق الحجيج*
– كانت هذه المدينة مَثابةَ لحجاج البلاد يفدون إليها من كل فجاج المنطقة لينطلقوا في قافلة موحدة نحو البلاد المقدسة، ولعل الانطلاق من هذه المدينة في هذه القوافل كان له بعض الأثر في حمل الحجاج لاسمها خارج البلاد.

*انوار المعرفة*
وقد تبوأت مدينة شنقيط ذات زمان مرتبةَ العاصمة الثقافية للبلاد، وظلت وجهة لكل الوالهين بالمعرفة شيوخا وطلابا، فهي التي حل بها الشيخ أحمد الذهبي التلمساني، و”الشريف الشاب الشاطر” وكانت مبَثًّا لعلومهم وكراماتهم، وهي التي تخرج منها أكابر العلماء، وجمعت بين جدران مكتباتها آلافا من نفائس الكتب في زمن صعب، منها فرائد من المخطوطات كتصحيح الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري المنسوخ سنة ٤٨٠ للهجرة.
فبين مكتبات : أهل حَبَتْ – أهل أحمد محمود – أهل أحمد شريف – أهل بلَّعمَشْ – أهل السبْتِي – أهل حامّنِّي – أهل عبد الحميد – أهل لوداعَه كنوز باهرة من المعارف واللطائف.
*العَلَم الجامع للبلاد*
ومن هنا لا نستغرب أن يصبح اسم هذه المدينة عنوانا مشرقا على هذه البلاد، تُحِيل النسبةُ إليه إلى كشكولٍ من المعاني والقيم الكبرى، والموسوعية العلمية الضافية.
فقد عُرِف أهلُ هذه البلاد من جميع أطرافها بالشناقطة نظرا للمركزية الثقافية والعمرانية لهذه المدينة في هذه الربوع.
*من معالم المدينة*
ينتصب مسجد شنقيط بمنارته الشامخة المربعة في قلب المدينة الأثرية المبنية من الحجارة البُنِّية المقطعة.
تحس بسكينة عارمة وأنت تدخل حَرم هذا المسجد الذي يفترش المصلون فيه الحصباء على نقائها وفطرتها الأصيلة في تقليد شنقيطي أصيل، وتنتصب بداخل المسجد سَوارٍخاشعةٌ تحمل سقفا تراثيا أغلبه من جذوع وسعف النخيل، ويحوي المسجد مصلى للنساء له ممر خاص، وداخل حائط المسجد تنتصب “الحَجْرة” التي استعملها سكان المدينة منذ قرون باعتبارها ساعة توقيت مميزة لدخول وقتَيْ الظهر والعصر تماشيا مع مستوياتٍ من الوُصول والمُجاوَزة لظل حائط قصير يقع إزاءها.
وغير بعيد من هذه “الحجرة” توجد قبور قديمة لبعض أعلام المدينة وصلحائها.
– وبجانب المدينة تقع “زِيرَة تمنگست” التي تشكل متنفسا للسكان باعتبارها بيئة رائعة للسمر، ومكانا مميزا لمشاهدة لحظات الشروق والغروب وتصويرها.
– وتفيض واحات شنقيط عطاءً بتمورها الفريدة، وظلالها الوارفة حيث يتوافد عليها مُبتغو الراحة والاستجمام من بقاع البلاد خصوصا في موسم “الگِيطْنَه” الذي تودع فيه المدينة سكونَها إلى عالم من الحيوية والحركة البهيجة.
*الجاذبية السياحية*
بأبعادها الأثرية، وكنوزها المعرفية، ودماثة خلق ساكنتها، وبعدها عن ضجيج الحداثة وصخبها، ظلت مدينة شنقيط مثابةً للسياح والباحثين من كل أرجاء المعمورة، يتنفسون فيها عبق التاريخ، ويستوحون من خلالها عظمة العزائم والهمم، ويستمتعون بهدوء الفطرة وجمال الصحراء، وعطاء النخيل، ويطالعون نفائس التراث العلمي، وكنوز المنجزات الإنسانية الراقية.
وبهذا تتجلى مدينة شنقيط جوهرة من الجمال والعزم والتألق العرفاني، وموئلا للقيم الإنسانة الراقية.

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى