يوم ضربت ابن الرئيس/ د.محمد الأمين بن حمادي – يستحق القراءة
في بلدنا تعكف الحكومة على تنفيذ إصلاح للتعليم وفق ما تعهد به رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في برنامجه الانتخابي. ورغم أنني أدعم هذا التوجه الإصلاحي الذي أرجو أن يكلل بالنجاح، وأثق في قدرة الحكومة على اتخاذ ما يلزم من إجراءات مناسبة بهذا الخصوص، إلا أنني أود أن أدلي برأيي من باب الواجب الوطني والأمل الصادق في نجاح مساعي الحكومة لوضع نظام تعليمي يتناسب مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه.
لقد سبق لي أن كتبت سلسلة مقالات منشورة على شبكة الأنترنت تحت عنوان: “التعليم في موريتانيا، إمكانات معتبرة تضيع بين العجز والإهمال” وتتعلق تلك المقالات كلها بالفترة السابقة على مأمورية الرئيس السيد محمد ولد الشيخ الغزواني. ومن المهم هنا أن أشير إلى أن كل المعطيات الواردة في سلسلة المقالات تلك مستقاة من تقارير ودراسات ميدانية قام بها مجموعة من الخبراء بتكليف من الدولة وبتنسيق مع الشركاء الفنيين والماليين. فالرجوع إلى تلك المصادر قد يختزل الكثير من الوقت والجهد ويمنع من الوقوع في دوامة التشخيص وتفادي إعادة اختراع العجلة (Réinventer la roue). يجدر بنا وقد قمنا بما يلزم من تشخيص لوضعية التعليم وعرفنا مكامن الضعف والقوة أن نمضي قدما إلى الأمام وأن نأخذ من التجارب العالمية الناجحة ما يناسب خصوصيتنا مع الاجتهاد في ترشيد الطاقات المادية والبشرية.
سأبدأ بالقصة المروعة لضرب ابن رئيس الجمهورية وقد وقعت تلك الواقعة في بداية سبعينات القرن الماضي في المدرسة رقم 8 الواقعة قبالة رئاسة الجمهورية وبمحاذات الجمعية الوطنية، ومبنى الإذاعة وفندق مرحبا. حدث ذلك أثناء استراحة الساعة العاشرة صباحا وهو كما تعلمون وقت محبب لدى التلاميذ يستنزفون فيه طاقاتهم البدنية لدرجة الإعياء. في ربع الساعة الجهنمي ذاك كنا نتعاطى أنواع المعارك البدنية والقفز واللكم والكر والفر. صادف أن قزت قفزة عالية مع شقلبة قوية فاعترض سبيلي ولد ما زلت أتذكر ملامحه: كان شديد بياض البشرة نظيف البدن والثياب لكنه رفيع البنية نحيل الجسم فوقعت قريبا من ذاك الولد فوكزته بيدي وكزة قوية فانفجر باكيا من هول الصدمة. التفت إلي بعض التلاميذ وهم مذعورون وقال لي أحدهم: وييييييلك، هذا ول رَّعيصْ (ابن الرئيس) !!. وقع الخبر علي كالصاعقة وفررت من “مسرح الجريمة” مذعورا لا ألوي على شيء. لكن لم يحدث شيء مما كنت أخشاه فلم يعاقبني المعلم ولم يسأل عني المدير. ولم يكن لابن رئيس الجمهورية حارس شخصي يرافقه ويحميه. ذلك هو محمدن ابن الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله تعالى.
ما أريده من سرد هذه القصة فيما عدا جانب الطرافة فيها هو ما تعكسه من تحولات طرأت على الأوضاع العامة وحياة الناس وتغير الأحوال بحيث لا نتصور اليوم أن أبناء أي رئيس دولة في العالم اليوم يمكن أن يرتادوا المدرسة العمومية دون حراسة مشددة، هذا إن كان ذلك ممكن أصلا لأن الأوضاع الأمنية في العالم اليوم فرضت واقعا جديدا.
إن الواقع الجديد الذي أحدثه التغير السريع في أوضاع البشرية وما تشهده من اضطرابات يحتم علينا اليوم أن نعمل على إحداث تغيير عميق في نظم التربية والتعليم بقدر ما تشهده المجتمعات من تحول عميق. لقد ظهرت الحاجة إلى كفاءات ومهارات جديدة تحتاجها المجتمعات في الحاضر والمستقبل. واشتدت بعض الظواهر كالتعصب والإرهاب والعنف والحروب والأوبئة وظهرت أنواع جديدة من الجرائم واشتد الضغط والمنافسة على الموارد الطبيعية. وكل ذلك يدفعنا إلى تجديد الرؤية للتربية والتعليم في عالم متغير.
ذلك هو الدرس الذي أردت أن أستخلصه من القصة المذكورة آنفا: لا يمكننا أن نضع حلولا للتعليم لا تناسب الزمن الذي نعيش فيه ونحن غالبا ما نفكر في حلول نجحت في مجتمع معين وفي فترة معينة لكنها إما تجاوزها الزمن أو لا تصلح لمجتمعنا.
إن من مظاهر التغير السريع في الأوضاع ذلك القانون الذي وقعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ أسابيع قليلة والقاضي بتفضيل أصحاب المهارات على أصحاب الشهادات في التوظيف. ويعني ذلك أن دوائر الحكومة الفدرالية الأمريكية ستكون ملزمة وفق هذا القانون باكتتاب موظفيها بناء على ما يمتلكونه من مهارات وليس على أساس ما نالوه من شهادات مدرسية أو جامعية. ويرى بعض المهتمين بالموضوع أن الحكومة الأمريكية تأخرت كثيرا في اتخاذ هذا القرار. فقد سبق أن تبنته بعض الشركات العالمية منذ فترة مثل Google و Apple فألغت شرط الشهادة في كثير من وظائفها لقناعتها بأن المهارة أهم من الشهادة. والحقيقة أن هذا التوجه الجديد لم يولد من فراغ فقد أثبتته التجربة الميدانية في العمل حيث أظهر أصحاب المهارات قدرة على القيام بالأعمال المطلوبة منهم أكثر من أصحاب الشهادات الذين يفتقرون إلى المهارة في العمل.
في العام 2015 نشر البروفسور جون هاتي John Hattie أحد أكبر الباحثين في قضايا التربية والتعليم، بحثا بعنوان: “ما لا ينجح في التعليم”، وهو ما يسميه جون هاتي سياسات صرف الانتباه.
(The politics of distraction) وقد حددها في خمسة مجالات، في نظره، تكلف الكثير من المال ولا تقدم الشيء الكثير للرفع من مستوى التلاميذ. وما نلاحظه أن الكثير من البلدان التي تعاني من فشل التعليم تشترك في المعاناة من هذه المجالات الخمس.
أثبتت تجربة رائدة قام بها مواطن هولندي يدعى موريس دو هوند Maurice de Hond أهمية اكتشاف المهارات لدى الأطفال والعمل على تنميتها. وما قام به موريس دو هوند بكل بساطة هو أنه افتتح مدرسة نموذجية وفق نظريته التعليمية الرائدة. مدرسة ستيف جوبز Steve Jobs كما سماها موريس غيرت الأوضاع جذريا في الحي الشعبي ذي الأغلبية من المهاجرين المسلمين من أصول عربية في العاصمة أمستردام. وقد كانت تجربة ناجحة بشكل فاق كل التوقعات لدرجة أن الحكومة الهولندية تبنت النموذج الجديد وطبقته في بعض مدارسها النظامية بل إن بعض الدول الأوربية بدأت في توطين هذه المدرسة الجديدة. موريس دو هوند ليس معلما ولا خبيرا في قضايا التربية والتعليم، إنه مجرد رجل أعمال لكنه يحمل أفكارا غير نمطية.
والتجارب الناجحة للتعليم لا تقتصر على الدول الغنية بل نجد دولا إفريقية فقيرة خاضت تجربة ناجحة في التعليم كما هو حال رواندا التي عانت حرب أهلية صاحبتها إبادة جماعية ودمرت فيها الكثير من المرافق الحيوية في الدولة، ومع كل هذا فقد استطاعت رواندا النهوض لأنها نجحت في وضع نظام تعليمي فعال.
في تقرير جودة التعليم للعالم الصادر عن اليونسكو عام 2014 عدت رواندا من أفضل 3 دول في تجربة النهوض بالتعليم.
وأود أن أختم بما قاله البروفسور جون هاتي لما سأل عما سيفعله إذا أصبح وزيرا للتعليم. فقد أكد أنه لن يسعى للقيام بأي عمليات إصلاحات ضخمة في هيكل قطاع التعليم، بل سيسعى إلى تطبيق ما استفاده من نتائج أبحاثه عن الدرس الجيد، وأنه سيعتمد في ذلك على تكوين مجموعات من أفضل المعلمين في كل منطقة بالتعاون مع أكثر المديرين نجاحا، ليشرفوا على إطلاع بقية المعلمين على كيفية الارتقاء بعملهم داخل الصف، دون إضاعة الوقت والجهد والمال في إجراء تعديلات غير مجدية.