أعلام الصحراء(38):
العلامة صالح بن عبد الوهاب الناصري
في إطار سلسلتنا “أعلام الصحراء” التي نتتبع فيها مشاهير من ظهروا في هذه الصحراء في مختلف المجالات وعبر مختلف الحقب تكون محطتنا الليله بلاد الحوض لاستذكار شخصية عالم جليل وقاضٍ عادلٍ ومؤرخ مدقق وأديب مفلق، رجل لم ينل حقه من الذكر في مراجع التاريخ حتى اضطر بعضهم إلى تعريفه بكتابه المشتهر بتسميته “صاحب الحسوه”، وارتبط الرجل بعلميْ التاريخ والأنساب وجهل كثير من الناس مكانته العلمية وموهبته الأدبيه، فلعل هذه الحلقة تكون إيفاء له لبعض حقه..
هو صالح بن عبد الوهاب بن أحمد بن الحاج عبد الوهاب بن أعمر بن اتليل بن عيسى بن ناصر الجد الجامع لقبيلة أولاد الناصر، وأسرة أهل أعمر ول اتليل أسرة “تياب”، بل يُقال أن جده أعمر بن اتليل أول من تاب من لمغافره، يقول صالح في بعض أنظامه:
أول من قد تاب من حسان … جد أبي بهذه البُلدان
ويقول في قصيدته الآتية:
ونحن أقمنا للحجيج طريقه … ونحن سننا توبة للمغافر
وأمه عيشة بنت صالح اليونسية الداودية، ولد سنة 1739 بمدينة ولاته، سميّ على جده لأمه، وعكف على طلب العلم منذ صغره فأخذ عن الفقيه القصري بن محمد المختار من إديلبه وغيره من فقهاء ولاته كما سافر إلى تيشيت لطلب علم الحديث، وأخذ اللغة عن العلامة سيد عبد الله بن الحاج ابراهيم العلوي.
ومنذ شبابه شُغف بالرحلة واستكشاف العالم وهو ما خوله تحصيل ثقافته الموسوعية، ثم استقر بولاته مدرسا ومفتيا وقاضيا ومؤرخا ووجيها، كما عكف على تدوين معلوماته، ومن آثاره: الحُسوة البيسانيه في الأنساب الحسانيه التأليف الشهير الذي هو أفضل مصدر لأنساب بني حسان، وكتاب “النبذة” في التاريخ وهو حوليات مفيدة دقيقة، وكتاب مقرب المعاني وهو شرح على لامية الأفعال لابن مالك، وكتاب أسماء البلدان، وشرح على ورقات إمام الحرمين، وكتاب “سوط العذاب على كل مسرف كذاب” في ذم فعل بعض القضاة الجائرين، ويذكر أنه ألف كتابا في أنساب صنهاجه لكنه مفقود، إضافة إلى بعض الفتاوى والمراسلات والمناظرات.
وكان مشهورا بالجدية والتحري، وللعلامة ابن انبوجه العلوي فيه إثر رجوعه عن أحد أحكامه لما بان له غلطه:
جزى الله خيرا صالحا برجوعِه … إلى الحق لما لاح ضوءِ شموعِه
وأحيى به شرعا محا الجهلُ رسمَه … وخيّم في أطلاله وربوعِه
فداً لك ولّاج القضاء وما له … من العلم إلا ملء نقرة كوعِه
ويفديك رجّاع بأول لائح … وآخرُ يلقى الموت قبل رجوعِه
جزى الله عن أهل الحنيفة صالحا … بصالحة تقضي بتثبيت روعِه
وكان صالح شاعرا رنان الكلمة، من شعره:
إن الغرام وخوف واشيه اعترى … مدا حجابا بين جفنيَ والكرى
هذا يراقب من أحب ودأبه … حسد يقوم به وهذا أسهرا
فالطرف ما وجد الدليل إلى الكرى … والطيف لم يجد الدليل إلى السرى
شوقي يهيّجه الحمام إذا بكى … ويزيدني برق الغمام تذكرا
والسيل يجري ضِعفه من أدمعي … والريح تورثني خبالا منكرا
ويقود لي وقتُ الرواح بلابلا … ويرد لي ضوءُ الصباح تحسرا
يا ليت شعري أين ليلى هل سرت … نحو الشواجر أو إلى وادي القرى
أم هل ثوت في رهطها من عامر … أو جاورت صنهاجة أو مغفرا
عربية يعزونها في جعفر … أو مِذحج أو في ذوائب حميرا
وله في الفخر:
ألا قل لأرباب الحِجا والبصائر … وأهل العلوم الواضحات الظواهر
بأنا علونا بالإله وأننا … فخرنا بعيسى وافتخرنا بناصر
وسدنا به أرباب كل سيادة … وحزنا به قِدما جسيم المفاخر
مكانتنا من مغفر لا خفية … وأيامنا مشهورة في العشائر
ونسبتنا من جعفر لابن زينب … كما صحح الأعلامُ أهلُ الدفاتر
أنا ابن الذي تطوى له الأرض فانبرى … على عيره يوما لنصرة ناصر
ومن أرضه والاتَ سار لتڭبة … كما في كلام في البرية سائر
وقِدما رفعنا في المغارب معقلا … زمان سُليم أو هلال بن عامر
ومن قبلُ دوّخنا زناڭة إذ شكا … لنا منهم الكنتيّ شيخ الأكابر
ومن كان عنا سائلا عن تجاهل … فنحن عياسات الظُّبا والمزابر
ونحن أقمنا للحجيج طريقه … ونحن سننا توبة للمغافر
ونحن حملنا “بارك الله” حسبة … إلى مكة الغرا وتلك المشاعر
نقطع أعناق الكُماة لدى الوغى … ونضرب رأس الفارس المتجاسر
فأي فريق ما قتلنا سُراته … وأية أرض لم نطأ بالحوافر
ومن كان يحجو في المناسب سُبة … فإنا فخرنا بالقرون الغوابر
ولسنا كمن دانوا لحرب زناڭة … ولسنا كمن أعطواْ جزاء لقاهر
ويقول مخاطبا الفنان “نفرو”:
حلفتُ ولم أملك سوابق عبرة … بربّ بني حام وسام ويافث
لقد هيّج الأحزانَ نفرُ بشدوه … وصوت المثاني عنده والمثالث
وله وهو إذ ذاك بأروان من أرض أزواد:
لئن هاج هذا الشوقُ في أروان … فقد كنتُ أشفيه بكل أوان
لياليَنا بالبيض والبيض حولنا … وأعين من أهوى إلي روان
لياليَ لا يثني عن اللهو زاجر … ولو لام فيه الشيخ والأبوان
لياليَ في والاتَ كنا عصابة … تعاطى كؤوس اللهو بعدَ دُخان
وله تخميس على أبيات أبي نواس: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة..:
أرجوك عفوا يا إله وسترة … تمحو به ذنبا وترحم عَبرة
سرا دعوتك يا كريم وجهرة … يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
وعلمت أيضا أنني بك مؤمن … وبيمن عفوك واثق متيقن
وعلى مقالة ذي المقالة مدمن: … إن كان لا يرجوك إلا محسن
فبمن يلوذ ويستجير المجرم؟
أدعوك ربي بالنبي تشفعا … فأجب دعائي إن دعوتك مسرعا
أنت المجيب لمن دعاك مشفعا … أدعوك ربي كما أمرت تضرعا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
ومن شعره في المديح النبوي:
بين عمرو وعامر وعُمير … وحبيب ومنذر والحُباب
نتعاطى كؤوس لهو وأنس … من سليمى وتندم والرباب
في غوان بيض ملاح حسان … ناعمات كواعب أتراب
كنعاج الفلا أوانس عين … آخذات عيونُها بالُّلباب
وتصيد الوجوه منهن قسرا … كل حبر وراهب أواب
بخدود نواضر وشفاه … وثغور كالأقحوان عِذاب
في قدود تحكي الغصون اهتزازا … وخصور أعجازها كالروابي
لابسات مروط وشي يمان … ساحبات ذيول تلك الثياب
في بيوت مزخرفات النواحي … بستور مرقومة الأبواب
وقدور طول المدى راسيات … وجفان مملوءة كالجوابي
وشعاب فيها البطاح فساح … إن قلبي لَبين تلك الشعاب
في مغان عهدتها لغوان … رائقات من طيبات الرضاب
ففؤادي في لوعة من هواها … ودموعي لبينها في انسكاب
أصبحت بعد من حقوب يبابا … يا لها من ربوع أنس يباب
إن تك اليوم أوحشت بعد أنس … فلكم كان عهدها في اضطراب
أذكرتني من بعد أن شاب رأسي … وسلا القلب عن ذوات الخضاب
فرأيت ادكارها في مشيبي … إذ تولى الشباب غير صواب
لكن المرء لو يعيش وفاء … من سنيه لم ينس عهد الشباب
فذكرت الهوى بعهد قديم … من هوى سيد الورى أصل ما بي
وأرجّي من الإله تعالى … عفو ذنبي فيما مضى واكتسابي
وأرجّي بفضله أن أوافي … ذا النبي الكريم قبل المآب
أحمد الهاشمي خير معد … وسواها كما أتى في الكتاب
سيد الناس ذا اللواء المرجى … لخلاص الجميع يوم المآب
صاحب السيف والقضيب المروي … سيفه العضبَ من دماء الرقاب
تركت خيله بكل أناس … مسجدا قائما وكل يباب
دوخت فارسا ودوخت الرو ــــــ م وقادت بقسرها كل آبي
من معد أو يعرب ذي حفاظ … من قريش البطاح أو من كلاب
أو بني تغلب القواسي وبكر … وبني عبد قيسها ذي الضراب
أو مراد أو خثعم أو زبيد … أو بني الحارث الطوال الرقاب
فأنابوا إلى الإله جميعا … بعد شك في دينه وارتياب
فأتاهم بعد الضلال بهدي … كان فيهم مستحكما بالكتاب
وأتاهم من ربهم بكتاب … فيه تفصيل كل فصل وباب
فشفاهم من العمى بهداه … ووقاهم من زيغ أهل الكتاب
أبطل اللات والصليب وطفى … نار كسرى وسامها بالخراب
كل قوم لم يوقنوا بهُداه … واسترابوا أعمالهم كسراب
وهو البحر جوده ليس منه … سيب بحر طمى وصوب سحاب
من بني شيبة الكريم أخي الحمــــد المرجى للمعضلات الصعاب
من بني هاشم بن عبد مناف ا ــــــ بن قصي مجمع بن كلاب
ثم من مرة بن كعب لؤي … ولؤي بن غالب ذي الحجاب
ابن فهر بن مالك ذي المعالي … حاز بالنصر أرفع الأحساب
فإلى فهر انتماء قريش … أو إلى النضر ذي الحجا والصواب
عن أبيه كنانة بن خزيم … و خزيم بن مدرك ذي العراب
والمتداول أن وفاته كانت سنة 1855 وعليه يكون عمره 106سنة والله أعلم، وضريحه 40كلم شرق مدينة كيفه.
من صفحة الباحث: رائد الثقافة الصحراوية