الوحدة الوطنية قضية لا تحتمل التأجيل / محمد عبد الله ولد بين
لتحديد مفهوم الوحدة الوطنية ، علينا في البداية تحديد معنى المصطلحين ، أو الكلمتين وعلاقتهما ببعضهما ، حيث يتحدد المعنى على أساس المواطنة والانتماء والالتفاف حول أسسهما والأهداف المشتركة للوطن.
الوحدة هي تعدد مختلف يتكامل، فلا وحدة بلا تعدد ، ولا وحدة بدون اختلاف ، ولا وحدة بلا تكامل. الجسم البشري لا ندركه إلا بتركيب متناسق متكامل لجميع أعضائه ، فلا يمكن لليد مثلا أن تمثل الجسم كله ولا يمكن أن نجعل أعضاء الجسم نسخا بعضها عن بعض – وإلا فلا داعي لوجودها. يجب أن يكون كل عضو مختلفا عن الآخر لكنه منسجم معه ويعمل معه ، لا ضده ، فلا يمكن للقلب ، مثلا، أن يعمل بلا دم، ولا للدم أن يعمل بلا شرايين ولا للشرايين أن تعمل بلا لحم ، ولا للحم أن يعمل بلا عظام وهكذا.
أما الوطنية فهي التعلق العاطفي والولاء والانتساب لأمة محددة بصفة خاصة واستثنائية عن البلدان والأمم الأخرى.
الوطنية مفهوم أخلاقي ، وأحد أوجه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربما بحياتهم من أجل بلادهم، هي إذن تعبير عن الإحساس بالارتباط والالتزام لأمة معينة أو دولة أو مجتمع سياسي، فهي بهذا المعنى رغبة في التضحية وقلق خاص حول صلاح وخير الوطن ، كما هي شعور بتطابق بين الشخص ووطنه، بل تتجاوز ذلك لتشكل تعلقا خاصا للفرد بوطنه.
يعبر المتضايفان (الوحدة الوطنية)عن الحالة الاجتماعية والسياسية في البلد، والتي تعني وحدة الشعب بمختلف شرائحه ومنابته على هدف واحد وهم مشترك دون النظر في اختلاف المنابت والمشارب وتنوع الأصول، وخضوع جميع المواطنين في البلد للقانون والعدالة والمساواة بعيدا عن التمييز والمحاباة بناء على الأعراف والأصول والثقافات الجانبية.
فحالة الوحدة الوطنية هي حالة إيجابية يسعى المجتمع للوصول إليها حتى يتجنب المشاكل ، ويتمكن من أهم مقوم محدد للتنمية بمختلف أنواعها.
كل مجتمع من مجتمعات الدنيا تتعدد فيه الولاءات والانتماءات الإثنية ، غير أنه لا بد من قاسم مشترك يجمع تلك الانتماءات ، ليتقدم عليها الانتماء والولاء للوطن.
ولما كانت ولا تزال الانتماءات القبلية والطائفية والشرائحية مؤثرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية ، فإن تأثيرها السلبي كبير على الوحدة الوطنية . ويرى البعض أن لهذه الانتماءات تأثير إيجابي كما هو الحال في حديثنا السالف الذكر. فالانتماء القبلي أو الطائفي أمر طبيعي في المجتمعات الإفريقية والعربية ، ولكنه بعد قيام الدولة المدنية في إطار دستورها وقوانينها أصبح الواجب أن يكون الولاء والانتماء أولا للوطن ، ثم تأتي بعد ذلك الانتماءات الأخرى. واللذين يقدمون انتماءاتهم الإثنية والقبلية على الولاء للوطن يضربون الوحدة الوطنية في الصميم..
وقد يتحدث هؤلاء عن الوحدة الوطنية كشعار يخفي خلفه نفسا قبليا أو جهويا أو طائفيا ، وهنا يكمن الخطر. وكثيرون أيضا أولئك اللذين يتشدقون بالوحدة الوطنية ويعملون على أرض الواقع لهدمها.
فلم نسمع عن أحد يقول إنه ضد الوحدة الوطنية ، لكننا رأيناه في حقيقة ممارساته السياسية والاجتماعية أو غيرها يتناقض بسلوكه وممارساته مع مفهوم وروح الوطنية ومعناها ومبناها الحقيقيين.
أعرف كم عانى أشخاص أعلنوا تمردهم على تقاليدهم الفئوية ليركزوا على الانتماء للوطن أولا ، لكنها ثقافة تحد لا بد من طرحها ومناقشتها ، لأننا في مرحلة تاريخية تتطلب منا تركيز الجهود ومراجعة الذات والممارسات من أجل ترسيخ الدولة المدنية وتعميق الانتماء لها ، ليس على حساب الانتماءات الأخرى ، ولكن ليتقدم الانتماء لها على تلك الانتماءات الأخرى.
من هنا نستطيع أن نبدأ ترسيخ وتأكيد الوحدة الوطنية ، ثم تطوير مفهومها قولا وعملا. ويعتقد الكثيرون أن التحديات والأزمات تؤكد وتؤدي إلى تحقيق الوحدة الوطنية.
وقد نختلف مع هؤلاء، حيث يجب أن تتحقق الوحدة الوطنية في ظل الأوضاع الطبيعية التي يعيشها المجتمع ، ولا ينبغي أن ننتظر التحديات والأزمات لتؤكد وجودها.وفي دولتنا النامية – موريتانيا – التي تعيش مخاضا على جميع المستويات ، وفي فترات الضعف والفساد- كما تذكرون- ظهرت على السطح مختلف السلبيات والنزعات الإثنية الضيقة ، فخرج علينا بعض أدعياء الوحدة الوطنية ليرفعوا هذا الشعار من خلال إعادة تسمية بعض الشوارع والمهرجانات الفلوكلورية السخيفة ، وفي حقيقة الأمر، فإنهم كانوا يعملون بخلاف ما يعلنون، لأنهم كانوا وراء صناعة الأزمات الضيقة.
وسواء كان أولئك يدركون أو لا يدكون خطورة فعلهم وتأثيره – ( وهم يدركون ذلك بالطبع)- فإن قادة الرأي في الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني ، وهم الدعاة الحقيقيون للوحدة الوطنية ، يجب أن يثبتوا وجودهم ، ولا يسمحوا لأدعياء الوحدة الوطنية بتخريبها.
وعندما تمر بلادنا في بعض الفترات بأزمات سياسية أو اجتماعية أو غيرها ، نرى الجميع يتسابق لرفع شعار الوحدة الوطنية ، وهذا شيء جيد ، ولكن أعداء الوحدة الوطنية قد يختفون وراء الشعارات ليحققوا مآربهم ، وهذا ما يثير سؤالا ملحا : هل هناك فعلا من هم ضد الوحدة الوطنية ؟
نحن لا نفترض أو نتحدث عن مجتمعات مثالية ، حتى في الدول المتقدمة ، لأنه في أي مجتمع هناك من يعملون لمصالحهم الضيقة وحسب، وقد رأينا ما يحدث في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في هذا العام 2020 ، وكيف أن الأحداث تبرهن أن أي مجتمع لا يخلو من التلاعب بالمفاهيم والمبادئ.
يتحدث البعض عن أنه يجب وضع النقاط على الحروف في بحث هذه القضايا الأساسية والحساسة، وأنع علينا أن نتحدث بصراحة عن الواقع الذي نعيشه ، وهذا كلام في محله وملاحظة مهمة وصحيحة. ويمكن أخذها بعين الاعتبار عندما يعقد مؤتمر وطني حول موضوع الوحدة الوطنية ، أو يكتب بحث أكاديمي عنها ، ولكنه في حدود مقال لينشر في الصحافة، فإن الحر تكفيه الإشارة ، ونحن نتحدث لشريحة من الناس تدرك ماذا نعني وما ذا نريد من طرح هذا الموضوع في هذا الوقت.
يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح كيف نحقق الوحدة الوطنية ، وما هي أهم المسالك التي يمكنها أن تقود البلاد إلى مشروع وحدوي حقيقي و جاد؟
تعتبر السياسات المتخذة في الدولة من أهم الأمور التي تحقق الوحدة الوطنية، فحينما يتضمن دستور البلاد نصوصا جادة في التأكيد على معايير النزاهة والمساواة بين المواطنين ومساءلة من يتعرض للوحدة الوطنية بالقول أو الفعل، وتنفيذ تلك السياسات على أرض الواقع ، فإن ذلك يضمن بلا شك المساهمة في تحقيق الوحدة الوطنية.كما أن من الأمور التي تساعد على تحقيق الوحدة الوطنية تثقيف وتربية المجتمع على ما تتضمنه شريعة الرحمن من توجيهات تدعو إلى الوحدة الوطنية بين مكونات المجتمع المسلم دون محاباة أو تمييز، فالسلمون سواسية كأسنان المشط فلا فرق بين غني وفقير ولا لقوي على ضعيف إلا بالتقوى.
إذا كان أصحاب القرار يتحملون المسؤولية الكبرى في تحديد الإجراءات والقرارات التي من شأنها أن تعزز الوحدة الوطنية ، فإن دور الطلائع المثقفة يظل حتميا وأساسيا ، فعليهم تقع مسؤولية توضيح مفهوم الوحدة الوطنية وأهميتها وتعميق الإيمان بها، والعمل على تعرية أعدائها والمتجرين بها في الداخل كما في الخارج.
ينبغي أن يصل هذا المفهوم مبسطا إلى أجيالنا الصاعدة عن طريق المناهج التربوية ، التي تستدعي إجماعا وطنيا يؤكد حتمية إصلاح تربوي يستنبت المدرسة الجمهورية الموحدة بكسر الحاء وشده. وقد لاحت في الأفق إرهاصات ذلك الإصلاح بمقاربة يحكمها مبدأ ( عدم السرعة)، فحركة الجهاز التعليمي نحو الإصلاح بطيئة جدا ، وهو ما لا يتحمله واقع المجتمع الذي أنهكته إصلاحات تولد ميتة.
وإن الوحدة الوطنية تمر (حتما) بالتوزيع العادل للثروة الوطنية ، فشعور كل مواطن بأنه يجد نصيبه من الدخل الوطني ، يولد لدية الرغبة في الانتماء للوطن. وقد رأينا ملامح إعادة التوزيع العادل للثروة الوطنية على المواطنين من خلال إنشاء مؤسسة نآزر، التي بدأت في عملية تقوم على التمييز الإيجابي لفائدة الشرائح التي عانت غبنا تاريخيا ألقى بثقله على النسيج الاجتماعي الهش.
يبقى أن نقول إن العدالة وهي الأصل والغاية ، وهي الإنصاف والملاءمة والأخذ باعتبارات الظروف الخاصة ، فإنها تمثل شرطا لا يمكن أن تتحقق الوحدة الوطنية في غيابه. لذلك فإننا نقول أيضا إن وفرة الإنتاج مع سوء التوزيع هي احتكار، كما أن عدالة التوزيع دونما إنتاج هي توزيع للفقر والبؤس.
إننا نتحدث هنا عن جدلية قائمة بين الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية ، والتي هي نتاج أبعاد تنموية ورؤية إنسانية، لذلك فإنني أعتقد أن المقياس الحقيقي لمستوى المواطنة في النظام السياسي والاجتماعي ، هو مقدار وجود متطلبات العدالة السياسية في الواقع الاجتماعي والسياسي.ومن هنا فإن الحصول على مواطنة حقيقية ومخلصة – وهي الشرط في الوحدة الوطنية – يستوجب عدالة سياسية تستوعب جميع القوى والشرائح والفئات ، وتكون من ثوابت النظام ومؤسسة الدولة وحقائق المجتمع والمواطنين. فالطريق إلى المواطنة بكل مقتضياتها ومتطلباتها هو العدالة بكل مستلزماتها وآفاقها. فتكافؤ الفرص في الإطار الوطني هو أهم البوابات الرئيسية للوحدة الوطنية والمواطنة.
أرجو أن أكون قد وفقت في إثارة موضوع يؤرق النخب الوطنية ، ويشغل بال أصحاب القرار السياسي وقادة الرأي الوطني. والله ولي التوفيق.