ليلة فلشك .. عالي محمد أبنو – يستحق القراءة
في ليلة 29 نوفمبر خلد الرئيس إلى مضجعه باسما ملء شدقيه ونام قرير عينيه، بعد أن هرع منه قبل سبعة عشر شهرا في ليلة حالكة لم يذق بعدها طعم النوم إلا قليلا.
لقد كانت ليلة “فلْشِه” بحق .. بعد أن تأكد من رمي كل قيادات التنظيم المسلح في سجون انفرادية، وشتت شمل ما تبقى منه في الخارج، وبث بينهم العداوة والتلاوم.
تمت السيطرة على كل شيء .. قالها في خلده وهو يدلف الأسانسير الأيسر الموجود بالقاعة السفلى من القصر الأدخن عائدا من حفل رفع العلم بعد أن وشح أهم الشخصيات التي كان لها دور في إفشال التمرد المسلح والقبض على قياداته واستباب النظام.
كان أعلى وسام في الجمهورية هو وسام كوماندوز في الاستحقاق الوطني .
ورغم كثرة الموشَّحين لم يوشح الرئيس بهذا الوسام غير شخص واحد ، فرغم وجود الثعلب الماكر ورجل الأمن الداهية مدير المخابرات الداخلية من بين الموشحين؛ ورغم أهمية الأخير في النظام عموما وفي القضية موضوع التوشيح خصوصا؛ ورغم انتمائه لذوي القربى في نظام يعطي ل”ذوي القربى” مكانة خاصة، إلا أن هذا الوسام الأهم لم يكن من نصيبه؛ بل كان من نصيب العقيد قائد كتيبة الحرس الرئاسي الذي واجه التمرد المفاجئ لسلاح الدبابات والطيران الحربي من اللحظة الأولى بكل شجاعة وبسالةٍ ما مكن النظام من التقاط أنفاسه واستعادة المبادرة والتمكن من شن هجوم مضاد .
كان هذا قبل عشرين سنة مكتملة بأيامها ولياليها .. إنه عمر شابة جامعية مكتنزة ذهبت لتعد رسالة تخرجها بعد أن تركت رضيعها لدى الحضانة، ونحن نرى الأحداث على مرمى حجر وكأننا لم نلبث إلا عشية أو ضحاها.
جلس الرئيس على كرسيه الوثير وأخذ نفثة من سيجاره الفاخر وتحرك خداه إلى الأعلى جذلا؛ فمن أجل هذه اللحظة سالت دماء كثيرة ، وترملت نساء ، وتيتم أطفال، وثكلت أمهاتٌ، وتشتت أسر.
لقد استعاد النظام كل عافيته ظاهريا؛ بل يبدو أنه عاد أقوى مما كان قبل الثامن يونيو 2003 ؛ فأهمُّ قادة فرسان التغيير قد تم القبض عليهم ورميهم في سجون انفرادية بنواكشوط، وعددٌ كبير من قادة حركة فلام المشتتين بين أوروپا الغربية وأكرانيا وأمريكا وإفريقيا قد بدأ السأم يدب في نفوسهم، وبدأ الدم يبرد في عروقهم وأوشكت جذوة حماسهم أن تذبل أمام صمود نظام عشريني معروف بتعدد الركائز والأوتاد، وذي دولة عميقة واسعة الامتداد أفقيا وعموديا؛ وبدا عصيا على السقوط أمام كل المخططات الداخلية والخارجية ؛ يقوده عقيد ستيني غامض التوجه لم تستطع ذوات العتو من خبيرات تخوت الرمل ولا ضاربات الودع استشراف ولا توقع خطواته المقبلة .. أحبط انقلابات وأنجح أخرى أوصله آخرُها إلى سدة حكم تربع على كرسيه لأزيد من عقدين ، ونسَجَ تحالفات دولية غير متوقعة وغير تقليدية في منطقة يحسب له قادتها ألف حساب ويخافونه خوف اللحم من الجمر .. نظام لم تتمكن دبابات تي 52 السوفيتية وسلاح الطيران استئصالَه أمام عدد محدود من بنادق الكلاشينكوف والمدافع الصدئة من عهد حرب الصحراء .. كانت معارضة الداخل قد تفتت أحزابها وتجزأ فُتاتها وخفَتَ بريقها وذهب النور الذي كان على وجهها وآل نجمُ بزوغِها إلى الأفول بعد انتخابات لم يستطع زعيمُها التقليدي الحصولَ فيها على أكثرَ من ستة في المائة من الأصوات، وكان منحني الأمل الرياضي في التغيير المأمول قد بلغ نقطته الحدِّية الدنيا دون انعطاف إلى الأعلى.
خُصصت توشيحات عيد الاستقلال للقيادات العسكرية والأمنية والمدنية التي ساهمت في التصدي ميدانيا لانقلاب 2003 والتي ساهمت في القبض على قادة الفرسان .. من قاتلوا في الميدان مثل قائد كتيبة الحرس الرئاسي .. من اشتغلوا على الجانب الاستخباراتي مثل مدير أمن الدولة المفوض الرئيس .. من تم دسهم في الفرسان للتجسس عليهم مثل المقدم المصفد.. من عملوا ميدانيا في التقفي والمطاردة مثل ضابط الشرطة الشاعر والأديب.
بدا الرئيس في أقوى أوقاته وأصبح مقرّبوه يتبخترون ولسان حالهم يقول: ” لنا الدنيا وما أضحى عليها ** ونبطش حين نبطش قادرينا” ، ورأى بارونات الدولة العميقة أنه أصبح ظل الله على هذه الأرض، وبدت المعارضة في أضعف أوقاتها ولسان حالها يقول لكرسي الرئاسة المتولهة في محرابه: “إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم *** في موقف الحشر نلقاكم وتلقونا” ، وشرعت تتخلص من نهجها الراديكالي في مقارعة النظام ، ووقع أربعة عشر تنظيم معارضا عريضة تطالب بالحوار مع النظام فمن منطلق البراغماتية البحتة أن : “ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله”.
كان أفضل المتفائلين يتوقع سقوط النظام بوفاة الرئيس بمرض مميت (أطال الله بقاءه ومد في عمره وغفر له).
في ذلك الوقت كان هناك من يخطط لشيء آخر ويملك الجرأة والخطة لتنفيذه، وبعد أشهر كان في نواكشوط نظام جديد وكان الرئيس عالقا في طائرة بين السماء والأرض ولسان حاله يردد بيت قصيدة ابن زريق البغدادي المشهورة ب”تهمة الدهر”:
رُزقتُ مُلكاً ولم أُحسن سياسته ** وكل من لا يسوس الملكَ يُخلعُهُ