ملامح العالم الجديد (2)… استدارة روسيا شرقا / يربان الحسين الخراشي
على مر تاريخها الطويل مرت روسيا بمحطات مختلفة على الصعيد الجيوسياسي، حيث نجحت أكثر من مرة في إعادة توجيه استراتيجيتها الخارجية بمهارة نحو الغرب أو الشرق أوهما معا، فبعد اتحاد السلاف الشرقيين والفنلنديين، والصراع الطويل الذي تمخض عنه احتلال الروس الكييفية لمكانة كبيرة بين القوى الأوروبية بدأت روسيا ولأول مرة في تاريخها بالتوجه نحو الشرق، وخلال القرن الثالث عشر ومع صعود نجم الإمبراطورية المنغولية أصبحت روسيا جزءا من الاتحاد الأوراسي الجديد، وخلال القرن السابع عشر وبعد عودة أوروبا إلى صدارة السباق الحضاري العالمي اتجهت روسيا مرة أخرى نحو الغرب خاصة مع بداية عهد بطرس الأكبر، حيث بدأت روسيا القيصرية الصعود بسرعة لتصبح واحدة من القوى العظمى مع مواصلتها للتوسع شرقا في آسيا الوسطى وسيبيريا، وعلى مدى الأربعة قرون الأخيرة بقيت روسيا جزءً لا يتجزأ من الحضارة الأوروبية رغم نجاح الثورة البلشفية سنة 1917، ورغم الصراع الإيديولوجي خلال الحرب الباردة، بل إن روسيا استدارت كليا نحو الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفييتي خاصة بعد الاتفاق بسحب الاتحاد السوفييتي لقوة قوامها 400 ألف جندي من ألمانيا الشرقية مقابل وعد أمريكا بعدم توسع الناتو شرقا، وكما هو معتاد لم يفي كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبون بالعهد، حيث توسع الناتو منذ عام 1999 ولحد الآن ستة مرات متجاهلا كليا المخاوف الأمنية الروسية، وباتت صواريخه بعد انضمام فنلندا تبعد عن مدينة سانت بطرسبرغ الروسية حوالي 400 كلم، وتقدمت أوكرانيا بطلب للانضمام لكتلة العسكرية، وهو ما يعني ليس فقط محاصرة روسيا بريا بل وحتى بحريا.
اليوم تتمثل المحطة التاريخية الجديدة في رحلة التكيف الجيواستراتيجي لروسيا في الاستدارة من جديد نحو الشرق، وهذا ما أشار إليه كيريل باباييف، مدير معهد الصين وآسيا الحديثة التابع لأكاديمية العلوم الروسية بقوله إن “التحول نحو الشرق ليس خطوة ثورية غير مسبوقة، بل ظاهرة حدثت مرات عديدة في التاريخ الروسي”. لكن في اعتقادي المختلف هذه المرة أن توجه روسيا شرقا ليس خيارا قسرياً بسبب ضغط الغرب، وليست استدارة جزئية كما حدث بعد الثورة البلشفية وخلال الحرب الباردة بل استدارة كلية، والأهم أنها ليست ميلا أحادي الجانب بل إن الشرق بمفهومه الكبير والأوسع يرحب بالنسر ذي الرأس الواحد، وهذا ما يعني أن ما يجري أمام أعيننا هذه الأيام سابقة في التاريخ الروسي والبشرية جمعاء، وبدون أدنى شك سيكون لها ما بعدها، وهناك دلالات ومؤشرات ماثلة للعيان على الاستدارة الكلية لروسيا نحو الشرق، نكتفي بذكر ثلاثة منها خشية الإطالة.
(1)
فتح ممر نهر تومين – بحر اليابان
نهر تومين هو نهر ينبع من جبال تشانغباي ويجري في شمال شرق الصين بين حدود الصين وكوريا الشمالية في أغلبه مشكلا الحد الجنوبي لإقليم جيلين، ويحد أيضا بين روسيا وكوريا الشمالية عند آخر 17 كلم قبل أن يصب في البحر الشرقي (بحر اليابان) بعد قطع حوالي 525 كلم. تاريخيا كان مصب نهر تومين الممر البحري الأكثر سهولة للوصول إلى البحر في شمال شرق الصين، ولكن بعد توقيع “معاهدة آيغون” سنة 1858، و”معاهدة بكين” سنة 1860 بين روسيا القيصرية ومملكة تشينغ الصينية تم تسليم المناطق الساحلية حول مصب نهر تومين إلى روسيا، وفقدت الصين حقها في الوصول إلى بحر اليابان وتحول إقليم جيلين إلى إقليم حبيس رغم قصر المسافة بين مصب نهر تومين وبحر اليابان حوالي 15 كلم فقط. أما اليوم فقد كشف البيان المشترك المتوج لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منتصف مايو الماضي للصين عن نية روسيا والصين بالتعاون مع كوريا الشمالية إحياء ممر نهر تومين – بحر اليابان من جديد، والعودة بعلاقات شبه المنطقة إلى ما قبل عهد الاستعمار والتوسع. هذا الممر لا يقل أهمية عن ممر طريق الحرير القطبي، حيث اقتصاديا يفتح الطريق أمام التعاون الروسي الصيني لتطوير مناطق الشرق الأقصى الروسي،
كما سيدفع باتجاه الاتفاق الثلاثي للتجارة الحرة بين كل من الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، ومن منظور عسكري فإن الممر يجعل من اليابان وما بها من قواعد عسكرية تحت فكي الكماشة الروسية – الصينية.
(2)
إنشاء خط سكة حديد الصين – آسيا الوسطى
تبلورت فكرة مشروع إنجاز خط لسكة حديدية بين الصين وآسيا الوسطى مبكرا بالتوقيع على مذكرة تفاهم بين الدول الثلاث الصين، وقرغيزستان، وأوزبكستان سنة 1997 لكن المشروع بقي حبرا على ورق لعدة أسباب على رأسها الأسباب الجيوسياسية ولطالما عارضت روسيا، وهي القوة المهيمنة تاريخياً في آسيا الوسطى المشروع. لكن اليوم وبعد الحرب الأوكرانية والاستدارة الروسية شرقا تحولت روسيا إلى أكبر داعم لهذا المشروع، وخلال الشهر الماضي تم رسميا التوقيع على اتفاقية لإنشاء خط سكة حديد الصين – آسيا الوسطى، التي يبدأ مسارها من حاضرة إقليم شينجيانغ مدينة كاشغر بالصين مرورا بقيرغيزستان، ومن ثم إلى مدينة أنديجون شرق أوزبكستان بطول يصل إلى حوالي 600 كلم، ويعد خط سكة الحديد أقصر بحوالي 900 كيلومتر من خط السكة الحديدية الحالي بين الصين وأوروبا، مما سيقلل بشكل كبير من تكاليف النقل ويحسن الترابط التجاري والثقافي بين الصين وأوروبا والشرق الأوسط.
(3)
إنشاء تحالف استراتيجي في قطاع الطاقة
إن التعاون بين الصين وروسيا في مجال الطاقة لا يعتمد فقط على اعتبارات المصالح الاقتصادية، بل أيضا على أهداف استراتيجية مشتركة، ورؤى تنموية طويلة المدى، وسيؤدي خط أنابيب الغاز الطبيعي “قوة سيبيريا 2” الذي يتوقع أن يكتمل في أفق 2028 إلى جلب حوالي 50 مليار متر مكعب من الغاز سنويا من حقول غرب سيبيريا التي كانت موجهة إلى أوروبا سابقا، وهذا ما سيؤدي إلى زيادة اعتماد الصين على الطاقة الروسية، التي شكلت خلال العام الماضي حوالي 70% من إجمالي وارداتها من روسيا. تعميق الاعتماد على الطاقة الروسية وإن كان يتعارض مع استراتيجية أمن الطاقة الصينية إلا أنه يجعل من الصين بديلا عن السوق الأوروبي، وهو ما يمهد الطريق لتحالف استراتيجي جديد في مجال الطاقة وحقبة جديدة. ومن دلالات التوجه الروسي شرقا أيضا السماح لإيران وبيلاروسيا بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، وكذلك تعزيز تسوية التجارة البينية بالعملات المحلية بعيدا عن هيمنة الدولار الأمريكي.
إن التكيف الديناميكي الاستراتيجي المتمثل في توجه روسيا كليا نحو الشرق بات يخلق الظروف المناسبة لتحقيق النصر في حرب تحرير الأمة السلافية (حرب أوكرانيا)، وهو ما قد يقود إلى تشكل القارة الأورو – آسيوية، وتسريع انزياح مركز الاقتصاد العالمي شرقا، وكذلك تسريع تشكل عالم ما بعد هيمنة القطب الواحد.