في مذكراته يروي الرئيس الموريتاني الراحل مختار ولد داداه صفحات مثيرة من تاريخ موريتانيا وقصة تأسيس الدولة الفتية إثر الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي سنة 1960. فبعد عقد الولادة العسيرة التي تسببت في قطيعة مع المغرب، ستواجه الدولة الفتية في عقد السبعينيات أكبر اضطرابات في تاريخها، عقد أدخلها في دوامة حرب في مواجهة جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر وليبيا معمر القذافي، على خلفية نزاع الصحراء الغربية الذي اندلع بين المغرب وجبهة البوليساريو ومعها الجزائر إثر انسحاب إسبانيا من الإقليم سنة 1975.
كانت كلفة تلك الحرب باهظة بشريا وماديا ولكن أيضا سياسيا، إذ فقدت الدولة الموريتانية طابعها المدني الذي أرساه المؤسس الراحل مختار ولد داداه، الذي أطاح عسكريون بحكمه سنة 1978 لتدخل البلاد في دوامة انقلابات عسكرية كرّست حكم العسكر على حساب المدنيين.
وبسبب قلة الموارد وهشاشة الاقتصاد وضعف الدولة الفتية، ظلت موريتانيا على امتداد عقود على هامش الأحداث في محيطها الإقليمي جنوبا وشرقا في علاقاتها مع دول غرب أفريقيا وشمالا في علاقات الجوار المغاربي وصراعاته المزمنة. لكن السنوات القليلة الأخيرة تحمل مؤشرات على دور متنام لهذا البلد، في ظل اكتشافات جديدة لموارد الطاقة والمعادن النفيسة، وموقعها الجيو استراتيجي بين شمال أفريقيا وغربها ووسطها.
بيد أن محللين يرون بأن دورا جديدا صاعدا لموريتانيا يمكن أن تكبحه بعض العوامل منها طبيعة الدولة الموريتانية ذات الهوية المتأرجحة بين انتماءاتها المتداخلة في المنطقتين المغاربية وغرب أفريقيا، وسلوكها الحذر بحكم تاريخها كدولة محدودة الإمكانيات في منطقة تتسم بحدة الصراع الجيوسياسي بين القوى الإقليمية والعالمية.
دولة ولدت وسط “عواصف وأمواج”
لم يكن إعلان قيام الدولة الموريتانية واستقلالها عن المستعمر الفرنسي أمرا سهلا بسبب تداخل روابطها التاريخية مع المغرب وخصوصا عبر منطقة الصحراء الغربية التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني، وطيلة العقد الأول من قيام الدولة الموريتانية ظلت في قطيعة مع المغرب الذي لم يعترف باستقلالها حتى نهاية الستينات، إثر مفاوضات شاقة دارت بين الراحلين الملك الحسن الثاني والرئيس مختار ولد داداه. وستشهد علاقات البلدين تحولا جديدا بسبب نزاع الصحراء الغربية.
ويكشف مختار ولد اداه في مذكراته التي نشرت قبل وفاته سنة 2003، باللغتين الفرنسية ثم العربية بعنوان “موريتانيا في مواجهة العواصف والأمواج”، الدور الذي كان يلعبه في الوساطة بين القيادتين المغربية والجزائرية، وكيف تحولت علاقات بلاده الحذرة والمتوازنة مع الجارتين الكبيرتين في منتصف السبعينيات إلى علاقة تحالف مع المغرب ثم حالة عداء مع الجزائر.
حدث التحول الدراماتيكي في علاقات موريتانيا المغاربية على خلفية اتفاق وقعته موريتانيا والمغرب وإسبانيا في مدريد في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 يقضي بانسحاب اسبانيا وتقسيم النفوذ على الصحراء الغربية بين الرباط ونواكشوط، وهو الأمر الذي لم تقبل به الجزائر التي كانت تدعم جبهة البوليساريو لإقامة “دولة صحراوية مستقلة”.
وسيتفاقم الخلاف بين الجزائر ونواكشوط، خصوصا عندما تكشف لاحقا أن الاتفاق جاء إثر اتفاق سري بين المغرب وموريتانيا. ورغم تهديد بومدين للمختار ولد داداه بالانسحاب من الاتفاق رفض هذا الأخير، كما يقول في مذكراته، الأمر الذي أعقبه هجوم على بلاده، حيث كان الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين يقود غرفة عمليات للجيش الجزائري في مدينة بشار جنوب غرب الجزائر، لدعم هجمات جبهة البوليساريو على موريتانيا، بموازاة الحرب المفتوحة مع المغرب. وأدت تلك التطورات إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في موريتانيا والإطاحة بحكم الرئيس ولد داداه من قبل عسكريين بقيادة العقيد المصطفى ولد محمد السالك.
ونتيجة هذه الخلفية التاريخية المريرة، ورثت الدولة الموريتانية موقفا حرجا إزاء ملف الصحراء سيحكم سياستها على امتداد العقود اللاحقة، فبينما تعترف نواكشوط بجبهة البوليساريو تحرص على لعب دور المراقب المحايد في النزاع.
ومنذ التوصل لوقف إطلاق النار وإقرار خطة الأمم المتحدة للاستفتاء بالصحراء سنة 1991، تتولى موريتانيا دور عضو مراقب بشكل دائم في اللجان التي شكلتها الأمم المتحدة للمفاوضات الهادفة لتسوية النزاع سلميا.
هل تتجاوز موريتانيا زمن الدور الهامشي؟
إثر استقلال موريتانيا حرص المستعمر الفرنسي السابق على إبقائها في دائرة مجموعة دول غرب أفريقيا، وكانت موريتانيا من الدول الأعضاء المؤسسين لـ “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” (إيكواس)، كما توجد ضمن نفس الإقليم في المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصناديق الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
ومن مفارقات التاريخ أن دور المستعمر الفرنسي السابق في عزل موريتانيا عن روابطها المغاربية القوية بحكم التاريخ والثقافة واللغة والدين، سيتظافر مع تركة ثقيلة من الاضطرابات في علاقات نواكشوط بجوارها المغاربي. كما أن انضمام موريتانيا لجامعة الدول العربية في سنة 1974 جاء متأخرا بأربعة عشر عاما بعد استقلالها. وفي سنة 1989 كانت عضوا مؤسسات لاتحاد المغرب العربي الذي دخل حالة جمود بعد خمس سنوات من تأسيسه، بسبب الخلافات الجزائرية المغربية.
وفي ظل فقر البلد وقلة موارده وضعف اقتصاده وبنياته التحتية وعدم الاستقرار السياسي وضعف مؤسسات دولة يتأرجح النفوذ فيها بين الجيش والقبيلة، ظل دور موريتانيا هامشيا طيلة العقود الماضية، ويُنظر لها كمنطقة رخوة أمنيا.
كما ارتبط الاهتمام الخارجي بالنفوذ عليها عبر المساعدات الاقتصادية، سواء كان ذلك من الدول الغربية أو العربية مثل ليبيا(حقبة القذافي) ودول الخليج العربي، حيث كانت المساعدات بالكاد تغطي نفقات موازنة الدولة الفقيرة، إذ لا يتجاوز ناتجها الداخلي الخام 9,9 مليار دولار، ويبلغ مستوى الدين الإجمالي للدولة 50 في المائة من الناتج الداخلي، بسحب إحصاءات البنك الدولي لسنة 2022.
بيد أن المراقبين لتطورات الأوضاع في هذا البلد، يرصدون ظهور عوامل ومعطيات جديدة في السنوات القليلة الأخيرة تؤشر إلى بوادر دور متنام للبلد في محيطه الإقليمي.
مؤشر أول: هل تصبح موريتانيا دولة غنية؟
حسب تقارير حكومية موريتانية ومؤسسات دولية متخصصة مثل منظمة الطاقة الدولية تتوفر في موريتانيا احتياطات تقدر بـ 400 مليون برميل من النفط و100 تريليون قدم مكعب من الغاز. وأعلنت الحكومة الموريتانية خلال العام الماضي “استراتيجية جديدة في مجال الطاقة تهدف من خلالها أن تكون ضمن الفاعلين المهمين في مجال الطاقة وإنتاج الغاز المسال وكذلك إنتاج الهيدروجين”.
وحسب مؤسسة “غلوبال انرجي مونتور” توجد موريتانيا ضمن لائحة دول حديثة الولوج إلى سوق الغاز في إفريقيا، وضمن هذه الدول السنغال والمغرب، وتتوفر على حوالي 84 في المائة من الاحتياطات الجديدة في مرحلة ما قبل الإنتاج.
كما كشف المدير العام لقطاع المحروقات في وزارة البترول الموريتانية المصطفى البشير مؤخرا في مؤتمر للطاقة عقد في القاهرة، أن حوالي 80 في المائة من احتياطات الغاز موجودة في حقل بئر الله والذي يتوفر على 80 تريليون قدم مكعب، أما البقية فهي موزعة ما بين حقل السلحفاة المشترك مع السنغال وحقول أخرى صغيرة.
ويجسد انضمام موريتانيا لمنتدى الدول المصدرة للغاز، الذي أعلن عنه في مؤتمر المنتدى الأسبوع الماضي في الجزائر، مؤشرا على دخول هذا البلد إلى نادي الدول المصدرة للطاقة في العالم. كما تتوفر على موارد واعدة في مجال الطاقات المتجددة تؤهلها لتلعب دورا مهما في خارطة الطاقة العالمية المستقبلية التي تعتمد على مزيج الطاقة كمصدر مستدام وتنافسي يضمن أمن الطاقة.
وإذا كانت موريتانيا تُعرف بمواردها الطبيعية مثل ثروتها السمكية الكبيرة في سواحلها التي تمتد أكثر من 750 كيلومترا على المحيط الأطلسي، بالإضافة للمعادن الكلاسيكية مثل الحديد والفوسفات والنحاس فقد أظهرت اكتشافات جديدة في السنوات القليلة الأخيرة وجود ثروات هائلة من المعادن النفيسة. وحسب تقرير “الصناعات الاستخراجية” لوزارة المعادن الموريتانية تتوفر البلاد على موارد وإمكانيات جيولوجية غنية بالمعادن النفيسة، وأظهرت الاكتشافات أكثر من 900 مؤشر معدني في مناطق عديدة من أبرزها سلسلة جبال الموريتانيد (وسط غرب البلاد) وحوض تاودني (وسط شرق)، التي “تحتوي على احتياطات كبيرة من الذهب والنحاس واليورانيوم..إضافة للكوارتز والألماس والكروم والمنغنيز والرصاص والبلاتين”
وتفيد دراسات حديثة وضمنها دراسة لمعهد فرانهوفر للأبحاث الألماني بتزايد أهمية المعادن النادرة للاقتصاديات الكبرى مثل اقتصاد ألمانيا نظرا لأنها ضرورية للتكنولوجيات الرئيسية والمستقبلية، كما تشير الدراسة إلى تنامي نفوذ الدول المصدرة وغالبا عددها محدود.
مؤشر ثاني: نقطة استقرار في ساحل أفريقي مضطرب
منذ دخول عدد من دول منطقة الساحل والصحراء في دوامة عدم استقرار سياسي وانقلابات عسكرية، اتجهت الأنظار نحو الجارة موريتانيا التي تربطها حدود واسعة شرقا وجنوبا مع مالي إضافة لحدودها الجنوبية مع السنغال.
ورغم وجود مخاوف من عدوى الانقلابات العسكرية على موريتانيا التي يتناوب عسكريون منذ عقود على حكمها، كثفت دول غربية من مبادراتها لدعم استقرار البلاد ومساعدتها في مواجهة التحديات الأمنية ومخاطر الجماعات الإرهابية التي تنشط في منطقة الساحل والهجرة غير القانونية المتفاقمة في ظل الأوضاع المضطربة بدول الساحل.
ويقيم حلف “الناتو” شراكة استراتيجية مع موريتانيا في التصدي لمخاطر الإرهاب وتهريب المخدرات والهجرة، كما يعول على نجاح مقاربتها الأمنية ضد انتشار الجماعات المسلحة، وسيطرتها على كامل أراضيها، في ظل سياق أمني معقد تمر به المنطقة.
وألقت التحديات الأمنية والحملة على النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا بظلال من الشكوك والقلق حول مستقبل الدور الأوروبي برمته في المنطقة. ودعا وزير الدفاع الألماني بوريس بوستوريوس خلال زيارته إلى النيجر في ديسمبر/كانون أول الماضي، إلى الخروج من “البرج العاجي” واعتماد “سياسة واقعية براغماتية” للتعاون مع دول الساحل التي شهدت انقلابات عسكرية.
وفي حوار مع DW يقول مالتي لييرل الخبير بمعهد GIGA الألماني للدراسات الأفريقية في هامبورغ: “لقد فشلت الإستراتيجية الأمنية الأوروبية الأصلية لمنطقة الساحل. ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق الآن بالانسحاب الكامل، بل بإعادة تنظيم الالتزام”.
ويرى محللون في برلين أن موريتانيا باتت بمثابة حلقة ثمينة من عقد انفرط تحت وطأة الانقلابات العسكرية والحضور العسكري الروسي عبر مرتزقة فاغنر، ويتعين تكثيف الجهود لدعم استقرار البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه خمسة ملايين نسمة يتوزعون على جغرافيا صحراوية مترامية بين شمالي أفريقيا وغربها، ويعيش نحو 40 في المائة من سكانه في فقر مدقع.
وكثف مسؤولون حكوميون ألمان زياراتهم إلى موريتانيا وأعلنوا تعزيز برامج التعاون لدعم التنمية في البلاد، وخلال زيارتها إلى نواكشوط في أغسطس/آب الماضي شددت وزيرة التنمية الألمانية سفنيا شولتسه على أهمية موريتانيا وقالت إن استراتيجية التعاون مع دول المنطقة بحاجة إلى الفعالية موضحة: “ثمة حاجة إلى حلول تعالج الأسباب الحقيقية للمشاكل في المنطقة ومن ذلك توفير آفاق للشباب ومنع انزلاق المزيد من قطاعات واسعة من السكان إلى دائرة الفقر”.
ومن جهته وقع الإتحاد الأوروبي مؤخرا اتفاقية للتعاون في ميدان الهجرة والتنمية الاقتصادية، وأكدت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية وبيدرو سانشيز رئيس الوزراء الإسباني خلال زيارة الشهر الماضي إلى نواكشوط أن الاتحاد الأوروبي سيقدم مساعدات قيمتها 200 مليون يورو، ضمن خطة شاملة تتضمن نصف مليار يورو مساعدات لإقامة مشاريع بنيات تحتية وفي قطاع الطاقة.
وقفز عدد المهاجرين الذين يدخلون إسبانيا بشكل غير شرعي عن طريق البحر بنسبة 300 بالمائة تقريبا في يناير/كانون الثاني الماضي ووصلت الغالبية العظمى منهم إلى جزر الكناري. ويقول مسؤولون إسبان إن حوالي 83 بالمائة من الزوارق التي نجحت في الوصول إلى الأرخبيل أبحرت من موريتانيا.
مؤشر ثالث: معبر أساسي للتبادل بين شمال وغرب أفريقيا ووسطها
تشهد علاقات موريتانيا الاقتصادية والتجارية مع الدول المجاورة ودول الإتحاد الأوروبي والصين طفرة ملحوظة، كما تسعى روسيا وتركيا لتطوير تعاونها التجاري والعسكري مع موريتانيا.
ورغم العلاقات التقليدية بين موريتانيا ودول الإتحاد الأوروبي وخصوصا فرنسا، دخلت الصين كمنافس قوي في السوق الموريتانية، وباتت تحتل مركز الصدارة في الاستثمارات الأجنبية بالبلاد، إذ بلغت في العام الماضي استثماراتها المباشرة 370 مليون يورو وتناهز قيمة المشاريع التي تنفذها في موريتانيا 1,38 مليار يورو. وتضع بكين موريتانيا في صلب مبادرتها للقرن 21 “الحزام والطريق”، ويتضمن تشييد بنيات تحتية وموانئ.
وعلى صعيد علاقات موريتانيا بجوارها المغاربي، تظهر مؤشرات التبادل التجاري مع المغرب تناميا ملحوظا في السنوات الخمس الأخيرة، حيث شهدت في نهاية سنة 2023 نموا بنسبة 58 في المائة وتجاوزت قيمتها 275 مليون يورو. ويعتبر المغرب مصدرا رئيسيا للمواد الغذائية والخضروات لموريتانيا.
كما يعد المستثمر الأول في موريتانيا على المستوى الإفريقي، ولاسيما في قطاعات البنوك والصيد البحري والبناء والبنيات التحية. وكان لافتا في السنوات القليلة الأخيرة أن استثمارات المغرب في موريتانيا تجاوزت استثمارات فرنسا الشريك التقليدي تاريخيا لموريتانيا.
وعلى خطى المغرب الذي يوسع في نشاطه التجاري والاستثماري في القارة الأفريقية، ويعتمد على الطريق البرية عبر موريتانيا (معبر الكركارات) للوصول إلى دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا، ضاعفت الجزائر في الآونة الأخيرة من مبادراتها بهدف تحقيق “استراتيجية شاملة” في التعاون بين البلدين، كما جاء في تصريحات للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال لقائه الرئيس الموريتاني محمد ولد شيخ الغزواني، لتدشين المعبر الحدودي البري بين البلدين، كما أُعطيت إشارة انطلاق العمل في طريق تندوف – الزويرات (موريتانيا) الممتد على مسافة 840 كيلومترا، وهو مشروع تنجزه الجزائر خارج حدودها ليكون منفذا لها نحو غرب أفريقيا. وأعلن البلدان عن مشروع إنجاز منطقة تجارة حرة بتندوف (جنوب غرب الجزائر).
تحديات في سبيل دور جديد لموريتانيا
يبدو أن الدور الموريتاني في محيطه الإقليمي والعالمي، بمثابة اكتشاف جديد لقوى عديدة، فالبلد ذو الموارد والإمكانيات المحدودة ومؤسسات الدولة الهشة التي طالما يُنظر لها على أنها منطقة أمنية رخوة بحكم إمكانياتها العسكرية المحدود حيث يقدر تعدد جيشها بخمسة عشر ألف رجل في بلاد تتجاوز مساحتها 1,3 مليون كيلومتر مربع وحدود برية تتجاوز خمسة آلاف كيلومترا معظمها بمناطق صحراوية، باتت موريتانيا الآن محط أنظار القوى المتنافسة بشراسة في المنطقة وخصوصا على النفوذ في أعماق القارة السمراء.
ويرى محللون بأن المؤشرات الدالة على تنامي الثروات الطبيعية وخصوصا ذات الطابع الاستراتيجي في أمن الطاقة والصناعات التكنولوجية المستقبلية، يمنح البلد فرصة واعدة في النهوض الاقتصادي وتقوية مبادلاته مع الخارج.
كما سيلعب موقع موريتانيا الجيوسياسي دورا حاسما في تقوية دورها كجسر للتبادل بين أوروبا وشمال القارة السمراء وغربها ووسطها، وإضافة للآفاق الاقتصادية والتجارية التي يتيحها هذا الموقع، تتطلع قوى عديدة مثل الاتحاد الأوروبي إلى دور موريتاني نشيط في مجالات الأمن ومكافحة الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة والهجرة غير القانونية. بيد أن دورا جديدا لموريتانيا في محيطها الجيوسياسي، سيظل في سياق الدور الناعم وكجسر للتواصل والسلام بين دول المنطقة، سواء تعلق الأمر بالنزاع الجزائري المغربي والصحراء الغربية وأزمات دول الساحل.
بيد أن محللين يرون بأن موريتانيا تواجهها تحديات يمكن تلخيصها في أربع رئيسية:
أولا: أن هويتها المتعددة بين انتماءاتها الأفريقية والعربية بقدر ما شكلت تاريخيا عنصر ثراء ثقافي وحضاري للبلد، فإن السياقات الجيوسياسية التي فرضت على الدولة الفتية منذ استقلالها عن المستعمر الفرنسي، جعله يتأرجح بين الفضاءات الإقليمية التي ينتمي إليها جغرافيا، أي المنطقة المغاربية والساحل والصحراء، دون بناء دور استراتيجي متكامل للبلد بمنأى عن التجاذبات الإقليمية.
ثانيا: يتسم نهج موريتانيا بحذر ملحوظ إزاء التكتلات القائمة أو الناشئة في المنطقة سواء فيما يتصل بمشروع أعلن عنه مؤخرا في مؤتمر إقليمي بمراكش لإقامة تكتل إقليمي للدول الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي ويضم دول الساحل لمساعدتها على الاندماج الاقتصادي، أو إزاء مساعي الجزائر لبناء تحالف مع دول الجوار مثل تونس وليبيا واستثناء المغرب منه. وذلك في ظل القطيعة في العلاقات الجزائرية المغربية والجمود المتواصل للاتحاد المغاربي.
ويكمن التحدي الأساسي في تحويل موريتانيا نهجها الحذر والحيادي في سياستها الخارجية، وخصوصا إزاء النزاعات والتجاذبات الإقليمية، إلى دور حياد إيجابي يساهم في تسوية النزاعات والاستفادة من الإقبال عليها كبلد واعد اقتصاديا لبناء شراكات تخدم السلام في القارة السمراء.
ثالثا: في ظل ضعف البنيات التحتية في البلاد، تحتاج موريتانيا إلى مشاريع استثمارية ضخمة، كي تصبح قاعدة للتبادل بين مناطق القارة الأفريقية. وهو ما يتطلب برأي الدكتور ديدي ولد الساك رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية بنواكشوط، تخصيص موارد مالية لإقامة بنيات تحتية كبيرة من موانئ وطرق ووسائل نقل حديثة. وقال الخبير الموريتاني في ندوة عقدها في طنجة مؤخرا مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية المغربي، حول “مستقبل المغرب الكبير” أن الدول والقوى التي تقدم لموريتانيا عروضا واتفاقيات عليها أن تتعامل معها “كشريك كامل وليس مجرد عنصر هامشي”. وتأتي إشارات الخبير الموريتاني على خلفية نظرة سلبية تاريخيا من قبل شركائها لدور موريتانيا.
رابعا: ويكمن التحدي الرابع في دور موريتانيا المستقبلي برأي عدد من الخبراء في موريتانيا وخارجها، في تطوير مؤسساتها السياسية وترشيد الحكم وسياساتها التنموية، عبر توسيع مجال التعددية وهامش الحريات القائم حاليا باتجاه ترسيخ مسار انتقال ديمقراطي يخرج البلد من النمط الهجين للحكم الذي يهيمن فيه نفوذ العسكريين والقبيلة.