مما كتب أيام رحيل الشنافي رحمه الله
(ابن مولود: ذِكَرٌ وأحاديثُ)
لا أمسك القلم فى هذه اللحظات لأكتب سيرةَ حياة، أو لأسطر ترجمة، أو أدبّج مقالة فنّية، أو أقدّم دراسة منهجيّة مُحْكَمةَ الحلقات، عن ابن عمتى الأستاذ اللَّوْذَعِىّ الراحل محمد بنِ مولود بنِ داداه الذى وافاه الأجل المحتوم بالعاصمة الموريتانية قبل أيام قلائل، أو لأعرّف به من لا يعرفه، وإنما هى نُتَـفٌ من ذِكَرٍ وأحاديثَ أجِدُنى مدفوعا إلى بثّها، وخواطرُ أشتاتٌ أُحِسّ برغبة مِلْحاح فى نشرها. ففى ذلك عرفان ووفاء، ومَسْلاة لى وعزاء.
وإن أنسَ لا أنسَ مشهدَ شيخ الإقراء واللغة ببلدنا الحَبْرِ الجِهْبِذ محمدٍ عبدِ الودود ابنِ حَمَّيْه – وهو شيخ كُبَّارٌ تعلوه سكينة ووقار – واضعا بين يديه مجلدا ضخما من مجلدات تاج العروس بفِناء دار عمّى الشيخ هرونَ بأبى تلميت، يطالعه الساعاتِ الطوالَ، وهو يتململ على حصير من الخُوص مُرْبَادٍّ.
لقد عرفت بأَخَرَةٍ أنه ربما كان يبحث فيه عن ضبط عينِ مضارعٍ فى باب فعَل بالفتح، أوعن زِنَة أحد مصادر الثلاثىّ، مما له صِلةٌ بشرحه للامية الأفعال الذى سوف أقرؤه عليه فيما بعد، ولكن لم تُسْعِفْنى الهمّةُ يومَها لأسأله – وكان بى حفيّا – أو أسألَ عمّى العالمَ المحقّقَ الجليلَ، عن ضبط نسبة الشيخ محمد مرتضَى الحسَيْنىّ.
كان ذلك من آثار الجَهالة والصِّبا.
وبعد سنوات من ذلك المشهد الذى أحسَب أنه تكرر أمام ناظِرَىَّ مرارا، وبعد وفاة الشيخين بعام واحد – لاقيت الأستاذ محمدا – وكانت اللّقيا المباشرةَ الأولى، فسألنى عن دراستى، وتجاذبْنا أطراف الحديث، وكنت أثناء ذلك مشدودا إلى حديثه، مأخوذا بسِحْر بيانه، وغزارة علمه، وتنوع معارفه، وسيَلان ذهنه. حتى إذا جاء ذِكْر التاج – وكنت قد نقلت منه قبل ذلك فوائد كثيرة، من نسخة المركز الثقافىّ الليبىّ فى العاصمة، وكانت شبيهة بنسخة عمّى – رحمه الله – أخطأت فى نسبة المؤلف، فنطقت “الزبيدىّ” بضم الزاى وفتح الباء، فانتهرنى الأستاذ على وجه التوبيخ، قائلا: إنما هو “الزَّبِيدىّ”، بفتح فكسر، نسبة إلى زَبِيدَ من بلاد اليمن.
وتلك كانت إحدى الثمار المُرّة لإهمالى سؤالَ الشيخين.
وكذلك تكون عُقْبَى التفريط فى العلماء.
ومثل هذه الحادثة سيتكرر له مع صديقى الأستاذ العالم الألمعىّ جمال ابن الحسن ـ رحمه الله ـ فيما حدّثَنِيه، فقد كتب جمال بمَرْأًى من الأستاذ كلمةَ “شنقيطِ”، هكذا بدون ياء فى آخرها، فزجره قائلا: ما كنت أظنك تأتى مثلَ هذا اللحن الذى درَج عليه الكثيرون، وبيَّن له وجه الخطإ فى ذلك، وسَرَيانَه إلى عناوين بعض المصنفات.
ولقيته ذات يوم، وقد تمَعَّر وجهُه، من خطإ فادح وقع فى فهارس مكتبةٍ تابعة لإحدى مؤسسات التعليم العالى، إذ لم يفرّق واضعُها بين ابنَىْ رُشدٍ الجَدّ والحفيد! وقد رأيت أنا فى تلك المكتبة، لذلك العهد، “إصلاح المنطق” لابن السكِّيت وقد وُضع فى قسم المنطق والفلسفة!.
كان هذا أولَ درس مباشر أجابنى فيه الأستاذ عن نُسَخ المصاحف العثمانية، وحدثنى فيه عن جملة من ذخائر المخطوطات الإسلامية المتناثرة فى خزائن العالم، وأعجبه أنى أُوثِر تفسير ابن كثير، لطعنه فى الإسرائيليات التى نقع عليها فى أغلب التفاسير.
وفى تلك الجلسة تحدّث الأستاذ عن علم اللسانيات حديثَ المتخصّص البارع، ووعدنى بأن يُعِيرنى بحثا نفيسا باللغة الفرنسية لأحد اللسانيِّين الغربيِّين عن الآراميّة وأصول اللغات الشرقية، ونشأةِ النحو العربىّ. وفعلا سَلَّمَنِيه بعد أيام، وكنا ندْرس تلك المادةَ لذلك العهد.
ومن لا يعرفُ الأستاذ حقَّ معرفتِه يحسَبه مؤرخا عاديّا، أو باحثا متخصصا فى فرع من فروع المعرفة لا يعْدُوه، أو نسخةً لأحد رموز الاستشراق.
لكن هيهات! فالأستاذ موسوعة علمية تزخر بالعديد من المعارف الإنسانية قديمِها وحديثها، علامة، ماهر باللغة العربية وعلومها وآدابها، عالم بتاريخ العرب وأنسابهم وأيامهم، متقن لتاريخ الجزيرة العربية، والصحراء وبلاد المغرب والسودان، وعمومِ إفريقيا وأوروبا، وغير ذلك من الأصقاع والأمم والأجناس، متخصص فى اللغات الشرقية، متمكن من قراءة المسنَد الحِمْيَرىّ والنقوش القديمة، مُجيد لأهمّ اللغات الحية المعروفة اليومَ فى العالَم، ضليع فى الفلسفة والفكر والأدب والنقد وتاريخ العلوم، خبير بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والعمران والقانون والإدارة، إلى معرفة شاملة عميقة بحضارة الإسلام ورموزها وأعلامها وتراثها، شديدُ الاعتزاز بها، وبالأمة التى ينتمى إليها، وباللغة العربية التى كان يتقنها أيَّما إتقان.
أخبرنى أنه كتب بحثا فى إحدى المجلات الألمانية المتخصصة، فقلت له: كتبتموه بالعربية؟ (وذلك بغية الاطلاع عليه لجهلى المطبق بلسان الألمان). فقال لى بحدّة وانفعال: تراه بأىّ لغة سيكون؟! وكان إلى ذلك كله مُفْرِطَ الذكاء، قوىَّ الذاكرة، مسكونا بحب المطالعة والكتُب إلى حدّ الهوَس. لا تكاد تقع عينُه على شىء إلا قرأه، يقرأ الجرائدَ والصحُف والمجلاتِ قراءتَه للمخطوطات والموسوعات، ويتابع الجديد فى دنيا المعرفة بجِدّ واهتمام.
وقد أوتىَ جلَدا على المطالعة وصبرا عجيبا على مواصلة الدرس والنظرِ، إلى حدّ أنه كان يقضى اليوم والليلة، أحيانا، دون أن يقطع بحثه إلا من ضروروة.
وربما اضْطُرّ القائمون على بعض المكتبات العامة على تركه فيها وإغلاقها عليه، عند نهاية الدوام. وقد ساعده على ذلك التحملِ العجيب ما حباه الله به من قوة البدن، وأنعم به عليه من الصحة طيلةَ عمره المديد. وحقّا فقد زاده بسطة فى العلم والجسم.
لم يهتمّ الأستاذ محمد طَوال حياته التى امتدت اثنين وتسعين عاما إلا بالعلم والمعرفة درسا ومطالعة، وبحثا ومذاكرة.
فلم يكن من عبيد الدرهم والدينار، ولا من محترفى السياسة، أو اللاهثين وراء سراب الشهرة والمناصب، رغم كفاءته التى يندُر مثلُها، بل كان قد نذَر حياته للعلم منذ نعومة أظفاره، وظل على تلك الجادّة إلى الوفاة، أو كما قيل: عاش “من المِحبرة إلى المَقبرة”. وما ظنك بعبقرىّ مثلِه انقطع للدرس والتحصيل ستة وثمانين عاما؟
لقد زهِد فيه مِن أهل بلده مَن لا يَقْدُر المعرفةَ حقَّ قدْرها، وهم – للأسف – الأكثرون، وظنّت الدهماء ومن لفَّ لِفَّها من أنصاف المتعلمين أنه يعيش حياة عبَثيّة، أو يسعى فى غير طائل، وكان يعى ذلك كله، ويقابله بعزة العالم، وترَفُّعِ العبقرىّ المجهول.
كانت متعة البحث، ولذةُ التنقير الدائبِ تشغَله عن صَلَف الحياة وقسوة العيش فى خُصّ عتيق، بين كثبان مَهيلة، ومُناخٍ قُلَّبٍ عَصيب.
لقد كانت سعادته فى تلك الصناديق الملأى بنفائس التراث، وفى تلك الأضابير التى تنوء بالعُصْبة أولى القوة، وفى تلك الأوراق المكدّسة، والخرائط الملفوفة.
لم يكن همّه يوما من الدهر أن يمتلك سيارة فارهة، أو مسكنا فاخرا، أو يتصدر المجالس، أو تلَمِّعَه الأضواء الزائفة. فها هو ذا اليومَ يمضى ولم يخلّف ثاغية ولا راغية، ولا صفراء ولا بيضاء. ولكنه خلّف كنوزا وروائع باقية على الدهر تمثّل عُصارة جهد عظيم.
جاء فى صحيح ابن حبان (6686) من حديث أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تنقضى الدنيا حتى تكون عند لُكَعَ ابنِ لُكَع”. وصححه الشيخ الألبانىّ رحمه الله.
لم يكن الأستاذ يجامل أحدا فى علم، بل يقذف فى وجهه بالذى يراه دون تردد أو محاباة، رئيسا كان أو مرءوسا. بل كثيرا ما كان يقول لبعض الأساتذة والباحثين: اسكت يا هذا فإنك جاهل.
ولئن أهمله من لا يرفع بالعلم رأسا، ويقيسُ مكانة المرء بالشهرة وضجيج الإعلام، أو بالمال والرياش وكثرة الأتباع، أوالتفَيْهُقِ والتعالم، أوحمل الشهادات، فقد وَجد ثلة من بنى جِلْدته يقدرون علمه، ويعرفون له مكانته، وينهَلون من مَعينه، بل ومن غيرهم ممن عبَر إليه القارّات، وورَد عليه من وراء البحار.
قرأ الأستاذ كتاب الكامل فى التاريخ لابن الأثير فى طبعته القديمة، وهى اثنا عشر جزءا، خلال شهر واحد من عطلة دراسية، وهو فى ريعان الفَتاء، فقد كان يأتى إلى والدى – رحمه الله – مغلِّسا، فيسلّمه الجزءَ الذى يحتاجه، وينفرد فى خيمة يطالعه إلى اشتباك النجوم.
وقرأ ألفية ابن مالك إلا الربعَ الأخير، وديوانَ امْرِئِ القيس ، خلال عطلة أخرى على العلامة المرابط محمد عال بن عبد الودود رحمه الله. وقد كان هذا الشيخ حريصا عليه لِمَا رأى فيه من حدّة الذهن، ومخايلِ النبوغ.
ولم يكن ذلك بالشىء الذى يخفى على أحد من العلماء الذين أخذ عنهم، أو حاورهم، حتى إن العلامة الشيخ عبدَ الله ابنَ داداه ـ رحمه الله تعلى ـ كان يقول: ما رأت عيناىَ فى أبناء الزوايا أفهم من هذا الفتى.
وفى ليلة من الليالى، وبعد رَدَحٍ من الزمان، وبعد أن أكمل دراساتِه النظاميةَ فى جامعات الغرب التى أضاف عطاءَها إلى رصيده المحضرىّ الأصيل، دعاه المركز الفرنسىّ لحضور ندوة ثقافية حول الحرب العالمية الأولى كان قد استدعَى لها بعض المؤرخين الفرنسيين، فلما ألقى ضيف المركز مُحاضرتَه طُلب من الأستاذ محمدٍ أن يشارك بكلمة، وكان توقُّعُ الجمهور أن تكون فى ربع ساعة أو نحو ذلك، فطفِق يتحدث عن تلك الحرب وملابساتها وأسبابها وأحداثها ونتائجها بلغته الفرنسية الرفيعة، لمدة ثلاث ساعات متوالية، فانبهر الحضور، ولم يستطع أحد أن ينبِس ببنت شفة.
وفعل مثل ذلك فى الجلسات المتعلقة بموضوع الصحراء الغربية بالمحكمة الدولية فى منتصف السبعينيات من القرن العشرين. ومما حدث هنالك أن أحد المشاهير بدأ يتبجح ويتعالم، فسأله الأستاذ عن مخطوط فى خزانة ليبية مشهورة له علاقة بمسألة النزاع، فإذا به لم يَطرُقْ مجردُ اسمِه مسامعَه من قبل! فأخذ الأستاذ يتحدث عنه ويدْعَم موقفه بنصوص مأخوذة منه، فبُهت الرجل وانقطع.
وقد بهر الحضورَ فى تلك المناسبة بما أبداه من علم غزير، وبحوث شاملة، وخرائط دقيقة، عن الصحراء طبيعةً وموقعا وتاريخا ومناخا ومجتمعا… حتى إن بعض رفاقه الذين يعرفونه من قبل، ويقدرون علمه، ويحفظون له مكانته، صرحوا بأنهم لم يكونوا يتصورون أنه قد وصل إلى هذا القدر من الموسوعية والاطلاع.
لم يكن الأستاذ مقلدا أو إِمَّعة، بل كان ذا نظر أصيل، وصاحبَ تطلع إلى التجديد.
وفى هذا الصدد أذكر أنه كان معجَبا بشيخ الإسلام ابن تيمية ويذكر عمقَ معرفته بالفلسفة وتنوعَ مجالاته العلمية، كما كان معجبا بابن يعيشَ النحوىِّ شارحِ مفصَّل الزمخشرىّ، ويرى فيه نحويّا أصيلا، صاحبَ فكر وتنظير. ولما أخبرتُه بأنى رأيت قبل سنين أن للأستاذ السورىّ مازن الوعر – أطروحةً أجرى فيها مقارنة بين آراء ابن يعيشَ النحويةِ وبين نظريات تشُومسْكى، سُرّ بذلك.
وكذلك كان معجَبا بابن حزم وابن خلدون، وبالنزعة التجديدية فى شعر جدنا الشيخ سيدى محمد رحمه الله.
وكان يكره السجع والتكلف والاجترار، وشعرَ المناسبات الذى يرى أنه مجردُ كلام موزون لا علاقة له بروح الشعر، أو إن شئت فقل: إنه نظم لا غَناءَ فيه. ولم يكن يُصدر الأحكام جزافا، فقد سألته مرة عن رأيه فى العقّاد، فقال لى: لقد ألف عباس محمود العقاد سبعين كتابا لم أقرأ منها إلا خمسة عشر، فلا يمكننى الحكم عليه من خلال هذا المقدار!
فأين هذا التواضع مما نشاهده اليوم، فى كل مكان، عند المؤلفين وطلاب العلم – إلا من رحم ربك – من الدعاوَى العريضة الكاذبة، والفِرَى المكشوفة، والنفاق فى سوق العلم، والتبجح بالألقاب، وعدم الأمانة فى النقل، وغياب الموضوعية فى إصدار الأحكام.
قبل أشهر أطلعنى الأستاذ على نقوش يمنية قديمة فى كتاب عنده، وقرأها لى بمحضر جمع كبير. وأذكر أنى حين دخلت معه مكتبة العبيْكان فى مدينة الرياض عام 1424هـ وكان قد حضر للمشاركة فى ندوة عن الهجْرات العربية من الجزيرة فى القرن الرابع الهجرىّ ـ لم تقع عينه على كتاب فى قسم التاريخ إلا عرفه، وأخبر أنه قد طالعه من قبل فى لغته الأصلية، فرنسية كانت أو إنجليزية أو ألمانية.
وبينما نحن نتجول فى ذلك الجناح إذ رأيت مؤلَّفا فى التاريخ ذا أجزاء، وكان هذه المرةَ بالعربية، فذكرت له عُنوانَه واسْمَ صاحبِه، فقال لى على الفور: لا أعرفه، لا بد أن يكون متأخرا جدا! وفعلا حين تصفحت أوراقه الأولى وجدت أن مصنِّفَه من مؤرخى القرن الحادى عشر الهجرىّ، وأنه مغمور لا يكاد يُعرف!
وأعجب مشهد شهدته منه: حديثُه المفصل عن أنساب الخيل وسُلالاتها وتاريخِها فى منطقة الحوض الشرقىّ، وخصوصا خيلَ الحمِنَّات، ومحاضرةٌ عن قبيلة كُنتة من أوّليّة أمرهم إلى الآن. فقد أفاض فى شأنهم – وكان بهم معجَبا – وتكلم عن شجراتهم وطبقاتهم، حتى وصل إلى أهل الشيخ سيدى المختار، فتحدث عنهم فردا فردا، وذكر من هاجر منهم إلى مكان كذا، ومن دفن منهم فى مقبرة كذا، ومَن… ومن… إلى هذا العهد.
وكان هذا فى مجلس والدى، لكنِ الأغربُ من ذلك كلِّه أنه لما جرى ذكر بعض الغزوات وأحداثِ السيرة النبوية، انبرى الرجل يتحدث فى هذا الموضوع الفسيح حديثَ امرئ لم يشتغل عمُرَه إلا بالمَغازي والسِّـيَـر، حتى إن والدى والأستاذَ الشيخَ إسحقَ بنَ محمد ـ رحمهما الله تعلى ـ وكان حاضرا، صارا يسألانه، ويستفيدان منه!
ومن عجيب مهارته فى السيرة وحسن سياقته لأخبارها أنه كان يقول لهما: كان هذا بعد الشتاء الذى أعقب غزوةَ كذا ، وبعد الربيع الذى سبق سَرِيَّةَ كذا…! وكان يُشيد بالخلافة العثمانية، ويرى أنها خدمت الإسلام وحضارتَه خدمةً جُلَّى. ويأخذ على بعض الفقهاء مظاهرَ من التعصب والجمود، وعدمِ المعرفة بالواقع الذى يعيشونه، حسب رأيه، ويلقبهم بمتفقِّهة البدو. وربما أغلظ القول فى ذلك.
وكثيرا ما كنت أراه يجالس كبار السنّ من العامة، ويسائلهم، وكنت أعجب من ذلك، ثم أدركت أنه يستخلص من مروياتهم ما يعينه على تفسير بعض الأحداث المحلّيّة وتحليلِ الظواهر الاجتماعية…
وأما عن معرفته بتاريخ هذه البلاد عموما أو “تراب البيضان” حسب الاصطلاح المفضل عنده، ومعرفتِه بأعلامها وشعرائها وأبطالها ومخطوطاتها، وأنساب أهلها، وما عندهم من فن وأدب فصيح، وشعر شعبىّ وتراث شفوىّ وتقاليدَ وعاداتٍ، فحدِّث ولا حرج. ومع ذلك فلا تقلّ معرفته بالجزيرة العربية والأندلس والمغرب، وتاريخ الحضارة الإسلامية عموما، بل والحضارةِ الغربية أيضا، عن هذه المعرفة الدقيقة ببلاد البيضان.
وكان يقول: إنه لا يوجد مجتمع بدوىّ له ثقافة مدونة إلا مجتمع البيضان. ولم يكن يرغب فى الحديث عن أنساب الناس رغم مهارته بها. وحين سأله قوم عن نسبهم قال: إنه لا يعرف إلا دروب القوافل!
وقبل سنتين تيسرت له العمرة وحجُّ بيت الله الحرام، فكان ذلك مسكَ ختام، نسأل اللهَ له به القبول وحَطّ الأوزار. والحديث عن هذا الرجل لا يسعه إلا المجلدات. وأما هذه الكُرَّاسة فلم نضع فيها إلا نُبَذا يسيرة من الذِّكَر والخواطر تليق بالمواقع والصحف السيارة.
وبغيابه اليوم عن دنيانا يكون العالَم قد خسر واحدا من أبرز علماء التاريخ والحضارة ورموزِ الفكر والأدب واللسانيات، عبر العصور)).
الشيخ إبراهيم ولد يوسف (المفتي)