شعراء الحسانية.. والتعلق بالوطن/ محمد الامين ولد لكويري
لم يخف الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض تعلقه بوطنه وحبه إياه والاعتزاز به، فقد تعلق الإنسان بوطنه وهام به حتى قيل: “إن أوطان الناس فلذات أكبادهم” وهي مقولة لا يحتاج إثباتها إلى كثير عناء، فكم دماء سالت في سبيل الوطن، وكم أموال تمت التضحية بها من أجله، وكم قوم اختاروا تحمل المشاق وشظف العيش في الوطن على الغربة مع الدعة والعيش الرغيد.
وهكذا فقد تعلق الموريتانيون بوطنهم، وأحبوه ودافعوا عنه وبذلوا في ذلك الغالي والنفيس؛ وهو أمر ليس بالغريب؛ إذ ثمت عدة عوامل تجعل هؤلاء يتفانون في حب وطنهم، إضافة إلى فطرة حب الوطن التي فطر عليها الإنسان.
ومن هذه العوامل ما يتعلق بطبيعة هذه الأرض التي تتنوع تضاريسها من رمال ذهبية، إلى سهول فيحاء، إلى قمم شماء … ومنها ما يتعلق بالساكنة مثل الكرم والشهامة والإباء … إلى غير ذلك مما يزرع في الإنسان الموريتاني حب الوطن والاعتزاز به أكثر من غيره .
وبما أن الشعر هو المرآة العاكسة لحياة المجتمعات، خاصة الشعبي منه بوصفه أشد ارتباطا بالحياة؛ فإننا سوف نسوق نماذج من الشعر الحساني تنبئ عن مدى تعلق سكان هذه الربوع بوطنهم، وفخرهم بقيم أهله، واعتزازهم بتراث الآباء والأجداد؛ فمن المعلوم أن ارتباط الإنسان بتراث بلد ما يغرس في نفسه حب ذلك البلد والتعلق به.
وقد أكثر شعراء الحسانية من “اطلع” و”الـﮔفان” التي يتحدثون فيها عن فخرهم واعتزازهم بتقاليد هذا البلد وعاداته؛ ومن ذلك قول الأديب محمد عبد الله ولد محمد آسكر الذي يعتز بعادات قومه ويفخر بها، وإن كانت توصف بالتخلف، فهو يفضل الحياة البدوية المتخلفة على حياة المدينة المتقدمة ولكنها المشوبة بالثقافات الوافدة، والدخيلة على هذا المجتمع الأصيل:
ذَ الزّر اهْلُ بُداتْهـــــــــــمْ باديتْهمْ بـﮔــــــاتْهـــــــــــمْ
مَزالُ كيف ابّاتْهـــــــــــمْ أهْل أشَوْد ؤُ رَحّـــــــــــالَ
ؤُ يَقدْمُ ظل أوْقاتْهــــــــمْ ما فيهمْ للْوقـــــــــــــت آلَ
ؤُ بـﮔففْهمْ وابْـﮔدْحاتْهـمْ وامْلاحفْهمْ واحْــــــــــــوالَ
ؤُ تَفْصَلْ بيْن اعْلياتْهمْ مَزلْت امْعَ الرّجّــــــــــــــالَ
ويعرب عميد الأدب الحساني الأستاذ محمدن ولد سيد ابراهيم عن تعلقه واعتزازه بتراث آبائه بصنفيه (المادي واللامادي) عند ما يحن إلى عهود “انبجان” تلك العهود التي ألف فيها محمدن ازدهار العلوم والمعارف الإسلامية؛ حيث قراءة القرآن الكريم، وعلوم اللغة العربية، ومختصر خليل، إضافة إلى حياة آبائه البدوية الخالصة؛ حيث تكاثر الأحياء ينتجعون مراعي “انبجان” وحيث الهوادج المتنوعة لدى الفتيات، مبديا أسفه لتغير هذا الحال؛ فيقول:
الدهــــر ال ؤرَ جــــيــــــــــلْ إغيــرْ ذاكْ الْ كــانْ اﮔبــَيْـــلْ
يَعـــْرَفْ لِنْســـانْ ؤذَ ثقـيـــــلْ إأثــــرْ ذاكْ اعْــلَ لِـــنْـســــانْ
ؤهاذ لُ بـرْهـــانْ ؤدلـيـــــــل كافِ من دليـــــل ؤبرهـــــان
امْنــادمْ يَعـرَفْ كـان اِعِيــــلْ لِلفــرْﮔــان الْ عنْـــد “انْبجانْ”
متْــلاحـﮒْ تَنْــدَغْ واكْمـاليــلْ لحْسَـكْ تشـاهــﮒْ والنيــــرانْ
واتْـــلاميـدْ اللوغَ واخْليـــــلْ تـﮔْــــرَ واتْلاميـــد القـــرْءانْ
ؤفَتَيــاتْ ايـــامْ الـــرحيـــــلْ احْـجبْهـــمْ تتْخــالفْ لَـلْـــوانْ
ؤلاَ ينْشاف ارْحيل ابْلا خيْلْ وافْلـوْقَـاتْ اتْشــالِ فرْســانْ
ؤجــــاه الْيــوم افْتَو الْمَقيــلْ مــا رَ ظـــلْ ؤلا رَ قــــرانْ
إوحـــــدْ بالــربْ الْجَليـــــلْ واِحقــقْ تقْليبْ الــــــزمــانْ
وكذلك نجد محمد ولد الهادي يحن إلى وطنه الذي ألف فيه التجوال بين أحبابه وحبيباته في “المحصر” بين تال لكتاب الله عز وجل، وطالب يقرأ متون العلوم الإسلامية؛ فهو يمارس عملية “التكرار”المعروفة لدى طلاب المحاظر “ومن ترك التكرار لا بد أن ينسى” وبين عالم يلجأ اليه لحل عويص المشكلات؛ يقول محمد ولد الهادي:
مَارتْ عــــنِّ شَبــــاب مــــَــرْ عــــاد ارْويص منْ فوﮒ احْمَرْ
والشيــب افْلــوخَــرْ عاد اكْثــرْ مـنْ لكْحــال ؤفيـه اصْليْجـــاتْ
والـلا ساكـنْ عـدتْ افْلبْــﮔـــــر نســـدرْ بيْنــات اعْـكيْــــــــلاتْ
تــجريــت ؤذاك افــَكـــــــــــرْ وَان هَــمِّ كــنْــت ارﮔـــــــــاتْ
والتسْــدار افــنـﮔْــــر المَحْصرْ بيْــنَ احْـبــابْ ؤبيْــن احْبابـاتْ
الِّ يـتْـــــــل والِّ اكـــــــــــررْ والِّ يَـفتَــحْ لـلْــمـشْـكــــــــلاتْ
ومن هذا القبيل قول الأديب داداه بن عبد الحميد، معربا عن تشوقه إلى الساحل حيث يطيب له الثواء، مع أصدقائه الكرام الذين يتقنون أحاجي النحو،ويحفظون الاشعار، ويحسنون تقدير الآخرين واحترامهم فهو يتجول بين أحياء “انتاب” من حي لآخر:
مْتْمَنِّ نَجْبَرْ دهْر اطْويــــــــــلْ في السّاحلْ متْمَوْنَكْ لمْـﮔـيـــــــلْ
والْمَبِيت الزَّيْن الجميــــــــــــلْ واشْمَ ذَ نَجْبــــــــــــــــــَرْ عَرّابَ
تْحكِ بيت ؤُ تَعْرفْ سبِيــــــــلْ الفُتُوَّ واللَّبــــــــــــــــــــــــــــــابَ
واشْمَ مَرَّ منْ حد اصدِيـــــــــﮔْ خطيب ؤُ يعرفْ لمْهــــــــــــــابَ
وانْتَم الّا منْ عنْد افْرِيـــــــــــﮔ انْتابَ لفْرِيـﮔ انْتــــــــــــــــــــــابَ
كان هذا عن حب الوطن الناتج عن طبيعة الساكنة وحياتها الثقافية، أما حب الوطن والتعلق به؛ من حيث هو مهد الصبا ومنبع الذكريات وموطن الآباء والأجداد؛ فحدث عنه في شعر الحسانية ولا حرج.
فقد تفانى شعراء الحسانية في حب هذه الربوع وتعلقوا بها، فلا يكاد يوجد شاعر حساني واحد إلا وقد تضمن شعره الحنين إلى الوطن والتعلق به، ولعل لذلك ما يبرره حيث أن هذا المجتمع كان مجتمعا بدويا ، يعيش حياة الحل والترحال ، فما إن يألف الإنسان منه دارا لتصبح وطنا له ، ويرتبط بذكرياتها حتى يرحل منها إلى أخرى …وهكذا، فلا يمكن للشخص هنا أن يعيش خليا مرتاح البال بفعل كثرة الدور وتراميها ، وهذا ما يعبر عنه ولد اليدالي وهو يمر على دور أحبته في الجنوب الواحدة تلو الأخرى فيقول :
أزعـمْ يَعكـــلِ مانـــكْ ﮔـــــاع لاهِ مــنْ دوامْ الـتـلْيــــــاعْ
اتخـوظْ اعْـلَ دارْ امْـن انـواعْ ادْيــاراتْ احْـزيمَـكْ لـكْبـارْ
الِّ فالـﮔـبْلَ تـِﮔـطــــــــــــــاعْ مــا مشيــــت الدمْــع ابْلكْثارْ
صَــونْ ﮔــاع الدمْــعْ ؤخلِّيــهْ يعــﮔْـڸِ تَـرْجـعْ تفْـصـلْ فيـهْ
ويـلَ عـاد الا فـرْظْ اعْـلـيــــهْ الـمشْـي اعْــل دار ابْـلـوْكـارْ
ؤلـخيـظْ اعْـلَ دار اِمـشِّـيـــــهْ مــنْ كــيفنْ عاد اعْليهْ العـارْ
راعِ هــاذَ ولْ انْــجـكـــــــاكْ ؤذاك الـفرْعْ ؤذاك انْــجــلارْ
ذاك افْـطـــنْ عنْـدُ دارْ ؤذاكْ عنْـــــدُ دارْ ؤذ عنْـــــــــدُ دارْ
وحول تعلق هؤلاء الشعراء بالوطن وتفانيهم في ذلك نسوق “ﮔــافا” للأديب محمد الحسن ولد سيد عبد الڸ ولد شاش يعرب فيه عن حبه لشيء واحد من هذه الدنيا هو “لعْبَارَ” و”لعبار” فقط؛ فهو يتمنى أن يبقى بجانب لعبار وإلى الأبد لكن دوام الحال من المحال:
لُكـانـتْ فـي الدّنْــي مـنْــي حــد اتـمْ احْــذَ لـعْبــــــــارَ
غير اص يــالْعــﮔـْلْ الدنْي ألا تــــــــــــــارة وتــــــارَ
ولا تغيب عن ذهن الشاعر سيدي محمد ولد الـﮔـصري صور أوطانه في إنيم وأكفس وانواشيد والظاي مهمى كانت الظروف فلا يفتأ يذكر هذه الربوع حتى وهو غارق في ادكار الموت وزوال الدنيا حيث يقول :
لاَ بــــدَّ مــــن دهْر ؤرايَ بعــــد إِجِ وانــــعــــــــودْ ارْوايَ
تشْتَــد اخْــبــــارِ واغنــايَ ذكــــر فيــه ادرَسْ مــاهْ اجْــديــدْ
يسـول عـن حـــــــد ؤراي كـط ادرك دهـري مــاه ابعيـــد
واتَّــــم الــدنْي خـــــــلايَ مــا خـسْـرتْ واِتــم انْــواشـيـــــدْ
واكْـفَـسْ واِنِــيــمِ والظاي ينتــزْلُ ذاك الـــــدهْر اَكـيــــــــدْ
افــنَ بِــنــاي الـبـــنـــــايَ وانقـــرْضُ مُـلــوك اصـنــاديــدْ
ؤهـاذاك ادْليل اعْلَ افنـايَ وارحمْــنِ لَــجيتــكْ وحـيــــــــدْ
يــالِّ مـا تَفـنَ وارجـــــايَ لا خــاب افـكــرمَــكْ يـالمَـجـيــدْ
وفي شعر الأديب سيد ولد الداهي نقرأ صورة من التفاني في حب الوطن والتعلق به قل أن يوجد لها نظير ؛ فهو، وإن كان يأسف لخلو أوطانه في “الغرد” و”غسرم” و”احسي لغنم” و”الزيات” …، فإن عزاءه الوحيد هو أن هذه المواضع لا تزال باقية في أماكنها، وتلك – حسب سيدي – نعمة تستحق أن تذكر فتشكر؛ يقول سيدي:
كان الغرْدْ اخْل منْ حياتْ فيهْ اتعودْ اﮔــبڸْ دهْر اعْياتْ
واخْلاتْ الزَّياتْ ؤﮔــفـاتْ يحْكــمْ عـنَّ مـنْ ذاك اعْـظـمْ
واخْل غسْرمْ منْه واخْلاتْ لخْـــوواتْ ؤعــادتْ عـــــدمْ
عنْد احْسيْ الحرْثْ ؤلاتاتْ بــاحْسـيْ – افْطنْ- لغْنمْ تلْتـمْ
اخْـلَ هاذ منْ لـحْسيَّــــــاتْ يـوْجـعْ حـدْ اليـوْم اتْـخـمَّـــــمْ
غير احْمدتْ الْواحدْ فالذاتْ الِّ بـعْــــد الغـــرْدْ الاَّ تـــــــمْ
افْبــــلُّ وامْـعـــاهْ الــزَّيَّـاتْ فـبْلــدْهــمْ مــزالُ ؤغـسْـــــرمْ
مزال افْبــلُّ ؤلــخـــــوواتْ تحْــت المـﮔْــسـمْ مـــزالُ ﮔــمْ
ؤمزال احْسي الحرْثْ اﮔْــبالْ حدْ اصْــلُ يعْــرفْ بـلُّ فـــمْ
افْـبــلُّ وافْـبـــــلُّ مــــــــــزالْ زاد احْســي – املِّ – لـغْنمْ
أما الشاعر احمد سالم ولد مولاي اعل فهو يعرب عن حبه لوطنه في تيـﮔـند ولفريع وزرات عيشة وعلب النخلات، لا ليعيش هناك بين الأهل والأحباب ومجتمع الخلان فحسب، بل هو يفضل – إذا حان وعد الله المحتوم – أن تكون نهايته بين هذه الربوع؛ فكأن الموت أخف عليه هنالك؛ يقول هذا الشاعر:
تـﮔـنْـد ؤُلـفْريـــعْ ؤزِراتْ عيْشـة وازْويـرات اخْـراتْ
ساحلْ ذاكْ ؤبَل النخْـلاتْ والعلْـبْ ؤحـوْمـتْ حـاسيهمْ
منْ ساحلْ وانْباكْ اكْبراتْ ﮔـــبْلتْ ذاك اﮔْــسَ سـَمِيهـمْ
هـاك افْـلبْتيْــت الا لُـتـاتْ ابْـلادْ اﮔْــبـالْ امْـدَوْغـيـهـــمْ
فالـدنْـي راعِ ذُ لَـبْــــــلادْ مـا نـبْدلْـهــمْ بـالـخاطيـهـــــمْ
وامْــنيْن انـموت امل زادْ نخْتيـر انْمــوت الا فـيـهــــمْ
ولنختم بطلعة للشاعر الهادي ولد بدي تنبئ عن صورة عجيبة من عظمة وطن هذا الشاعر في نفسه فهو يعز عليه أن يولي ظهره شطر “الطلحايه” ويجرد من نفسه شخصا ءاخر يحذره من مغبة الإفصاح عن ذلك ما دام بإزاء “جيمجار” خشية أن يعلم هو الآخر “ام اﮒـنتور” وهذه إن علمت – حسب الهاي – فسوف يحصل ما لا تحمد عقباه:
عَوْدان الطّلْحايَ في اﮔْفـــــــاكْ شَطْنَكْ يا بالِ غير ارْعـــاكْ
منْ تسْمِيهَ مَزال احـــــــــذاكْ جيمُجار افْطَنْ جدْر اعْــــــدُ
كان اسْمَعْ عَنَّــكْ ذاك ؤُراكْ اعْلَ امّ أﮔـنْتُــــــــــور إردُّ
ؤُ ذِيك إلى سَمْعتْ عَنّكْ ذاكْ ذاك إعُود أكْبَرْ منْ ﮔــــــدُّ
وبهذا نأتي إلى ختام هذه العجالة التي لا تكفي لسبر أغوار هذا الموضوع الطويل والعريض، لكن كما يقال: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
من محاضرة ألقيت ذات أمسية سنة 2011