الممكن والمستعصي في «حماية» اللغة العربية/ بسمه عبد العزيز
خلال السنوات الأخيرة، ازدادت حال اللغة العربية تدهوراً على الألسنة، وعبر المكتوب بها عموماً، ولم تجد حامياً، إلا في ما ندر. الحقُّ أن مَجمَع اللغة العربية المصريّ، سمع الأصوات التي استغاثت به، واستنجدت، بل ولامته مِراراً على غيابه عن الساحة، وانعزاله عن المُجتمع. استجاب المجمع في النهاية، ونظَّم أخيراً برنامجاً ثقافياً يتعلق باللغة، ويُتاح حضوره لعامة الناس، كما أعدَّ قانوناً، يُراد به وَقف الانحدار، والنهوض بلغتنا مِن عثرتها وانكفائها.
قرأتُ القانونَ أكثر مِن مرة، كثيرُه موضوعيّ يمكن البدء في تنفيذه على الفور، وبعضه يبدو عصياً على التطبيق، وقليلُه أراه في زُمرة المُستحيل. أما عن البنود التي تتسم بالموضوعية، فمثل إلزام الهيئات والمؤسسات الحكومية، باستخدام اللغة العربية في مُخاطباتها ومُراسلاتها وأنشطتها الرسميّة كافة، وأن تكون هي اللغة التي تُكتَب بها البياناتُ التجارية على السِلع، وبها أيضاً تحرَّر أوراقُ النقد والطوابع والشهادات العِلمية، ويضاف إلى هذا وذاك تسمية الشوارع والأحياء بأسماء عربية سليمة، أما أسماء الأعلام الأجنبية، فتصحبها نَبذة حول أهمية صاحبها أو صاحبتها، والإنجاز الذي يبرر التسمية.
وأما مما يبدو مُستعصياً على التطبيق، مطالبة القانون بأن تعتمد الدولة سياسة لغوية مُلزمة للكيانات التعليمية، والبحثية، «لتعريب تدريس العلوم كافة في المدارس والجامعات». أعرف أن مُقترحاً شبيهاً بهذا البند، قدَّمه المجمع منذ سنوات قليلة إلى مسؤولين حكوميين بارزين، يشغلون مَناصبَ كبرى في وزارة التعليم العالي وفي الجامعات، ولاقى رفضاً قاطعاً بما حوّله إلى حبر على ورق. نتذكر في هذا الصدد التجربة السورية الرائدة، التي عنيت بتدريس العلوم الطبيعية والطب باللغة العربية، وأكدت الشواهد نجاحها، فاستعان كثيرٌ من الطلاب المصريين بترجمات أشقائهم، لتحويل ما استعصى من الكلمات والمصطلحات الإنكليزية إلى العربية داخل النصوص العلمية.
يقول القانونُ «إنّ اللغةَ العربية الصحيحة هي لُغة البحث العلميّ». تلفت النظرَ هنا صفةُ «الصحيحة»، إذ تضرب على الوتر المَعطوب، فالمسألة ليست مُجرد قانون لفرض استخدام لُغة بعينها، إنما المُهم هو استخدام اللغة، صحيحة وسليمة ومعافاة، والأزمة هنا تتبدى في انعدام الكفاءة، وعدم الإلمام بالقواعد، إضافة إلى الشعور السائد بعدمِ أهمية اللغة العربية؛ كونها لم تَعُد لغةً لأمةٍ تُنتِج المَعرفة، أي؛ هي ليست لغة البحث العلميّ في واقع الأمر. أظنّ أن على مَن يكترثون لمآل اللغة ومصيرها، أن يعملوا على خَلق مِضمار تنافُسيّ تتشارك فيه الدول العربية كافة، وتَتقدّم إليه الأبحاث العِلمية مِن مختلف المجالات، شرط أن تلتزم في متونها العربية السليمة. ولا بُد أن يكون هذا المِضمار ذا قيمة مُغرية. لا أقصد قيمته المادية فقط، بل ومكانته المعنوية، وأهميته في المجتمع العلميّ. مما يستعصى أيضاً على التطبيق، ذلك البند الخاص بأسماء المَحَال التِجارية، والأسواق، والمشاريع الإنشائية، التي تُطلَق عليها أسماء أجنبية، وتملأ إعلاناتُها الطُرقات، فكثيُرها مَملوك للدولةِ نفسها، ولا أدلَّ على استشراء الآفةِ، مِن وجود الجمعيات الاستهلاكية الحكومية التي عنوانها «فاميلي ماركت». ولا يمكن حصر الإعلانات التي تُرَوِّج لمشاريع سياحية، ومُنتجعات فاخرة تشيدها الدولة أيضاً، ولا تُرى في لافتاتها مفردةٌ عربيةٌ واحدةٌ. المتابع أسماء الأسواق التجارية الكبرى في بعض دول الخليج، يرى تلك الآفة أيضاً، وإن كانت أقل استشراءً.
لا أروم مِن وراء ذِكر الأمثلة، إلا أن أضع أمامَ القارئ تلك المَلهاة مَنزوعة الضحكات، فالمَجمَع المصري يطلبُ مِن الدَولة أن تُقرّ قانوناً يُجرمها، بل ويُعاقبها على فعيلها باللغة العربية! أمر يدفع بتساؤلات عدة حول إمكان تمرير القانون، وتفعيله بصياغته الحالية وبما يُوقع الدولة موقع المُدان. يُلزِم القانون المؤسسات الصحافية والإعلامية، بتعيين مُصححين لغويين مؤهلين، لتحري صحة ما يُنشر أو يُذاع. أعرف أن المُصححين موجودون، لكن كثيرهم ليس مؤهلاً، فالأخطاء التي تعج بها صحف كبرى، لا يمكن أن تصدر مِن فرد عاديّ، ملم بقواعد اللغة البسيطة، وبالتالي فالمسألة أعمق من التعيين والتخصيص، إذ تستلزم بحث مستوى الخريجين، وإيجاد السبيل إلى رفعه.
تقول المادةُ الحادية عشرة من القانون، إن القادة والسياسيين وغيرهم، يجب أن يحرصوا على التحدث بلغة عربية سليمة سهلة، وذلك أمر محمود، بل واجب على من يضع نفسَه موضع المُتحدِّث أو الخطيب. في هذا السياق، لا أذكر أنني استمعت إلى جملة واحدة مُنضَبطة من رئيس مجلس النواب (البرلمان) المصري الحالي، ولا من رئيس الجمهورية ذاته، اللهم إلا عند القراءة من ورقة مُعدَّة سلفاً، وحتى تلك تكون في العادة حافلة بأخطاء، هذا غير أخطاء النُطق. والمقصد هنا هو أن النصّ على وجوب الحديث بعربية سليمة، يقتضي إعداد دورات في فنّ الخَطابة والإلقاء، يلتحق بها المسؤولون قسراً؛ لا اختياراً، وتلك مُهمّة أخرى أمام المَجمَعيين.
في البند السادس عشر ما يجيز تعليم لغة أجنبية إلى جانب العربية في المدارس، والحق أنني تمنيتُ لو استُبدِلَت مُفردة «يجب»، بمُفردة «يجوز»، فتُلزِم المدارس بتضمِين اللغات الأجنبية مناهجها، إذ لا تقوم للأمم قائمة مِن حال التأخر والركود، إلا بإجادة لغات الأمم المُتطوِّرة والترجمة عنها، حتى الوقوف معها على قدم المساواة، ثم السعي إلى الإضافة والتفرد، والقول بجواز تدريس لغة أجنبية، إنما يوحي بأن المسألة غير لازمة ولا مهمة، وإنها مُباحة على مضض، وعلى غير ترحيب.
نقطة أخرى تتعلق بالمادة الثانية عشرة، وفيها يذكر القانون أنه لا يجوز نشر مقالات أو أخبار أو غيرها باللهجة العامية، ثم ينصُّ لاحقاً على عقوبة، تتراوح بين الغرامة والحبس للمُخالفين. عن نفسي لا أحب أن يتحول الأمر إلى مَعركَةٍ بين العامية، والفصحى. فالعامية المصرية تتضمن ألفاظاً قبطية ومصرية قديمة، ولها نمط وتراكيب وجماليات، وفيها عبقرية في الاختصارات والدلالات والاشتقاقات. لا أرى معركة بين الاثنين، لكني في الأحوال كلها، أكره أن أرى مَن يتكلم أو يكتب بأي لغة، عربية كانت أو أجنبية، من دون أن يمتلك ناصيتها، ومن دون أن يحسن التعامل مع قواعدها وأدواتها، فيهينها ويهين نفسه.
أخيراً، ليس من البدع والشطحات، استنان قوانين تحافظ على اللغة والهوية، وقد وضعت مقاطعة كيبك الكندية تشريعات لحماية لغتها الأم، وهي الفرنسية، من أي جور أو عبث يهددها، وفي تلك التشريعات من البنود، ما يماثل بنود هذا القانون. هو جهد مشكور، يتصدى له علماء المجمَع المصري الأجلاء بعد طول انتظار، صحيح أنه يأتي في زمن عصيب، تتسيّده الأصوات الرديئة، ويسكنه الغثّ من العقول، لكنه خطوة أولى مهمة، يُرجى ألا تكون الأخيرة.
بسمه عبد العزيز/ روائية وطبيبة نفسية مصرية