من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(40) د. محمدو احظانا
أم الروايات
رواية حكم القاضي عبد الودود الحاجي على الأمير أحمد ولد امحمد(1)
سأل الأمير أعمر ولد المختار الحكيم ديلول:
” ما ألذ شيء في الحياة؟
فأجابه:
-ريق العافية”.
حاجيتكم ما جئتكم: ماذا يعني ديلول بهذا؟ قال الراوي.
فاجابه أحد الحاضرين:
-يعني أن العافية, أوالسلم الأهلي والصحة هما ألذ شيء في الوجود.
-أصبت في الرمية الأولى.
الفصل الأول
قال لكم ما قال لكم..:
إن رجلا من عامة الناس اشترى ربع فرس وزمامها من “ادفينجات”(2) أهل عيده عند أحد رجال البلاط في آدرار.
وشراء ربع الفرس أو رجلها إن لم يكن معها لجامها هو: أن تشتري ربعها وتتركها عند مالكها حتى تلد. وهنا لك الخيار فإما أن تأخذ مولودها وتخرج به من ملك ربع الفرس الناتجة، وإما أن تتركها لدى مالكها حتى تلد ثلاث مرات وتأخذ الفرس الأم.
أما إذا اشتريت جحفلها وربعها فلك أن تأخذها وتستغلها حتى تلد بكرها، فإن شئت خرجت به من ملكها؛ وإن شئت أخذ منها المالك الأصلي ثلاثة أفراس واحتفظت أنت بالفرس الأم ملكا خالصا لك، وخرج المالك الأصلي من ملكها، وملك ما تعقب.
الفصل الثاني
لم يزل الشاري وهو رجل من عامة الناس ينتظر حتى اكتملت له الفرس التي اشترى ربعها بعشر نخلات جيدة التمر من حمر الدلاء.
فلما كملت له أخذها ملكا كاملاا، وصار يركبها في المحافل، وصار كل الناس يعلمون أنه هو مالكها الشرعي.
فكر الأمير العادل أحمد ولد امحمد ولد عيده أن ينصب قاضيا عادلا في إمارته. وقرر أن يختبر قضاة إمارته ليختار أعدلهم.
وكان اختباره أن يقاضي صاحب الفرس على فرسه بدعوى أن أحدا من عامة الناس لايمكن أن يملك ادفينيجة أهل عيده، التي هي مدرك خيل الأمير.
دعا الأمير المالك إلى مجلسه المهيب وطلب منه إعادة الفرس لأخواتها في اسطبل الأمير إذ لاسبيل له إلى ملكها.
فقال له المالك:
– سيدي الأمير؛ هذه فرسي. اشتريتها بعشر نخلات من حمر الدلاء، وأشهدت عليها الشهود العدول.
قال أحمد ولد امحمد وقد أظهر الغضب والانفعال في مجلسه:
-كيف تملك وأنت من أنت، فرسنا الكريمة ادفينيجه وهي ماهي؟! أيصدق هذا أي منكم أيها المجلس؟ فأنعم بعض رجال المجلس للأمير المتغاضب وسكت البعض.
قال الأمير:
-سنتقاضى على القضاة، فإن قضوا لك فذاك، وإن قضوا لي رجعت إلى بيتك على قدميك بدون الفرس.
الفصل الثالث
صار الأمل الوحيد المتبقي عند مالك الفرس الشرعي أن يلجأ إلى شهوده، فلما جاءهما وقد سمعا الخبر، وغضب الأمير وغصبه للفرس، قالا للمالك الشرعي:
-نعلم أن الفرس لك ولكننا لن نضحي بدماء رقابنا من أجلها. سمعنا إن الأمير يصيب السماء ويخطئها غضبا لذلك لن نشهد لك على شيء حتى لا يهدر الأمير دمنا عن عيالنا.
ضع نفسك مكاننا.
****
لم يجد صاحب الحق شاهدا يشهد له في الحومة خوفا من الأمير، لكنه أصر على عدم التنازل عن فرسه الكريمة، لأن المال شقيق النفس كما قال..
****
في اليوم التالي دعا أحد قضاة الإمارة صاحب الفرس وأحمد ولد امحمد، فقال فلما حضر الخصمان أجلس الغمير إلى جانبه وقال له:
-سيدي الأمير؛ هات حجتك.
فقال له:
-هذه الفرس لي ومن مدرك خيلي، ومعي جيش من الشهود يشهدون لي بذلك. هؤلاء كلهم. ثم كيف يملك مثل هذا الرجل من عامة الناس فرسا لأهل عثمان ولد لفظيل، ولأهل عيده بالذات؟!
سأل القاضي الشهود فشهدت مستفيضة من علية القوم للأمير بملكه للفرس.
فقال القاضي لمالك الفرس -وأنت؟
فأجابه متلجلجا:
-هذه فرسي، اشتريت ربعها على يد الشهود بعشر نخلات من حمر الدلاء، وكل سنة يستوسم فيها بائع الفرس الجالس في طرف مجلسك.
سأل القاضي:
-وأنت أيها البائع ماذا قلت؟
فأجاب؛
-الكذب حرام، لقد اشتريت منه النخلات العشر بحر مالي، وذلك عهدي به.
سأل القاضي الرجل المدعى عليه:
-و أين شهودك على البيعة؟
فقال له:
-أشهدت عليها رجلين كنت أثق فيهما، ولكنهما اعتذرا عن الشهادة حفظا لنفسيهما من الأمير.
-إذن؛ لاشاهد لديك؟
-لاشاهد لدي غيرهما.
نطق القاضي بحكمه قائلا:
-بناء على صحة دعوى المدعي، فخذ فرسك أيها الأمير،
وودع الأمير بكل خضوع واستكانة.
****
أمر الأمير سائسه بحيازة الفرس، وقال لخصمه:
– إذا شئت ذهبت معك إلى أي قاض ترضاه.
فقال له مالك الفرس أختار القاضي فلانا..
ذهب الأمير والمدعى عليه إلى كل القضاة المعروفين في الإمارة، وكان كل قاض منهم يحكم للأمير..
إلى أن أوصلهم الجولان بالتقاضي إلى قاض يدعى عبد الودود بن محمد بن عبد الودود الحاجي.
فلما جاءاه وأراد الأمير أن يجلس بجانب القاضي قال له:
– إن كنت متخاصما فاجلس حيث جلس خصمك، واخلع عنك صفة الإمارة إلى أن أحكم بينكما، سلم بندفيتك لأحد حراسك.
جلس أحمد مع خصمه وقد خلع أبهة الإمارة أمام شرع الله وسلم بندقيته لمن يثق فيه.
وبدأت المرافعة. وكان الأمير يقاطع خصمه. وينقص منه، وينقص منه شهوده، ويشهدون بكذبه. فأمرهم عبد الودود أن لايتكلم منهم إلا من سأله. وإلا فسيخرجه من مجلس القضاء.
استجاب الأمير وشهوده لأمر القاضي الذي بدا من خلال نظراته أنه صارم وذو هيبة واحترام يفرضهما على من حوله عفويا. ويعلوه ظع ذلك بهاء الاستقامة والورع.
الفصل الرابع
بعد استكمال الحيثيات وشهادات الشهود قال عبد الودود للأمير أحمد:
-كل شهودك لايصلح منهم شاهد واحد لأنهم يخافون من تنكيلك إن لم يشهدوا لك، وقد شهدوا قبل أن أسألهم. وهم يطمعون في نوالك لأنك أميرهم وولي نعمتهم، وهم حاشيتك أكثر من ذلك. فشهادتهم لك مشبوهة وغير معتبرة. وحالك كحال خصمك لاتزيد عليه بأي مثبت شرعي.
أما أنت أيها المدعى عليه فقد قبلت دعواك وحجتك بقرينة الواقع والحال، حتى ولو أن شهودك كتموا شهادتهم ونكصوا عنها خوفا من بطش الأمير ولم يراعي حق ربهم.
وعليه سأنقض كل الأحكام التي أصدرها القضاة من قبلي، فهم إما خائفون أو طامعون في المدعي، أو قاصرون، يعلمون ولا يفهمون لتغفيلهم.
ولأنه لا أحد من عامة الناس يتجرأ على فرس للأمير فيغصبها هكذا أحرى هذا؛ وبما أنه قد ثبت لدي أن الفرس كانت تحت حيازته؛
وبما أن جحود البائع كيدي؛ ولا عبرة به لأن له نفس الدافع الذي يحدو شهودك لشهادة الزور؛
وبما أنه شهد ضدك دوز أن تعلم.. والاعتراف سيد الأدلة، حيث قال في شهادته: إنه اشترى نخلات المدعى عليه بحر ماله مما لا يفيد أنه اشتراها بغير الفرس؛ لأن الفرس من حر ماله؛
فإنني سأحكم لخصمك أيها الأمير.
خاطب عبد الودود طلابه:
ناولوني الدواة والقلم والورقة أيها الطلاب لأحكم على المدعي.
****
احتج أحمد ولد امحمد بقوة، واستعاد بنقيته، وأشهرها، وقال لعبد الودود مهددا:
-إن حكمت علي قتلتك..
فقال عبد الودود لطلابه: -حولوا بيني وبين عدو الله ورسوله حتى أحكم عليه بما وجب علب. وإن قتلني بعد ذلك على الحق فلا أبالي.
****
ضحك الأمير وسط دهشة الحضور وقال لعبد الودود:
-إنما أردت أن أنصب قاضيا أعلى في إمارتي، يخاف الله ولا يخافني، حتى أبني به أركان العدالة في إمارتي.
خذ أنت ياخصمي فرسك فلا سلطان لي عليها. وشجاعتك في وجهي تدل على أصالتك.
أما أنتم يا شهود الزور والبهتان، العصاة العداة فلا يريني أحد منكم وجهه بعد اليوم، لا في مجلس ولا في طريق أسلكه.. لا أنتم ولا المالك البائع، ولا الشهود على البيعة.
وكل حكم في إمارة آدرار لم يجزه عبد الودود الحاجي بعد اليوم فهو باطل لدى الأمير أحمد ولد امحمد.
****
عمت العدالة أرجاء آدرار حتى أصبح أمير العافية مضرب مثال في العدالة، لايضام في إمارته ضعيف من قوي، ولا يأخذ فيها أحد من أحد، ولا يعطيه، إلا خبرا.
****
قال الراوي:
وربطت أنا نعلي، ورجعت إلى أهلي، أبقاني الله سالما أحدث عن حكم القاضي العادل على الأمير، دائرا عن دائر.
……..
1- عبد الودود الحاجي هو عبد الودود ولد محمد ولد عبد الودود الحاجي. عالم جليل وابن عالم جليل. قاضي إمارة آدرار العادل الحاذق في حياته. من علماء القرن الثالث عشر الهجري.
-أحمد ولد امحمد ولد أحمد ولد عيده أمير آدرار العادل الذي شهد له الشعراء وعامة الناس ببسط الأمن والعدالة في إمارة آدرار. وهو من ممدحي الإمارة. قال فيه عبد الرحمن ولد المبارك ولد اليمين القناني:
من عافية أحمل امحمد// ول أحمد مايكبظ لغيار// حد الحد، اولا يعط حد//
الحد اتل ماه لخبار.
وقد أسهمت تدالة أحمد ولد امحمد في حماية قوافل التجارة المتجهة من شنقيط إلى ضفاف المحيط الأطلسي ونهر السينغال، مرورا بأطار.. وأثرت على طريق القوافل القديم المتجه منها إلى تشيت وولاته وتينبوكتو؛ تأثيرا قويا.
2- ادفينيجه: مدرك خيل من عتاق خيل إمارة أهل أحمد ولد عيده.