من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (36 تابع) / د. محمدو احظانا
أم الروايات
رواية فرس ولد بوفايده العاقلة
قال الأمير فراح المباركي رادا على سؤال ولد بوفايده في مجلسه العامر:
ذات مرة وأنا لم أحلق قرني بعد، أمرني والدي هنون لعبيدي(1) أن أسرج مهرتي الحوة(2)، وأذهب وحدي في أثر قطيع إبل لحي من المسالمين، مقيم وظاعن في حرمتنا، عدا عليه النهَبَة وساقو إبله شمالا منذ ثلاثة أيام. وقد حضر رجاله إلى الأمير ليخبروه ويطلبوا منه الحماية.
لما رآني الوافدون أخرج وحدي استقلوني على مواجهة فصيل من الفرسان، فقالوا لوالدي إن النهبة يربون على العشرين فارسا، مدججين بالسلاح.
فقال لهم:
-حانت حلاقة فراح لقرنه، وهذه فرصته.
ولم يزدهم.
****
أعددت بندقيتي الكشامية العنقية(3)، وملأت كنانتي من رصاص “المكشيط”(4) وبارود “الوندي”(5)
****
انطلقت، الحوة تطوي المسافات من أمامي و تخلفها ورائي؛ فما كذبت ولا صدقت حتى غشيتهم في “مواكل الصحراء” شمال ولاته بمقيل.
****
لما رأيت أعراف وذرى أمهات الأعناق و الرؤوس، وحولها الفرسان يخفرونها من كل الجهات، سابقتني الحوة في نيتي للقضاء عليهم، وما كاد يدركها.
رموني بوجه من الرصاص فجانبتها يمينا ويسارا حتى لم يعرفوا أين هي؟ ولا أين أنا منها؟ وصليتهم “لدحتين” جندلتا فارسين من فرسانهم، ومرقت بي الحوة كالسهم المجنون من بينهم.
كررت عليهم بالغارة الثانية فترامينا ونقصتهم بفارسين آخرين، ونجوت.
عدت للمرة الثالثة بغارة جديدة فأطحت باثنين من أبرزهم، وكررت راجعا فجندلت سابعهم وثامنهم.
لما رأوني أشن الغارة الرابعة وقد أرزأتهم في ثمانية من فرسانهم الأشداء تركوا لي الأرض حمراء والإبل وراعيها غير آسفين عليها وهم ينشدون السلامة ويتبرؤون من الغنيمة.
****
أخذت سلب الفرسان الثمانية وأمرت الراعي أن يحمله على جمله، ويعيد الإبل على آثرها، ولا يعجلها إذ لاخوف عليها، فساقها متماهلا، ولم أزل أخفرها وأحميها حتى مررنا في طريقنا بحي، وكنا عطاشا من الماء، لأننا كنا لا نشرب إلا لبن الإبل.
أعطوني إناء به ماء بارد. فحسوت منه الحسوة الأولى قبل أن أراجع نفسي.
لكنني تذكرت أن شرب الأمير قبل رعيته فعل غير نبيل، فأمسكت الماء في فمي، وأعطيت الإناء للراعي فلما شرب، ابتلعت حسوة الماء، وأخذت الإناء ثانية وشربت منه بعده.
****
عدت بالإبل والغنيمة ظافرا فأمر أبي بضرب طبله “الرزام”، وجز قرني على الملأ، في يوم مجد مشهود، شهادة له مني بأنني تفردت بمعركة حامية انتصرت فيها وحدي.
ولا علم لي بفعل ناقص قمت به غير تقدمي في الشراب، أبدا.
سأله ولد بوفايده متخابثا:
-وهل حدثت أباك بهذه المنقصة الشنيعة؟!
-لم أحدثه بها لأنني تداركت الأمر في وقته.
-لو حدثته بها لما جز قرنك. خذه يا سياف واحزم خرقة على عينيه، واربطه في جذع شجرة التنفيذ وارمه برصاثتين.
لقد صدقت الفرس وصدقت أنت لنبلك. لذلك لن نقطع رأسك، كما أنك حاولت تدارك المنقصة، بعد فوات الأوان.
قال الأمير فراح لولد بوفايده:
-مع أنك تتحامل علي يا أمير أخوالي، فسأنزل راضيا على أمرك، ولكن بشرطين:
الأول: أن لايقتلني غيرك.
والثاني: أن لاتدنس وجهي ولا ذراعي بالخرق.
فقام إليه ولد بوفايده ورماه برصاصتين، بعد أن سار فراح إلى شجرة الإعدام ثابت الخطو، وواجه راميه دون خوف.
****
ناحت النساء النوائح على ابن أختهم: فراح، وعم الحزن محلة ولد بوفايده ولم يسمع فيها ضاحك بعدها.
قام أحد أقران فراح -وهو ابن خالته- بقتل فرس ولد بوفايده رميا بالرصاص في مربطها، ونجا بنفسه إلى محلة والده في تكانت، وأبلغ خالته بمقتل ابنها وسببه، فناحت عليه نياحة عظيمة.
ولما أخبرت والده الخبر سألها:
-من تولى قتله؟
-فقالت له الأمير ولد بوفايده نفسه، صاحب الفرس العاقلة.
قال لها هنون العبيدي:
-لو أن قاتله غير الأمير نفسه لما طلبت ثأره، فهو المسؤول عن نتائج اختياره؛ لكن، لما كان الأمير نفسه هو القاتل فسأقتله تحت سنابك خيلي الجرب، فما أراد إلا أن يتحداني، ويستدرجني ليوم حاسم بيني وبينه. وأنا أقبل التحدي اليومه آت لا محالة.
الفصل التاسع
ضرب هنون العبيدي المباركي طبل الحرب “الرزام”، وارتحل بمحلته وحلفائه، خارجا من تكانت داخلا في الرقيبه فالحوض، وجالد أولاد بوفايده ومن شايعهم في بلدة تدعى كساري، وقتل أميرهم بسنابك فرسه، وقضى على إمارتهم، وأسس إمارة أولاد امبارك في الحوض سنة 1712م. وقد ازدهرت وقويت حتى فاض عنها الازدهار والقوة، و استمرت إلى غاية 1862م، لتأذن بالزوال كسائر الإمارات والدول.
قال الراوي، والعهدة عليه:
“ورجعت أنا عنهم، أبقاني الله سالما، أحدث برواية فرس ولد بوفايدة العاقلة، التي كانت سببا في زوال ملكه.
وأقصها على الناس دائرا عن دائر.
………
1- هو هنون لعبيدي بن محمد الزناكي، بن أعمر بن الفحفاح، بن بن امبارك بن محمد.. ثاني أبناء محمد الزناكي على إمارة أولاد امبارك بعد أخيه بو سيف.
أسس إمارة غو لاد امبارك في الحوض ولعصابة وباغنه بمساعدة من أخواله إدوعيش برئاسة امحمد بن خونا.. وبعض الحلفاء.
ملك قومه بعد معركة كساري جنوب مدينة النعمه حاليا، بينه وبين إمارة أولا داود بن امحمد بقيادة أولاد بوفايده، سنة 1712م- 1112ه.
2- الحوّه: مدرك من مدارك خيل أولاد امبارك.. صار إلى أهل اشماته من مشظوف بعد تأسيس إمارة مشظوف بقيادة أحمد محمود بن لمحيميد في الحوض سنة 1862م إثر معركة آكوينيت.
3- العنقية: (بكاف معقودة): بندقية ثنائية الماسورة. نسبت إلى تاجر سلاح من أولاد أبي السباع مشهور في مدينة اندر، يسمى بو عنكه وله ولد يدعى ولد بوعنكه ورث أباه في تجارة السلاح. قال سيد أحمد ولد آوليل في مدح سيد أحمد ولد المختار المباركي ذاكرا هذا النوع من البنادق (طلع الرسلات):
أظل بو عنكه يغنكه//
غبرته في الموت اعمايه.
وتسمى هذه البندقية أيضا: لكشامي؛ مقابل الفردي التي هي بندقية أحادية الماسورة.
4- المكشيط: هو الرصاص.
5- الوندي: هو البارود.
قال محمد العيور ولد آكمتار في مدح امحمد والد خطري، الذي هو خال السلطان خطري ولد أعمر ولد اعلي.. وامحمد هذا من ذرية بوسيف ولد أحمد. قال له في اتهيدينة التاسيديت:
ظل البارود فيكم إيزيّر//
او ظل المكشيط فيكم ايرعد.
..
م. أحظانا