من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية(31) / الأستاذ/ محمدو احظانا
أم الروايات
رواية: مرافعة “غُنيْْب” بعد دفنه
حاجيتكم ماجئتكم:
“الحي يحمل الميت، والميت يذرف دموعه على الحي”؟
بادر أحد السقائين وقد انضم متأخرا إلى حلقة الراوي، قائلا:
-سل بها خبيرا؛ أما الحي الذي يحمل الميت فهو الحمار، وأما الميت الذي يذرف دموعه على الحي فهو القرب التي يحملها وتقطر عليه.”
قال له الراوي مرتاحا من عدم مكابدة الأجوبة الخاطئة التي تورم الكبد:
-مرحى لك. هذه فائدة التجربة.
الفصل الأول
قيل لكم في ما قيل لكم:
إن رجلا غاصبا من القرون الماضية يدعي “غنيب” كان يتعسف على حي من فلاحي شمامه عندما يحصدون حقولهم كل سنة، فيأخذ من هذا مدا ومن ذلك مدين، ومن هؤلاء أمدادا.. دون أي مقابل؛ إلا ما كان من تهديد ووعيد، حتى إذا ملا أوعيته من الذرة البيضاء والدخن، حملها على بعيره الدائم الجرب، نحو أهله.
وقد شاع غصبه في السهول والتلال حتى أصبح مضرب مثل في الجور والغصب.
****
ذات قدوم في الحصاد أتى غنيب يقود بعيره الأجرب، وهو يحمل عليه أظرفة الحبوب.
لم يرزق الله غنيب البركة فيما يغصبه، فهو لا يملك مع غصبه الشائع إلا قطعة قماش جديدة من النيلة، مجهولة الأصل، وبندقية مشهورة بأن أحدا لم ير قط نارا تخرج من فوهتها. ولا سمع صادق ولا كاذب أنها استعملت يوما في صيد ولا حرب.
ولم يكن لديه من عرض الدنيا زيادة على هذا إلا رحلا مائلا، لايركبه إلا نادرا خوفا من انزلاق الغضاريف، وسروالا متقادما يتنازعه مع القمل، ولفق دراعة تناهشتها الأيام والليالي، بجيبها غليون وزناد وحجرة قادحة، وحفنة من القطن المشبع، ووعاء جلدي قديم يحوي حفنة من حصيد التبغ الرديء. أما معزاته الوحيدة فقد أكلتها الذئاب منذ سنوات ولم يملك بعدها كبد على كبده سوى الأجيرب.
وانتهت ممتلكات غنيب عند هذا الحد والعد.
****
لم يكد غنيب ينزل على حي الفلاحين، غير مرحب به، لولا الخوف من بندقيته المعطلة التي قد يعمرها الجن؛ حتى نزلت بعظامه حمى رجفة نافضة، أفقدته مالديه من وعي، وجمعته كله في نصف جلده، وطوت بقيته حتى يحتاج إليها.
الفصل الثاني
كان حي الفلاحين يزمع الرحيل إلى الذراع بعد نهاية الحصاد حيث التلال العالية هربا من لسع الباعوض الذي مرر عليهم حياتهم وأراحهم من جلودهم طوال فصل الأمطار.
ومع أن أهل هذا الحي كانوا يتمنون الموت العاجل لمتعهدهم غنيب، إلا أن قلوبهم الطيبة لم تطاوعهم في الرحيل عنه وتركه في الدار الخالية، على هذ الحال، فاصبح ورطة حية تؤرقهم.
****
ذات يوم وهم ينتظرون الفرج من السماء مر بهم رجل قال إنه من الزوايا، وشاء الله أن أنفاس غنيب انقطعت والضيف لايزال معهم، فقالت له جماعة الفلاحين:
-أنت من الزوايا وتعرف أحكام الجنازة. سنتعاقد معك على أن تكفن لنا هذا الميت وتكفنه بنصف قطعة القماشه هذه، على أن تأخذ نصفها الثاني أجرة لك على عملك. وعليك تسليم البعير الأجرب بما عليه لأهله وهم ليسو ببعيد من هنا.
الفصل الثالث
وافق الرجل على العقد المربح، فالقماش الجيد نادر، ويمكن دفن الأموات في أي لون منه حسب الموجود، وهذا الميت، ولو كان غاصبا متعين عليه شرعا. فلا مشكلة، إذن.
****
لما رحل حي الفلاحين وبقي الرجلان: الحي والميت وجدهما، وجها لوجه قال الدافن:
-أكفت لي أذنيك ياصاحبي: مادمت ياغنيب غاصبا غير فاضل كما ثبت لي عنك، وأنا فاضل، فلن أصلي عليك حتى لايأخذني الله بذنوبك. قال خليل: (وصلى عليه غير فاضل.)
ثم ما دمت قد مت بالمرض فسأعتبرك شهيدا من نوع ما. ولن أغسلك خوف أن يكون مرضك معديا فحق الأحياء أولى. والشهداء يدفنون كماهم، فسأدفنك لذلك بما عليك من ثياب متقادمة، واحتفظ أنا بقطعة القماش كاملة، لأن أهلي في أشد الحاجة إليها وحقهم كاشح.
اسمع يا غنيب أولا تسمع..سيان عندي.
****
حفر الرجل لغنيب حفرة سطحية لا تكاد تستوعبه، وجمع عليه دراعته، ودحرجه إلىها، ورمى عليه من طوب شمامه، وحثا عليه ما تيسر من ترابها، مما لايكاد يستره، ورمى بعض أغصان شجر الغضا الشائك على شبه قبره، ووقف عليه ليقنه قائلا:
-اللهم إنه غنيب، اللهم إن كان مسيئا فذلك المظنون، وإن كان محسنا فإنها لعجيبة.
وبعد أن التفت عنه التفت إليه متعاطفا وقال له:
-غنيب؛ شهد، خير لك.
وبعد أن ابتعد خطوتين عن القبر رق لصاحبه وقد صار إلى ما صار إليه، فالتفت إليه وقال:
-مسكين، عبيد الله غنيب، لقد أصبح في مشيئتك.. اللهم إن شئت فارحمه، وإن شئت ف..
أستغفر الله العظيم. أستغفر الله العظيم.
****
أخذ الرجل بخطام البعير الأجرب إلى أهل غنيب وسلمه لهم بما عليه من أظرفة خاوية وبندقية معطلة، ورحل مائل. أما بقية الممتلكات فقد دفنها معه.
ترك الرجل أهل غنيب بعد أن عزاهم فيه تعزية لا تطمئن على مستقبله الأخروي،. ثم ذهب وهو يتمتم:
-لوكنت أنا أنتم لما بكيته لحظة!
الفصل الرابع
في اليوم الثاني على دفن غنيب أحرقت جنبه شمس شمامه الحامية في قبره فاستقيظ من غيبوبته الكاملة، وأزاح عنه الطوب والتراب وأغصان الغضا، وانطلق غاضبا في إثر حي الفلاحين الذين دفنوه حيا. كما اعتقد.
ولما رآوه قادما تنادوا:
-جاءكم الميت غنيب.
فتركوا له خيام الحي ذعرا منه.
لكن رجلا من شجعانهم المعدودين استعاد رباطة جأشه، وتذكر “الموت ولا الدناءة” فعاد إليه وسأله من بعيد:
-أنت غنيب أم شبحه؟
-أنا غنيب بلحمه وعظامه.
-هل طردتك ملائكة الآخرة من برزخها لما جنيته في الدنيا، يا غنيب؟! أم أنك لاتزال ميتا على حالك هذا؟!
أجابه غنيب بنفس الصوت الذي يعرف:
-أسقني أولا، وأعطني مأكولا أسد به رمقي، وسأدخن في انتظارك.
قال له الرجل:
-قطعا إن حيا فأنت غنيب، وإن كنت ميتا فأنت غنيب.
-سأحكي لك حكايتي كاملة.
أخذ الرجل الشجاع، الذي يتكلم مع الموتى دون وجل، قعبا على سارية أمام الخيمة، وصب فيه حتى امتلأ من قربة ماء معلقة في جذع شجرة قريبة وأعطاه الماء وابتعد عنه، ثم نادى على بعض النسوة والرجال المذعورين من عودة الميت الحي: غنيب:
-هيا، غنيب حيا أو ميتا.
****
أقبل رجل، فرجلان، فامرأة فامرأتان، فجمع من الأطفال المتحسبين للهرب، وهم يضعون أكفهم على ثديهم المسطحة. وعيونهم البراقة تحملق في غنيب وعيونه الحمراء المحتقنة. عائد من قبره قطعا.
كان يعب الماء والدخان بالتتالي، فيسيل الماء من طرفي شدقيه، ويخرج الدخان عمودا رفيعا من مناخيره، فتيقن الفلاحون أنه ميت فعلا.. وما جاء إلا ليشرب ويعود إلى قبره، بإذن من سوالته ثم يضجع لهم فيه من جديد .
جلبت امرأة مجربة صرة من الدخن الطري وسلمتها للرجل الشجاع الذي كان قد ناول غنيب قدح ماء خشبي.
رمى له الصرة. فحلها وبدأ يسفها ويمضغها بنهم، فأشفقت عليه النساء وهن متراصات أمام الخيمة التي يجلس الميت داخلها.
الفصل الخامس
بعد سد غنيب
لرمقه من الماء والدخن والدخان.. بدأ يحدث الحي المحيط بالخيمة التي آوى إليها:
-أحرقت الشمس جلدي فأفقت، فإذا أنا في قبر لا يكاد يكفيني عمقا ولا طولا، وعلي من الطوب والتراب مالا يسترني، والأغصان الشائكة متشابكة فوقي، فأزحت عني كل شيء، وإذا أنا في خلاء من الأرض، ظننته رق المحشر ابتداء، وحصل في خاطري أنني أول من بعث من البشر، وبينما أنا أنتظر الزبانية ليأخذوا بي إلى مالك خازن النار، إذ تعرفت على منازلكم وآثار نيرانكم وأمدائكم، وروث حميركم، من حولي، ورأيت بيادركم وأكوام قصبها اليابس، فتيقنت أنني في نفس الدنيا التي أعرف.
****
انتفضت ونفضت عني الغبار، وتقفيت آثار حميركم إلى هنا، وأنا لا أعرف كم مت من الزمن؟
-نعرفه نحن؛ مت منذ يومين.
-ومن دفنني هذا الدفن المزري، المغشوش؟
-دفنك أحد الزوايا. لقد ادعي أنه خبير في أحكام الجنائز، لكننا لا نعرف كيف دفنك لأننا رحلنا عنكما وتركناكما وحدكما.
-لعنة الله عليه. كان غشاشا فقد دفنني دفنا سيئا للغاية.
و أين بندقيتي وجملي وأظرفتي، وقطعة قماشي؟
-لا تلمنا على شيء، ولا تطالبنا به فقد تنجينا من حقك. تعاملنا معاملة شرعية شفافة مع رجل عليه وسم خير، أن يكفنك في نصف قماشك، ويأخذ النصف الثاني أجرة له، على أن يسلم بعيرك الأجرب وأظرفتك وبندقيتك المهترئة لأهلك. وقد قال لنا إنه يعرف أين هم، وكان يعرفك بالسماع؟ وذلك عهدنا به.
-وهل بالأظرفة ذرتها؟
-كيف تكون فيها ذرة وأنت لا تملؤها حيا إلا بالطش والرش، والإلحاف والإلحاح..، والحال أنك ميت؟!
-سأعود إليكم وترونني عن قرب أيها الفلاحون التعساء.
قالت المرأة المجربة مخاطبة الرجال المندهشين:
-هذا قطعا غنيب بدليل كلامه البذيء وتهديده الأجوف.
الفصل السادس
خاطب غنيب ثلاثة رجال: محمد، امبارك، إبراهيم؛ شدوا لي إكافا على الخيذر حمار أهل إبراهيم، وأعطوني مراهقا يسوقه بي إلى أهلي.
-قالت النسوة بفم واحد:
أبناؤنا لن يذهبوا مع الأموات. لقد خرجت من قبرك للتو ولا نأمنك على أبنائنا، أما الرجال فهم أحرار في نفوسهم وبينك وبينهم.
****
قال الرجل الشجاع -سأذهب معه أنا وإبراهيم حتى لايموت علينا مرة أخرى في الحي، وسيحمل كل منا فأسه وعصاه، فإن رأينا منه مايريبنا، أو كان يحتال علينا ليفدي نفسه بنا لدى من لانعرف فلن نسبقه إليهم. سنصلي لله بدمه. كل د منا يغلبه ذراعا ويصوعه قلبا، وهو حي، فكيف به وقد مضغه الموت وتفله؟
الفصل السابع
أخذ الرجل الشجاع وإبراهيم سلاحهما وساقا الخيذر الطروب بغنيب إلى أهله، وكانا يتكلمان في الطريق وكأنه ميت يتنفس. لايعنيهم إن تكلم أو سكت، ولا يعنونه إن تكلموا أو سكتوا.. حتى أنزلوه أمام خيمته التي يصدع منها النواح عليه.
****
هرب عنه أهله ومن كان معهم من المعزين، وتبعهم الحي كله مذعورا، حيث استنتجوا نفس الفكرة التي استنتجها حي الفلاحين وهي: أن السوالة أعادوا عنهم غنيب إلى الدنيا مانحين إياه فرصة أخيرة عله يعرف كيف يجيبهم إذا سألوه: ما ربك؟
لكن ما لم يستوعبه الحي هو وجود هذين الرفيقين القويين اللذين يحمل كل واحد منهما فأسا تبرق حربتها تحت الشمس وعصا أبنوس تقتل حمارا بالغا إن ضربته.
الغريب أنهم أنزلوا غنيب ولم يكلموا أحدا، وعادوا يطاردون حمارهم وهم يركضون خلفه.
-مريب!! قال شيخ الحي. لكأنني في حلم تائه.
الفصل الثامن
بعد أن امتصت الرمال -كعادتها- غرائب الصحراء، وعجائب عودة غنيب من قبره، وبعد أن استقر كل ماء في حفرته، وتجمدت كل حيرة في رأسها.. عاد الحي، وبدأ الرجال يسألون غنيب من بعيد عن البرزخ؟ وما رأى فيه؟ فأخبرهم أنه لم ير إلا بعض الكوابيس الأليفة التي كانت تراوده حيا.
****
فحص غنيب نضده فرأى الأظرفة مرمية عليه، فاستأنس بذلك رغم أسفه على خلوها من الذرة.
أخذت زوجته تسأله دون أن تترك أبناءها يقتربون منه:
-هل ضربك منكر ونكير بمرازب الحديد، أم بمرازب النحاس؟
-دعيني من أسئلتك الحمقاء. لو ضربوني لرأيت أثرها علي.
سكتت السيدة على مضض وقد تيقنت أنه جفاء غنيب الذي تعرف، فعاودها اطمئنان حذر بأنه زوجها الجافي.
حضرت له عشاءه على عجل وأخذت أبناءها، ونامت معهم خلف ظهر أمها خوفا من زوجها الميت المبعوث.
الفصل التاسع
غنيب ليس هو من تعرفون. إنه من طينة أخرى قبل موته.
أما بعد بعثه فقد أدى دفنه ميتا في شمامه يومين، إلى أخذه لبعض خصائصها: ازدادت سمرته بكلف أسود، وتصلبت أرجاء نفسه، واكتسب عزيمة بليدة لا تلين، مع بعض التشققات في درايته، ومروءته ونباهته لما يجب..
لذلك كان أول قرار أخذه صباحا أن يشكو الرجل الذي غشه في دفنه إلى القاضي المرتب في الحي الجاور، حتى يستعيد قطعة قماشه كاملة.
****
على قرن الصباح قدم غنيب شكايته للقاضي المرتب، من الرجل الغشاش المحتال. فتصرف القاضي استعجاليا لغرابة القضية.
الفصل العاشر
أرسل القاضي المرتب للخصم أن يأتيه فورا وكان في حي قريب.
لما جاء الدفان ورأى المدفون غنيب جالسا بين الرجال يتكلم ويجادل.. أغمي عليه فزعا، ولما رشوه بالماء البارد، و أفاق هرب. لكن رسل القاضي تمكنوا منه وأعادوه إلى مجلسه.
فقال للقاضي وهو يرتعد: -أعذرني فهذه هي أول مرة أرى فيها ميتا يخاصم.
****
سأل القاضي الدفان:
-أتعرف غنيب هذا؟
-إن كان هذا الجالس فقد سمعت به من قبل غاصبا، ولكنني لم أشاهده عن قرب إلا ميتا. وإذا كان إدراكي لايزال بين جوانحي فقد دفنته قبل ثلاثة أيام في شمامه بيدي هاتين، ولقنته، وتركته في طبائق الأرض، وأعدت بعيره الأجرب وأظرفته، وبندقيته المعطلة إلى أهله في نفس اليوم.
قال غنيب مستهزئا:
-طبائق الأرض، وأنت لم تكلف نفسك عناء الحفر لي بعمق ذراع!! لو كنت أحسنت دفني لما كنت هنا.
الفصل الحادي عشر
التفت القاضي إلى غنيب وقال له:
الببنة على المدعي. هات حجتك، وحيثيات مرافعتك، وما تطالب به هذا الرجل.
تربع غنيب وتنحنح، وقال بصوت جهوري:
-تبارك الله، حجتي جاهزة، ومطلبي واضح، وحقي قائم.
حجتي سيدي القاضي المرتب أن هذا الرجل تعامل مع حي الفلاحين في “الكله” أن يدفنني دفن المسلمين، بعد أن يكفنني تكفينا محكما بنصف قطعة قماش من حر مالي.
ولكنه لفني على عجل في دراعتي المهترئة، هذه، وأخذ كل قطعة القماش، وحفر لي قبرا عمقه أقل من ذراع ولا يكفيني طولا، ولذا عنف ركبتي حتى انثنتا، وحثا علي حثوات الكلب من غبار وطوب شمامة، بما لا يواريني عن السباع أو يحفظني من المطر، ولولا ما رمى فوقي من الأغصان لأكلتني البهانيس حيا أوميتا.
فهو إذن، سيدي القاضي، لم يستحق علي نصف بيصة القماش التي تعاقد معه الفلاحون بها، لأنه لم يؤد مقابلها من الخدمة. فلا يستحق علي شيئا منها.
أما النصف الذي كان سيكفنني به حسب العقد الشرعي فهو سرقة بواح.
والمطلوب، سيدي القاضي المرتب:
أن يعيد إلي خصمي هذا قطعة قماشي كاملة؛ وتنفذ فيه أنت حكم السرقة بقطع اليد، كما في شريعة الإسلام.
الفصل الثاني عشر
أشاح القاضي بوجهه ومسد لحيته دون أن يفقد وقاره، وقد أعجبته بلاغة غنيب، وسأل الدفان وعيناه تتطايران شررا:
-وأنت أيها الخصم؛ قل لي قبل أن أحكم بينكما:
-مادام الله قد مكنك من هذا الجائر الذي دوخ العباد والبلاد بالغصب والتعنيف والحرابة، فلم لا تحفر له عميقا قدر قامة رجل من عاد أو ثمود، وتكفنه بكل قطعة القماش بعد أن تحشو فمه الذي لم يأكل به قط إلا حراما، وتدفع التراب فيه حتى ينسد حلقه تماما؟
-ثم لماذا لا تسد منخريه بطين شمامه المبلل لتحبس أنفاسه المشبعة برائحة التبغ والسيئات المقبولة، وتغلقهما بعد ذلك بلفافتين محكمتين، وتحزم على عينيه عصابة، وتخنقه بأنشوطة قماش تمنع روحه من العودة إن أرادت؟؟
-ثم لما مكنك الله من هذا الفاجر الظالم الذي لا يمر يوم إلا وجاءتني منه شكوى؛ فلم لاتشد يديه بوثاق من خلف ظهره، قيد جملك مثلا؟! وأحلف لك بالله العظيم لو أتيتني لعوضت لك القيد بقيدين أحسن منه.
-ثم قل لي بعدها: لم -وأنت متمكن منه- لا تشد القيد بوتد مرسوخ عند ظهره وتربطه به ربطا لاينفك؟!
-عجبا منك!
-ثم لماذا لاترسخ وتدا آخر عند قدميه وتربطهما إليه بقيد بعيره الأجرب؟ وأحلف لك بالله أن أعوضه لك بحبل طويل يمتح “بئر تكوره”.
-ولما أمنت من تخلصه وبراحه من الوثاق والوتدين فلم لاتذهب إلى شجرة طلح وتختار من ألياف لحائها ما تفتل به حبلا من مس وتلفه عليه من رأسه إلى قدميه؟! هذا غنيب مدوخ المسلمين والمساكين!!
-فإن أتيت كل ذلك بإتقان ودون تجاوز أي خطوة، فلمَ -وهو في قعر قبره السحيق- لا تشبع قبره ترابا، فتحثو عليه الحصا والطوب حتى تسنم عليه قبره؟!
كان غنيب ينصت ولا يصدق أذنيه وفمه فاغر من هول ما يسمع.
****
واصل القاضي وغضبه يصٌعد بخارا من رأسه دون أن يبالي بدهشة غنيب:
-ثم قل لي بحق ربك، وأنت تواري غنيب، لم لا تنهض إلى شجرة غضا كاملة وليس غصنا أو غصنين منها وتقطعها فرعا فرعا، وتثبتها فوقه؟! و أضمن لك دخول جنان الخلد بسببها، عصرا؟!
****
انتصب القاضي المرتب ونهر وزجر بعض الضاحكين من غارته الكاسحة على غنيب المبهوت. وقال بصوت مجلجل:
اسمعا نطقي بالحكم أيها الخصمان:
-حيث أنك أيها الدافن فرطت في إراحة المسلمين من قطع دابر الفاسق قنيب؛
-وحيث إنك أخللت بعقدك مع الفلاحين، ومن بعدهم مع سائر المسلمين، وفوت فرصة تخلصهم إلى الأبد من ظلم قنيب؛
-وحيث إنه لا يرجى لك خير في الدنيا ولا في الآخرة؛
-حيث أن غنيب قد صدق في أنك فرطت في دفنه دفنا يقطع حرابته، وجوره، عن عباد الله بعد أن تمكنت منه؛
فقد حكمت لك يا غنيب على صدقك في هذه بنصف قطعة القماش.
أما النصف الثاني فهو لك أيها الدافن، لا بارك الله لك فيه.
****
قال الراوي لحلقته التي استبدت بها هستيريا ضحك لا نهاية لها:
وعندها ربطت أنا نعلي ورجعت عنهم إلى أهلي أبقاني الله سالما، أحدث بحكاية الميت قنيب الذي رافع عن نفسه أمام القاضي المرتب، بعد دفنه بثلاثة أيام.
م. أحظانا