كلما حاولنا التخلص من “عُقدة التَّبَدي” كلما أوْغلنا في البداوة / احمد سالم عابدين
نحن والشجر: فصلٌ مِن قِصة تَخَلُّفِنا
عندما تكون مدرسة الأساتذة (الأنس) هي من يقطع الأشجار العريقة في مبنى المدرسة فلا معنى لغرس قيم التشجير لدى الطلاب والتلاميذ ولا معنى أصلا لوجود مواد دراسية تتحدث عن أهمية الشجرة. إنها جريمةٌ أخلاقية مكتملة الأركان: مدرسة الأساتذة تبيد الشَّجر.
كانت المدارس حتى وقت قريب نسبيا تهتم كثيرا بغرس الأشجار. في الابتدائية كان يفرض على كل واحد منا غرس شجرة في إناء بلاستيكي وإحضارها إلى المدرسة ليتم غرسها في الساحة. اختفت هذه الظاهرة التربوية الجميلة والبيئية والهامة في أغلب مدارسنا المعاصرة.
الأشجار مقدسة لدى أغلب ثقافات العالم. أما عندنا نحن فتنتشر ثقافة سب الشجر وثقافة قتل لشجر. إن مقولة “فلان مقطوع من جذع” تعبر عن احتقارنا اللاواعي للشجرة. هذه المقولة ليست انتقاصا من الشخص بقدر ما هي انتقاص من قيمة الشجرة قبل ذلك.
قبل سنوات قليلة تم قطع آلاف الأشجار خلال أسبوع واحد في مقاطعة توجنين. كان “الحزام الأخضر” في توجنين هو أكبر منطقة شجرية في العاصمة، واليوم لا توجد فيه شجرة واحدة.
ما زلنا نستنزف مخزوننا القليل المتبقي من الأشجار عن طريق قطعها وتحويلها إلى فحم دون أن تتدخل الدولة جديا لوقف هذه الكارثة. ترتبط الأشجار ارتباطا طرديا بالأمطار: يقوم ماء المطر بإنبات الشجر، الذي يطلق بدوره الأكسجين اللازم لتشكل المطر. ينتج عن قطع الأشجار ندرة الامطار.
ما زالت ثقافتنا المدينية الحالية تسخر من “عيد الشجرة” وتعتبره فرصة للتندر. في دول العالم الآخر يوجد أطباء خاصين بالشجر، كما توجد جمعيات حماية الشجر والأحزاب السياسية المرتبطة بذلك (أحزاب الخضر).
قبل آلاف السنين كانت البلاد تشبه ما يعرف الآن بالسافانا الافريقية، كان الغطاء النباتي كثيفا جدا. كانت تعيش الفيلة والأسود والغزلان وأنواع كثيرة جدا من الحيوانات حتى مطلع القرن العشرين. ما تزال بعض مناطق البلاد لديها تسميات ترتبط بتواجد تلك الحيوانات (راص الفيل، لبّة، واد انعام… الخ).
ضرب جفافان كبيران البلاد في تاريخها الحديث، كان أولهما جفاف سنة 1941 ـ 1942 الذي امتد حتى الخمسينات. ترافق هذا الجفاف مع حدث خارجي كان له تأثير كبير على موريتانيا: احتلت ألمانيا فرنسا مما اضطر هذه الأخيرة إلى تقليص كبير لحجم الموارد المخصصة للمستعمرات الافريقية فزادت الأسعار وانعدمت المواد وانتشرت المجاعة، والحق يقال لم يكن تأثير ذلك كبير جدا على موريتانيا مقارنة بالجفاف لأن الشعب كان قد بدأ استعمال النقود والاعتماد على المواد القادمة من الخارج قبل سنوات قليلة فقط.
عرف العام 1941 بعام “العرية”. سجلت مصالح الإحصاء عشرات الوفيات في موريتانيا وخاصة ف مدينتيْ اكجوجت وكيهيدي. سجلت اكجوجت أعلى الوفيات الناجمة عن ذلك الجفاف في موريتانيا.
في مقابلة بحثية معها حدثتني “أمغيلي منت اعبيدي” رحمها الله 1910 ـ 2015 قائلة “خلال تلك السنوات، كانت المرأة منا تغطي فقط عورتها المغلظة بما تجد من بقايا الأواني بينما لم يكن الرجال يرتدون شيئا على الإطلاق”. انتشر في ذلك الوقت بكثرة فقه الواقع المتعلق بنوازل “العرية”، وربما بسبب من الفقه التقليدي سبقت الحرائرُ الإماءَ إلى اللباس عند توفره. ترافق ذلك مع التدوين المصوَّر من طرف المستعمر وهو ما أدى إلى انتشار الصور التي تظهر فيها النساء عرايا وخاصة الإماء منهم.
إن تعري البشر مرتبط إلى أقصى الحدود بتعري الأرض.
بدأ الجفاف الثاني سنة 1968. عرف هذا الجفاف باسم “الجفاف الكبير”. امتد إلى منتصف السبعينات واستمرت نتائجه إلى نهاية الثمانينات، بل إلى الآن. إن مواليد نهاية الستينات وعقد السبعينات يختلفون من حيث النمو عن الأجيال اللاحقة بتأثيرٍ من ذلك الجفاف.
خسرت موريتانيا نحو 90% من ثروتها الحيوانية بالنسبة للأغنام و80% بالنسبة للأبقار و30% بالنسبة للإبل. ازدادت الفوارق الاقتصادية لصالح الشمال الذي كان يعتمد أساسا على الإبل ثم البقر، كان أهل الشمال قد تخلو عن الأبقار بشكل كبير بعد جفاف 1941 واستثمروا أكثر في الإبل خاصة أن مراعي الشمال هي الأفضل إطلاقا بالنسبة للإبل من أي مكان آخر في القارة الافريقية.
ما تزال طرق سير البقر المعروفة ب”لمراير” موجودة إلى الآن في الشمال وتمكن مشاهدها عبر الأقمار الصناعية.
اختفى الغطاء النباتي من معظم الأراضي بدأت موجات الهجرة من الشمال نحو المغرب وأوروبا الحديثة بينما اتجهت هجرات الشرق والوسط نحو نواكشوط ونواذيبو وازويرات. انتشرت “الگزرات” التي ما تزال بقاياها حاضرة في قلب العاصمة اليوم على الرغم من محاولة الدولة الجريئة في العشرية الماضية القضاء عليها بتوزيع مئات آلاف القطع الأرضية على المواطنين كبديل عن مساكن “الگزرة”.
انقسم نواكشوط إلى جزر تشكل غالبية السكان في كل مقاطعة منها جهة من جهات البلاد: حط أهل الشرق الرحال في توجنين أساسا بينما نزل أهل الشمال في تيارت ولكصر في الحين الذي نزل فيه أهل الجنوب في عرفات والسبخة… ما تزال هذه البنية التشريحية معتبرة حتى اليوم في تركيبة السكان في مقاطعات نواكشوط.
كان تأثير الجفاف كبيرا خاصة على ملاك الأبقار (عملية تعويض الأغنام سريعة جدا بالمقارنة مع تعويض البقر). ظهرت عشرات حالة الجنون بينهم. إن ذلك ما يفسر شعبيا قوة الارتباط بين البشر والبقر. كان البقر هو الحيوان الأليف الوحيد تقريبا الذي عبده البشر، ما تزال بقايا تلك العبادة منتشرة في ثقافات اليوم وخاصة في الثقافة الهندوسية التي تعتبر البقرة كائنا مقدسا. ما زال العديد من تراثنا الشعبي يحيل إلى تلك المفاهيم. يمكن تشبيه البقرة بأنها هي طوطم الرجل الشرقي، كما نجد كثيرا من أسماء الحيوانات تتسمى بها بعض الأسر في الشمال كبقايا من ثقافات طوطمية.
مع قدوم الناس إلى المدينة، أصبحت الأشجار رمزا للبداوة حيث ارتبطت كثيرا بحياة الناس في البادية، فعمد أهل المدينة إلى التخلص منها كنوع من ردم عقدة البداوة خاصة في الثمانينات والتسعينات حيث كان إظهار التمدن هو الموضة السائدة وكان يعتبر رأسمال رمزي كبير تنتج عنه رؤوس أموال اقتصادية واجتماعية حيث عمدت الدولة إلى الاهتمام في مجال الصفقات العمومية على نوع من التمييز بين رجل المدينة القادر على العمل الحديث الاقتصادي الذي يفترض فيه فهم عالم اليوم فهما لا يتوفر لدى رجل البادية. أصبحت الأعمال اليدوية التي كانت طبيعية لدى أهل البادية وليست معرة وباتت دليل تقاعس اجتماعي فهجرها غالبية شريحة البيظان وأصبحت مرتبطة في مخيال الناس بالمرتبة الاجتماعية الدونية. ازداد حجم الأجانب بناء على ذلك ليعوضوا النقص الحاصل فقاموا بمنافسة شرسة لشريحة لحراطين أدت إلى زيادة فقر هؤلاء ومعاناتهم. ما تزال إلى اليوم هذه المشكلة مطروحة، لقد سيطر الأجانب تماما على الأعمال الحرفية والمهنية اليدوية. لم تحاول الحكومات المتعاقبة تغيير هذه الوضعية لصالح لحراطين بل لعلها لم تعي أصلا هذا الخطر بسبب انعدام الإحصائيات الجادّة في هذا المجال.
الثقافة الزنجية وحدها هي التي ظلت تعطي اعتبارا كبيرا للشجرة في موريتانيا. تكفينا ملاحظة سريعة لمنازل الزنوج في العاصمة حتى نعرف الفرق بينهم وبين البيظان في هذا المجال، فقلّما يوجد منزل به مساحة ترابية خالية ولو من مترين أو ثلاثة أمتار إلا ونجدها مزروعة بشجرة مثمرة أو شجرة وارفة الظلال. في المقابل يعمد البيظان إلى قطع الشجرة التي يجدونها في المنزل للعديد من الأسباب الواهية ثقافيا ولكنْ المهمة في ثقافة البيظان ومنها أن الشجرة ربما تكون مرتبة ببعض الأعمال السحرية (مسكونة) أو أنها كثيرة الأوساخ الناتجة عن تساقط الأوراق. الثقافة البيظانية في هذا المجال كسولة جدا فقطع شجرة أسهل من تنظيف محيطها باستمرار. أو أن الأشجار تجلب البعوض (البعوض هو السبب الذي يقول بعض أفراد إدارة مدرسة الأساتذة أنه سبب قطعهم للأشجار).
يعتبر الزنوج وفق هذا المفهوم السابق عمارا للأرض بثقافة التجشير بينما يعتبر البيظان مفسدون فيها بثقافة اقتلاع الشجر التي يحملونها.
مع الاستقلال كانت الدولة مرتبكة أمام مقاربتان للزراعة: زراعة الأرز او زراعة الأشجار المثمرة. استقر القرار على الأرز. لم يكن قرارا موفقا على كل حال كما ظهر لاحقا: إنّ متطلبات الأرز الكبيرة من الماء ومن المساحة الترابية والعناية المستمرة جعل اختياره على حساب زراعة الأشجار المثمرة كالمانغو مثلا اختيارا كارثيا. يمثل المانجو اليوم أحد أهم صادرات دول الجوار بينما بالكاد استطاعت موريتانيا تأمين نصف احتياجاتها من الأرز المحلي إضافة ألى ارتفاع سعره في السوق المحلية.
في الثقافة الإسلامية كان الاهتمام بالشجر كبير جدا، كانت الشجرة إحدى محاور اتفاقيات السلم والحرب، كانت رأسمال في الزواج والمهور، كان مادة أساسية في بناء المسجد الأول. حثت الشريعة على الاهتمام بالشجر كما لم تحث على شيء آخر. النخلة عمتنا، تحرم الشريعة قطع الأشجار إلا لدواع حقيقية ومبررات مقبولة. لكننا في موريتانيا أغفلنا كثيرا تلك الأهمية الاستثنائية التي أعطاها الإسلام للشجرة.
كانت الشجرة تمثل ظهيرا للموريتانيين طوال تاريخهم ما قبل الدولة الوطنية… ظلت الأشجار في تاريخنا الثقافي هي ضامن استمرارنا لاعتماد الإنسان والحيوان الكلي عليها.
حين هاجر الناس إلى المدن قطعوا صلتهم بالأشجار، قطعوا روابطهم بجذورهم وخلقوا عداوة مع الشجرة تحثهم عليها “عقدة التبدي” التي كلما حاولوا التخلص منها كلما ازدادت شدتها عليهم لأنهم تعاملوا مع المظاهر وتركوا الجوهر فهاجموا الشجرة بوصفها مظهرا كانوا يألفونه في البادية، لكنهم جهلوا أن الشجرة تمثل الجوهر الظاهر لجميع ثقافات العالم بما فيه الثقافة المدينية التي ظنُّوها تعادي الشجر.
كانت الأشجار تمثل الدليل السياحي للناس: إن توزيعها بنمط معين على الأرض يحدد معالم تلك الأرض ومسمياتها وخصائها. كان الأهالي يعرفون أنه عندما ينتهي الشجر الفلاني فإن المنطقة الفلانية تبدأ وهكذا دواليك.
كانت الشجرة تمثل المادة الخام التي يعتمد عليها أغلب الناس في حياتهم اليومية. كانت هي المادة الخام التي يعتمد عليها الصانع التقليدي لصناعة مختلف الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية حيث يتم تشكيل الأقلام والأواني والأسلحة وآلات الطرب وآلات الحراثة وإيقاد النار…الخ.
كثيرة هي الحكايات الموثقة وغير الموثقة عن دور الشجرة في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال كانت الشجرة هي التِّرْس الذي يحمي المجاهدين وهي النبال والحراب التي يقاومون بها، كانت عروقها تروي ظمأ المقاوم عندما يجتاحه العطش وهو يرابط انتظارا لقدوم فيلق من قوات العدو… إن حكاية الزنجي المقاوم ونصيحته للبيظان عندما تفاجوا لأول مرة بمشاهد طائرة العدو تقصفهم هي حكاية معروفة تؤكد أن الشجرة كانت أحد عناصر المقاومة.
كانت الأشجار هي الشاهد الأول والأكبر على حكايات المحبين وقصص الحل والترحال. كانت شاهدا على تبدل الأحوال والأيام في ثقافة الأهالي. لقد قدم لنا غرض البكاء على الأطلال أروع الأمثلة الشعرية المتعلقة بالأشجار في مجتمعنا التقليدي. مَنْ مِنّا لا تطربه طلعة “ول بو باجه” عن “التيكفّاية” مثلا، أو لا ينتشي عذوبة عند سماع طلعة “أربان” عن “حراگ أگوم”، أو عند سماعه لقصة “اصوَيْگْ التيدوم” لولد هدار؟…
كانت الشجرة هي مركز التعليم “المحظري”. تُنْحَتُ الألواح منها وتبرى الأقلام، يجتمع تحتها التلاميذ في الحر ويوقدون منها ابتغاء الضوء في الليل.
في “المدرسة الوطنية لتكوين الأساتذة” نشاهد هذه الأشجار التي يصل عمرها عشرات السنين يتم قطعها هكذا بكل بساطة. كانت هذه الأشجار توفر الظل وتُزَيِّنُ المبنى. يتم قطع هذه الشواهد على عمر العاصمة هكذا بكل جهل وجهالة. الغريب في الأمر أن يتم هذا الفعل الشنيع من طرف من يفترض بهم أكثر من غيرهم حماية الشجرة: الأساتذة. إنّ هذا ما يجعل الجريمة مضاعفة.
في دول العالم الأخرى يحتفون بالشجرة ويقيمون لها المواسم والأعياد وحفلات التكريم. كلما تقدمت شجرةٌ في العمر كلما احترموها أكثر وعاملوها بمنطق إنساني أكثر. في بعض الثقافات البشرية تعتبر الشجرة أختا للإنسان، ليس بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي حيث تمثل طوطماً بل وأحد أفراد القبيلة.
في ذلك العالم الذي يحترم نفسه جيدا يمكن لشجرةٍ أن تغير مسار طريق سريع أو تسد آخر دون أن يتم التفكير في قطعها. أما لدينا نحن فبمجرد نزوة عابرة تدفعها “عقدة التبدي” من مسؤول في الإدارة فإنه يتم الفتك بهذا الموروث الحيوي الجميل.
إن الاهتمام بثقافة الشجر هو أول خطوات الحفاظ على بقائنا وأول شروط نهضتنا، لذلك يجب تدارك الوضح الكارثي لدينا المتعلق بالشجرة وليست المحافظة على ثقافة التشجير بالطائرة التي كانت الدولة تقوم بها في السابق إلا إحدى تلك الخطوات الأولى.
يقول محمود درويش متمثلا دور الهندي الأحمر في استسلامه لغزو الرجل الأوروبي ومعبرا عن قيمة الشجرة بالنسبة للثقافات التقليدية:
آه يا أختي الشجرة
لقد عذبوك كما عذبوني
فلا تطلبي المغفرة لحطاب أمي وأمك.
أحمد سالم عابدين