الأدب الحساني

أسرار الجمال في الشعر الحساني/ محمد بن سيدي محمد ولد أحمد المختار

عندما تنشد” كافا ” جميلا من الشعر الحساني أو” طلعة ” جميلة على متلق ذي ذخيرة من هذا الشعر ، فلن ينطلي عليك ما سيعتريه من نشوة غامرة ، قد تنثال من فيه عبر صيغ التعجب المتنوعة ، وقد تشاهدها في رأسه الذي تميد به ريح الجمال يمينا وشمالا ، وقد تسري حُميا هذه النشوة في بقية جسمه ، فتلاحظها في حركة يديه وقدميه على سبيل المثال ! لكنك إن سألته : ما الذي جعلك تستحسن هذه الطلعة ؟ وما سر إعجابك بهذا الكاف ؟ عندئذ سيُبْهت الذي تذوق ، ويجيبك. إن أجاب . بأحكام مطلقة، وألفاظ عامة من قبيل أن هذه الطلعة فريدة من نوعها، أو أن الكاف نسيجُ وحده ، أو غير ذلك مما يدل على جمال المنشَد وجدته وتفرده، لكنه لا يكشف سر جماله ، ولا يسوّغ درجة التأثر به، ولك أن تقول: إنه لا يتميز من مبرز التأثر الأول إلا بخروجه من الإنشاء إلى الخبر. إن سر روعة الإبداع الشعري ظلّ أكبر مؤرّق لمتلقي الشعر عبر العصور ، حتى قال ناقد عربي قديم : إن من الأشياء أشياء تدركها المعرفة ، ولا تحيط بها الصفة . غير أن رصيد المتلقي الموريتاني من هذا الأرق أكبر ، وحظ نفسه من الشِّق في معرفة ذلك السر أكثر؛ ذلك بأن الشعر الحساني ـ على كثرة ما روي منه ـ لمّا تزل نصوصه بمنأى عن أقلام المكتشفين ، فلم تنشر عنه إلا دراسات تعد على الأصابع ، ولم نعثر على دراسة ولّت وجهها شطر أسرار الجمال في هذا الشعر إلا كتاب الدده محمد الامين السالك : ” من جماليات الشعر الحساني ” وهو ـ رغم ريادته ـ لا ينجز ما وعد به العنوان ، بل هو عبارة عن معلومات عن الشعر الحساني قدمها صاحبها مشكورا ، وهذا ما يتجلى في عناوينه الفرعية مثل ” استفادة الشعر الحساني من الموشحات الأندلسية ” و ” التشابه بين الكاف والبيت ” و” تأثير الثقافة العربية في الشعر الحساني ” و ” الأطلال في الشعر الحساني ” ، فهذه ـ كما ترى ـ مواضيع لم تنسبك في عقد واحد إلا بواسطة الموضوع ( الشعر الحساني )، فبعضها أدخل في باب النقد المقارن، وبعضها يدخل فيما يسمى أغراض الشعر ” الأطلال ” … ، أما ما يتصل بمواطن الجمال كحديثه عن الصورة ، والخصائص المميزة في الشعر الحساني ، ففيه دليل على رهافة حسه ، ودقة ذوقه ، وإصابته في بعض الملاحظات ، لكنه ـ مع ذلك ـ لا يشفي للمتلقي غلة ، ولا يسد له مسغبة ، سواء كان مرد ذلك قصورا في التعليل ، أم انفراط العلاقة بين التنظير والتطبيق ، أم غير ذلك مما سنشير إليه حين معالجة ما تناوله قبلنا من نصوص.

و لا تظنن أن حال الجوانب الأخرى من الشعر الحساني أفضل ، فما زال التقعيد ضعيفا بشكل عام ، فليست لدينا حتى الآن ضوابط دقيقة نميز بها بحرا من بحر ، فليست معرفة عدد المتحركين في بحر معين كافية لمعرفة هذا البحر كمعرفتنا أن لبتيت التام يتألف من ثمانية متحركين ، أو أن الناقص يتألف من ستة ، أو أن ” لبير ” و ” امريميده ” أو ” ا بوعمران ” … سباعية ، إذ يبقى السؤال ما عدد السواكن في كل بحر من هذه البحور؟ وما الميزان الذي نزن به البحر الحساني ، فيجلّي لنا هذا البحر دون اللجوء إلى الكدعة أو الموسيقى أو غير ذلك مما لا يعلم تأويله إلا المتخصصون ، وليس ما قام به محمد الأمين بن لكويري في كتابه ” بلوغ الأماني ” من محاولة إلباس التفاعيل العربية للبحور الحسانية إلا دليلا على الشعور بهذه الإشكالية ، وإن كان فضل المحاولة مقتصرا على تنبيهنا أننا في حاجة لتقعيد البحور ، دون أن تلد هذه الحاجة اختراعا ؛ ذلك بأن مقاييسه ليست إلا استعارة بريئة لتفاعيل الشعر العربي ، لم يتجشم صاحبها عناء الموازنة ، ولا عنت الاستقراء .

لكنني ـ رغم ثنائية الخصاصة ـ سأقتصر في هذه المقالات على محاولة تلمس أسرار الجمال في الشعر الحساني ، وذلك يعود لسببين : أولهما أن محاولة اكتشاف ميزان دقيق لبحور الشعر الحساني ” لبتوته ” يحتاج إلى كثير من التفرغ ، تقف دونه المشاغل ، ثم هو يحتاج إلى ذكاء لا أدعي امتلاكه . وثانيهما أن الوزن لا يشكل مشكلة إلا لغير المختصين ، في حين تظل أسرار الجمال موصدة أبوابها أمام الطرفين . وحين قررت خوض هذه التجربة كان أمامي من حيث المنهج عدة خيارات :
1 ـ أن أسلط أحد مناهج النقد المعروفة على رقاب النصوص الحسانية ، سواء المناهج السياقية التي تركز على مصادر النصوص ، أو المناهج النصية التي تنطلق من النصوص . وقد صدفت عن هذا الخيار لأنني من الذين يرون ضرورة انبثاق المنهج النقدي من النصوص ، وأن طبيعة النص هي التي تفرض المنهج
2 ـ أن انطلق من مصطلحات تكون مفاتيح كالصورة والرمز وكسر الألفة وغيرها مما لا يعز وجوده في الشعر الحساني ، ثم أشرع في التنقيب عما تصدق عليه هذه المصطلحات ، لكنني صدفت ـ أيضا ـ عن هذه الطريقة ، لأن الانتقاء حينئد قد يحجب كثيرا من مواطن الجمال ، وقد تتسب مثل هذه الطريقة في لي أعناق النصوص .
3 ـ أن اختار مجموعة من النصوص الجميلة ، وأحاول قراءتها و إرغامها على التبرج وإبداء زينتها للمتلقين ، وحسبي في هذا المقام ، أن أستطيع إيصال ما مسني من جمال هذه النصوص، وأظن هذا السبيل أفضل من سالفيه ، لأننا في هذه المرحلة بحاجة إلى التطبيق أكثر من التنظير ، ولأن التنظير الصحيح وليد التراكم التطبيقي .
الاختيار الأول : يقول المختار ولد ملاي اعلي :
يـــلاّلِ مَمتنّ *** أيــَـلاّلِ مــــعـــتن ِّ
أمسمنِّ حـكنِّ *** هح اصَّ مخل البُ
بيــّانَ مسمـنَّ **** يالـطــَّلابَ طـلــبُ
عندِ بيتْ أشمعَ **** واعظيـم ْانلبـلـْـبُ
أعندِ معادْ امعَ **** عيـشة منتْ الـبُ
أسرار الجمال في الشعر الحساني :
المقالة الثانية : سنحاول إضاءة هذه “الطلعة ” عبر قراءتين : أولاهما وصفية تحاول تقريب إيحاءات الطلعة دلاليا . وأخراهما جمالية تترصد مفاتن “الطلعة ” ، وتحاول تأسيس منطلق للتنظير . يقول المختار ولد ملاي اعلي : يـَـلاّل ِ مَمْـتَـنَِّ أُيــَـلاّلِ مـَـــعــْـتَن ِّ أُمَسْمَنِّ حـَكنِّ هَحْ اصَّ مخْلْ البُ بَيــّانَ مَسْمَـنّ يَالـطــَّلابَ طـلـْـبُ عَنْدِ بَيْتْ أُشَمْعَ وَاعْظَيـْم ْانْلَبـلـْـبُ أُعَنْدِ مِعَادْ امْعَ عَيـْشَةُّ منْتْ الْـبُ ا ـ القراءة الوصفية: بدأ الشاعر طلعته (قصيدته ) بكلمة ” يَلاّلِ ” وهي كلمة مرنة ذات دلالات متعددة في المعجم الحساني من ضمنها التعجب والمبالغة ، فالشاعر يتعجب ، ويبالغ في تعجبه ، يتعـجب من قوته التي صاغها ـ أيضا ـ بأسلوب التعجب ” مَمْتَنّ ” ، الشيء الذي يضخم تصورنا لهذه القوة فنتمثلها أسطورية خارقة ، وما إن نخطو إلى التافلويت (الشطر) الثانية حتى يباغتنا الشاعر بثنائي التعجب ثانية ، إلا أن الصيغة هذه المرة أكثر تعبيرا عن قوة الشاعر من سابقتها ، ذلك بأن “العَتْـنَه” في سلم هرم اللهجة الحسانية أربى منزلة ، و أعلى مرتبة من صفة ” المتن ” التى أسندها الشاعر إلى نفسه في التافلويت الأولى . وفي التافلويت الثانية و الثالثة يواصل الشاعر اعتداده بنفسه .. مبالغا في فتوته ، بيد أنه يستبدل صفة بأخرى ؛ يستبدل القوة بالغنى ، ولا يني في تهويل هذه الصفة الثانية ؛ من أجل ذلك تتلاحق صيغ التعجب بكثافة ، فلم يكتف الشاعر ب : ” مسمن ” ، وإنما أضاف إليها كلمتي : ” هح اصّ ، ومخللب ” وكلتاهما تعجبيتان تدلان على غبطة الشاعر بيسره ، وشعوره السامق بغناه .، ويركز في التافلويت الخامسة على الصفة نفسها ” الغنى ” فيجتث من قاموسه التعجبي دالا جديدا هو ” بيان ” ، وهي كلمة كأخواتها السالفة (( هح اص، ومخللب)) شد الشاعر بها أزْر يُسره ، وعضّد بها ساعد غناه . وفي التافلويت السادسة تفتحت زهور أريحية الشاعر فبسط يد الكرم أمام المتسولين وذوي الحاجات ( يالطلابه طلب ) . وهنا تتوقف الطلعة ويبدأ الكاف .. يبدأ الشاعر في الكاف يجيب على الأسئلة التي تنثال على المتلقي خلال مسيرته مع الطلعة : كم عدد هذا المال الذي بحوزة الشاعر؟ كم يكنز من الذهب والفضة ؟ وكم يملك من الخيل المسومة والأنعام والحرث ؟ وكم لديه من عمارات شاهقة ، وقصر مشيد ؟ وكم .. وكم … ؟ هنا يكشف الشاعر النقاب عن وجه غناه الحقيقي ، وكم تكون المفاجأة ضخمة والاستغراب كبيرا حينما نعرف أن نصيب هذه الغني من الدنيا لا يزيد على آلة تدخين ( بيت ـ شمع ـ اعظم ))! . إن غبطة الشاعر وحبوره ا بهذا الوعد غيرا الواقع في عينيه وقلبا الموازين .. فلم يعد كما كان فقيرا معدما لا يملك إلا آلة تدخين ، وإنما أصبح بعمق إحساسه وحدة شعوره أغنى من كل الناس كما هو أقوى منهم فليس الغنى عند هذا الشاعر المبدع كما الغنى عند الناس ، وإنما غناه غنى العواطف والشعور والأحاسيس . لقد مثلت تجربة الوعد لحظة متميزة في حياة الشاعر .. لحطة فتحت له من السعادة عوالم لا حدود لها .. لحظة حلقت به بعيدا عن هذا العالم المادي ومعطياته ، فصاغ تجربة في هذه الطلعة البديعة التي كان ل: “لبتيت الناقص ” بموسيقاه العذبة ونغماته المنسابة وإيقاعه الخفيف دور بارز في سفور بهائها ، ناهيك عما نحتت ريشة الألفاظ المكررة عبرها ( يلال ـ مسمن ـ عند ) من روعة فنية ، ووقع رشيق عالق بالنفس لائط بالقلوب . ب ـ القراءة الجمالية: إن سر الجمال في هذه الطلعة يكمن حسب قراءتنا في العناصر الآتية : 1 ـ صدق العاطفة : وهو من الأمور التي يمكن أن نسميها شبه إنشائية ؛ إذ يصعب الحكم عليها بالصدق أو الكذب ؛ لارتباطها بسياق الطلعة وظروف إبداعها ، لكن أسلوب الشاعر في هذه الطلعة يشير بكلتا يديه إلى هذا الصدق ، ويصرخ مترعا فمه به .. فهذه الطلعة متجلى لانفعال عنيف كشف عنه معجم الشاعر ، وطريقة تركيبه الألفاظ .. فالشاعر اختار بحرا قصيرا (( لبتيت الناقص ) ، والبحور القصيرة أكثر قدرة على حمل الانفعالات العنيفة، ثم إننا نشعر بتوثب قوي في ” الطلعة ” لا نلمسه في نظيراتها من البحر نفسه . ومن شاء إثبات ذلك فا ليوازن ـ موسيقيا ـ بين هذه ” الطلعة ” و ” طلعة ” أخرى جميلة ، ولكنها وئيدة الحركة .. رزينة الخطوات ؛ فكأنها وليدة تأمل أكثر مما هي وليدة انفعال ، إنها طلعة الشيخ ولد مكين:
اغـفرل يـالشفـاع *** دهر امض من لوجاع
بجال دهر اكراع *** لعجول انخوظ ازمان
اخلاكي في التلـياع *** مـنو والفـكـد اكـران
واغفر دار ابلفراع *** وادويـرت بـنـعـمـان
اغـفـره هـي كـاع *** أفصـلـه في الغـفـران
فحين توازن بين ” الطلعتين ” تلاحظ أن الوحدات الصوتية في الأولى أعنف .. وحين تردد ” التافلويت ” الأولى من ” الطلعتين ” مثلا ، تلاحظ من الإنفجار الصوتي في كلمة ” يلال ” ما لا تلاحظه في كلمة ” اغفرل ” رغم تساويهما سكونا وحركات .. ، فكأنما امتد انفعال الشاعر إلى الصياغة فتوثب اللفظ ” يلال ” ، وأكاد أجزم أن الشاعر حين أنشد هذا اللفظ أول مرة كان يشبع مد اللام ، ثم إن الشدة التي ختمت بها معظم “تيفلواتن” الطلعة الأولى: ( ممتنّ ـ معتنّ ـ مسمنّ ـ حكن ّ) تجلّى قوة إيقاعها ، وتميزه عن إيقاع ” الطلعة الثانية ” ، بل إن قوة الانفعال أحدثت انفجارا في ” الطلعة ” لدرجة أنك تستطيع إيجاد بحر (بَت )واضح المقاطع داخل بحر الطلعة ، فالتافلويت الاولى والثانية مثلا ، عبارة عن أربع تيفلواتن ثلاثية المتحركين : يلال ممتن أيلال معتن أما على مستوى المدلول ( المعاني ) فإننا نكاد نلمس هذا لانفعال .. بل نلمسه ، ألم يبدأ الشاعر ” الطلعة ” بالتعجب ثم أردفه بآخر ، ثم تعجب وبالغ ، ثم تعجب وبالغ ، وظلت صيغ التعجب تترى إلى آخر ” تافلويت ” في ” الطلعة ” ؟ وإذا بحثنا عن المتعجب منه والمبالغ فيه نجده صفتان : ((القوة والغنى )) ، وما ذا تلاحظ ـ بعيدا عن الشعر ـ إذا وجدت شخصا يقول: ” يلال مقوان ، يلال مغنان ” مرددا الكلمتين دون انقطاع ؟ ألا تحكم عليه بأنه في لحظة انفعال عنيف ؟ بلى هو كذلك ، لكن الرجوع إلى أسلوب التعجب والتهويل في اللغة يعضد ما ذهبنا إليه ، فأنت توظف أسلوب التعجب والتهويل حينما تشاهد أمرا غريبا لم تشاهده من قبل ، ولم تشاهد ما يشاكله ، حينئذ تعود إلى صيغ التعجب : ما أجمله ـ ما أقبحه ـ ما أضخمه ـ ما أعنفه ، تقول ذلك إن انفعلت بما شاهدت ، لكن الانفعال يشتد وصيغ التعجب تتناسل حينما يمتزج المشاهِد بالمشاهَد ، أو الذات بالموضوع بتعبير آخر ، وهذا ما نظنه حدث للشاعر لحظة إبداع هذه الطلعة . 2 ـ الغرابة : تعتبر الغرابة أكبر جوالب الجمال في النصوص الشعرية بشكل عام ، فهي التي تشد المتلقي إلى النص ، وتجعله يحتضن كلماته بقوة ، كأنما يسمعها أول مرة ، وقد تنبه ابن قتيبة إلى ذلك حينما قال: إن الشعر يُختار لغرابة معناه . وما استحسان المتقدمين للاستعارة وما يشاكلها من فنون البلاغة إلا لهذه الغرابة التي يحدثها بناء الكلمات الجديدُ . وقد احتفى النقاد المحدَثون بهذه السمة ( الغرابة ) لدرجة أن ربطوا بها شعرية النصوص ، معبرين عن ذلك بمصطلحات متعددة مثل : اللغة الشعرية ، والانزياح ، وكسر الألفة … . أما بالنسبة للطلعة التي بين أيدينا ، فقد دخلت عليها الغرابة من عدة أبواب .. دخلت عليها من هذا التناقض العجيب ؛ حيث نجد الشاعر يباهي بغناه إلى أبعد الحدود ، في الوقت الذي يعترف فيه بأن فقره لا يعرف الحدود ، وبذلك كسر الحواجز بين المتناقضات ، وآلف بين المتنافرات، وأعاد بناء الدلالة من جديد ، الشيء الذي انعكس على تركيب الألفاظ فجاء غريبا ، وحسبك من غرابته أن تنظر في ممتلكات الشاعر ، التي قام بإحصائها في نهاية نصه ( بيت ـ شمع ـ اعظيم ، ميعاد ) . فما لذي ربط بين الثالوث الأول ( آلة التدخين ) وبين الطرف الثاني (الميعاد )؟ ، إنه خيال الشاعر المبدع الذي خوله الجمع بين هذين المتنائيين فجاء الطرف الأول واصفا لواقعي المادي ، ووصف بالطرف الثاني واقعه النفسي . وبذلك جعلنا نقف أول مرة أمام صورة الغني الفقير . 3 ـ الإيحاء : وهو ما توحي به الألفاظ ، ويشير إليه النص دون أن يصرح به.. إنه مجموع الأفكار والمعاني والدلالات التي نعانقها خلف أسوار الالفاظ ، وهو ليس نوعا رفيعا من الرمز كما ذكر دده في حديثه عنه ، وإنما يتأتى من الرمز ، وقد يتأتى من الموسيقى أو الصورة … ، وقد ينبجس من هذه العناصر مجتمعة …، وتتجلى قيمته الرئيسة في باب التأويل الذي يفتحه أمام المتلقي ، وبذلك يتجاوز القارئ مرحلة القراءة السلبية ، إلى المشاركة في إنتاج دلالة النص، كما يؤكد أصحاب نظرية التلقي . وتعود ظاهرة الإيحاء في الشعر الحساني إلى عدة عوامل من بينها حرص الثقافة الموريتانية على الإيجاز ، كما هو شأن أرومتها العربية التي تجعله من شروط البلاغة ، وقد لا تفرق بينهما ، إضافة إلى مكانة الكلمة في المجتمع الموريتاني لدرجة أن من بين فئاته من تخصصت في تكثيف الدلالة ! كما أن سمة المحافظة في المجتمع الموريتاني ـ كما أشار دده ـ ألجأت الشاعر في باب الغزل إلى أن يلوح أكثر مما يصرح . وإذا ابتغينا إلى مبارز الإيحاء في هذه الطلعة سبيلا، فلن نجد أقرب من الانطلاق من الرؤية التي تقدمها الطلعة ، أو اللحظة التي فجّرت عيونها .. إن الشاعر في هذه الطلعة أراد أن يقدم لنا مفهوم السعادة كما أحسه .. أراد أن يقدم هذا المفهوم الجديد الذي ألهمه الوعد إياه .. فلم يقدمه بصورة سافرة .. كأن يقول: أنا سعيد بسبب هذا اللقاء كدأب معظم المتشاعرين ، وإنما انزاح عن السعادة إلى تجلياتها .. وتركنا أمام هذه الصورة الرائعة التي ندور بها فنطيل ، ونتملاها فنكثر ،حتى نحس بما أحس به الشاعر ، أو نكون منه قاب شبرين . إن ” الطلعة تصور لنا هذا الشاعر الكبير ، وقد أحالته أصابع الإحساس إلى طفل بريء ، شعر بتفوقه فاعتراه مس من الغرور والاعتداد ؛ فجعل يصف نفسه بطريقة أسطورية لا نجدها في غير حديث الأطفال .. إنه يداعب نفسه كما يُداعب الأطفال ؛ من أجل ذلك انتمى جل ألفاظ ” طلعته ” إلى معجم ” اتْحَجْليبْ ” : [ ممتن ـ معتن ـ مسمن ـ بيان ـ هح اص ـ مخللب ] ، ولم يستطع ” الكاف ” إبعادنا عن هذا المعجم رغم أن الشاعر فيه جعل يفسر سر هذه الطفولة .. مرتحلا من عالم الأطفال إلى عالم الراشدين ، لكن المعجم ظل يلاحقه ، فتحرك الطفل مرتين أحدهما عند تصغيره لآخر فرد في عائلة التدخين ” اعظيم ” ، وثانيهما في مداعبته له ( انلبلب ) . لقد كانت النافذة التي راقب منها الشاعر نفسه لحظة إبداع “طلعته” المسؤول الرئيس عن نجاحه في وصف مشاعره بهذه الطريقة الرائعة . فهو لم ينقب عن مفتاحه الشعري في رصيده من الشعر الحساني ، ولم يبحث عن “طلعته” في مئات القصائد ( اطلع ) الجملة التي سبقته ،. وإنما فتش عن ذاته في ذاته ، وعن نفسه بنفسه ؛ فرسم مشاعره بريشة هذه المشاعر لا بمشاعر الآخرين ، وخط خريطة قلبه بقلمه لا بأقلام الآخرين ؛ فخرج النص متميزا ؛ وبذلك دل على وجود صاحبه ، وغريبا؛ وبذلك شد قلوب المتلقيين ، وطريفا تهفو إليه النفوس . وفي الختام أؤكد أن ما قمت به ليس إلا قراءة ، يظل النص بعدها مفتوحا لقراءات متعددة شأن النصوص الخالدة .


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى