آراء وتحليلات

ليلة مع الإعصار.. / المهندس الهيبه ولد سيد الخير

جرت العادة في فترة الخريف أن أقضي الليالي في بادية على الطريق الرابط بين بوكي والاك 16كم شمال مدينة بوكي، وشاء القدر أن تكون أول ليلة اقضيها هنالك هذه السنة غير كل الليالي، التي عهدت في حياتي فقد تميزت بزائر جاء بعد منتصف الليل، كنت اسمع عنه كثيرا لكن السّماع عنه ليس كالنظر في عينه مباشرة اكرر عينه فله عين واحدة.
غادرت المدينة في حدود التاسعة مع محمد فاضل وعيني، فقد جاءا معي لقضاء شهر عطلة بعيدا عن صخب وحرارة نواكشوط، وهاهما يغدران المدينة هربا من البعوض، أمر نتقنه نحن أهل هذه البلاد، حطّينا الرحال في مسكننا الخريفي أو قل مكان مبيتنا، وهو عبارة عن امبار قاعدته اسمنتية قوية، وأعمدته حديدية، وهيكله خشبي ومغطي بالسنك، بنيته قوية ومتوائم مع محيطه، فعرضه باتجاه الشرق وإجمالا بنيته ايرودينامكية قدر المستطاع، له دفا من كج كويرة وكويرة فقط! ، دلفنا الي داخله وأشعلنا مصباحا لبرهة ثم لم نلبث أن أطفأناه احتراما لقرار الحشرات القاضي بتحريم إنارة الأضواء، قرار اتخذته ربما لأنها لا تستطيع التفريق بين الضوء والنار، تسامرنا وأجبت على كم هائل من الأسئلة أمطرني بها رفيقيي حول النجوم والمجرات والكون والظلام والعدل وسبب غياب الضفادع عن نواكشوط ،وأشياء كثيرة لم اعد اذكرها، ولم يكن يقطع تلك الأسئلة إلا ومضات برق بعيد كانت على غرار السيارات العابرة لا تلتزم بقرار الحشرات .
قبل منتصف الليل بدأ النعاس يسرق مني رفقيي، لكن محمد فاضل قبل ان ينام نصحني بالعودة للمدينة قائلا: النو امركب وأخيرن انبات فالدشرة… ضحكت من نصيحته قائلا: البادية لا طعم لها بدون المطر… أليس كذلك؟ ..هز رأسه لكنه لم يقتنع وخلد للنوم، بقيت صاحيا لوحدي ارقب تطور الغيوم وتشكل العاصفة ،وان كانت تسرقني أحيانا غفوة ،لكني متيقظ مع ذلك ومستعد فبحكم خبرتي يجب ان انزل ادفا قبل هبوب الرياح وهذا ما فعلته بنجاح في حدود الواحدة مع ان الوقت لم يكن يعني الكثير بالنسبة لي فكل شيء بدا طبيعيا ،أيقظت رفيقيي وبشرتهما بان المطر سينهمر خلال دقائق انشاء الله.
بدأت الرياح تزمجر وترافقت مع هطول غزير ،وخلال دقائق خرجت الامور عن المعهود، فالسماء تحولت الي شلال يصب الماء صبا ،فلا هو قطرات صغيرة او كبيرة، ودفا صار يطير وينزل بقوة هائلة ،والاصوات الرهيبة تصم الآذان ومنسوب الماء في الداخل تجاوز منتصف الساق ،ولمبار يرتعش يمينا ويسارا ،وانا امسك عمودا حديديا يتوسطه أملا في تثبيته، ورفيقي ملتفان بدراعتي بحثا عن الحماية، استحضرت في تلك الاثناء مقارنة بين ضعفنا امام قوي الطبيعة وشرحي لسؤال سابق من رفيقيي حول الفرق بين المجرة والكوكب، كان كل شيء يعزز ذلك الشعور بالضعف وقلة الحيلة ،فلم نكن نقدر ان ندلف إلي السيارة بالرغم من أنها علي بعد مترين فقط منا ،كانت الأصوات دليلنا الوحيد و وبصرنا فالرؤية صادرتها عين الإعصار ،أما الأصوات فكانت مزيجا من الصراخ والاستغاثة والتهشيم والصدم والتكسير والقلع والطيران والهبوط … كلها كانت غريبة باستثناء الرعد الذي بدا لنا صوتا مطمئنا..!
انتهت العاصفة بعد نصف ساعة تقريبا وخرجنا لنجد أنفسنا في تامورت، كأن المخابرات انتهت لتوها من تفتيشها ،فكل شيء مبعثر والمشهد تغير بالكامل ولم يسعفنا إلا انامبارنا وسيارتنا- التي نمنا فيها بقية الليلة – لا زالا في مكانهما ،امر لم ينجح فيه بجدارة الا شجيرة ايزنBosiasenegalensis،في حين فشلت فيه بيوت السنك وبيوت الطين ولمبرات وكيطونات والطلح وأعمدة الكهرباء وحتي بعض بيوت الاسمنت المسلح ،فعلي امتداد 10كم تهشمت كل اعمدة التوتر العالي وانتقلت بعض الأغراض الثقيلة لمسافة عدة كيلومترات ،وذبحت صفائح السنك الماشية وجرحت عدة أشخاص …توفي 9 أشخاص وجرح الكثيرون وكانت الإضرار البشرية منحصرة في القري ،فتحطم البيوت هو الذي سبب الوفيات بينما نجت التجمعات التي يسكن اهلها في لمبرات ،فكثيرا ما تطير من فوق رؤوسهم لعشرات الأمتار أو تتكسر فوقهم لكنها لم تسبب ضحايا علي الأقل !
دروس وعبر من وحي الكارثة
ضرورة تفعيل دور مركز الوطني للأرصاد الجوية ليضم خلية لاستشعار الكوارث، والتحذير منها خصوصا انه تم رصد تشكل الاعصار قبل عدة ساعات من الكارثة؛
تدريب الادارة الاقليمية على ادارة المخاطر؛
التأكد من سبب تلف اعمدة التوتر العالي خصوصا انها حديثة العهد ومصنعة في مصنع الاك، صحيح ان اهتزازات الاسلاك قد تخلق cadence مدمرة، او بفعل تأثير احجارالدومينو امر يعرفه المهندسون المدنيون؛
وضع معايير للسلامة في مجال البناء الريفي؛
اما على المستوي الشخصي فسأعمل بنصيحة محمد فاضل هذه المرة، وسنغادر الي المدينة كلما شاهدنا تشكل عاصفة مطرية على الاقل كلما كان موجودا معي.
المهندس: الهيبة سيد الخير


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى