آراء وتحليلات

وقفت مع موقف العقل/ سعدن بن أحمدو

وقفات مع “موقف العقل..”

ملاحظات سريعة
(1)
**********
بعد قدوم الشيخ مصطفى صبري إلى القاهرة ومقامه فيها فارا من الاعتقال والمضايقات التي حصلت له في اسطنبول بعد سيطرة مصطفى كمال على الحكم، وجد أن الأزهر الشريف وقتها لم يعد كما كان منارة للعلم الشرعي على طريق أهل السنة والجماعة؛ بل صار أسوأ حالا من جامع محمد الفاتح في الأستانه (اسطنبول) الذي كان يفوقه الأزهر بمراحل في هذا المنحى، فحز ذلك في نفسه وضاق به ذرعا.
وكان من بين ما شق عليه أمران:

الأول: أنه وجد أن كل ما فرضه الغرب بالقوة والقهر من تغيير للدين وإبعاد عنه على أهل اسطنبول، فإن أهل القاهرة والأزهر بالتحديد قد قبلوه طواعية؛ بل قد سعوا إليه وجلبوه إعجابا به وتقديرا.

الثاني: أنه كان يعتقد أن قدومه إلى القاهرة يريحه من مواجهة الملاحدة في اسطنبول وغيرها، لكن الأمر بدا على خلاف ذلك.
إذ يقول: “وكان ظني عند مغادرة تركيا مهاجرا إلى بلاد العرب التي جاء نور الإسلام إلينا منهم، أني أستريح من مجاهدة الملاحدة، لكني وجدت الجو الثقافي بمصر أيضا مسموما من تيار الغرب، فشق هذا على نفسي أكثر مما شق علي موقف تركيا الجديدة من ذلك التيار، كما شق وقوفي على أن إخواني العرب يفضلون تركيا هذه على تركيا القديمة المسلمة، فرأيتهم توغلوا في تقليد الغرب وسابقوا الترك في الافتتان به. والانقلاب الثائر في تركيا حصل عندهم في شكل هادئ ومن طريق التأثير والتجديد في الأزهر”.
ويصف الحالة الدينية آنذاك هناك بـ “أن الدين في مصر مع ما فيها من الجامع الأزهر وغيره من المعالم والمعاهد القديمة في حالتها الراهنة، ومع كون دستورها الجديد لا يزال ناطقا بدين الدولة، لفي حالة عجيبة، لا من ناحية العمل بأحكام الشريعة الإسلامية وقوانينها فحسب، بل ومن ناحية الاعتقاد والاعتراف بأصول الدين الملخصة في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر”.
ويقول أيضا: “ولما هاجرت بعد انقلاب تركيا إلى مصر وجدت فيها العلم الغربي الحديث الناظر إلى الأديان نظره إلى الأساطير، أنطق لسانا من علم أصول الدين الإسلامي وأعلى صوتا”.
وعلى كل حال: ” لا فرق بين مصر وتركيا الحديثتين في غلبة الإلحاد على الديانة إلا من حيث إن الانقلاب اللاديني تأسس في تركيا جبرا من الحكومة مفاجأة من عهد مصطفى كمال، وفي مصر بالنشر والدعاية المدسوسة من حملة الأقلام والمحاباة من الحكومة المرتبطة هي الأخرى بمحاباة من الغرب الذي هو رأس هذه الفتنة في المملكتين”.

**********
(2)
حاول الشيخ جاهدا أن يحاور علماء الأزهر ومشايخه، لكن محاولاته يبدو أنها باءت بالفشل، فما كان منه إلا أن امتشق قلمه، وواجه عجمتَه حتى طوعه للكتابة بالفصحى “للجهاد العلمي الديني” في مواجهة “تيارات الزيغ العصري”.
ألف في سبيل ذلك كتبا، ونشر مقالات عدة، ومن أجل ما ألف وجمع في هذا الموضوع هذا الكتاب.
وكان مصطفى صبري قوي الموقف، صريح العبارة، يعين من يرد عليه بالاسم، وربما أغلظ في الرد أحيانا.
وقد قيل له في ذلك وعاتبه عليه بعض أصدقائه ومعارفه، فكان يقول إن التصريح باسم المردود عليه لا بد منه ما دام الأمر ليس شخصيا، بل متعلقا بأمر أخطر وأهم وهو دين الإسلام وشريعته، ومناهج إثبات عقيدته واستنباط أحكامه.
فضلا عن أن القارئ ـ حسب تعبيره ـ لن يلتفت أساسا إلى اسم المردود عليه، ولا له أهمية عنده، بل مدار اهتمامه منصب على الفكرة والأدلة والبراهين، ولا يعنيه قائلها ولا كاتبها.

**********
(3)
وجد مصطفى صبري نفسه في مواجهة عدة اتجاهات قد تتقاطع في بعض الأفكار وقد يستقل بعضها ببعضها:

1ـ الفلاسفة الغربيين.
ولا أطيل كثيرا بذكر النقاط التي رد عليهم فيها، بل أكتفي بذكر ما يهم هنا وهو ما تسرب منها إلى بعض المفكرين والعلماء المسلمين، مثل جحود وجود الله تعالى، والعلاقة بين الدين والعلم الحديث، والدين والحياة، وإنكار المعجزات وخوارق العادة عند “هيوم”.

2ـ دعاة التغريب، واللامذهبية، وعلى رأسهم مدرسة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن تأثر بها من علماء الأزهر ومفكريه وكتابه، كرشيد رضا، والمراغي، والشيخ شلتوت، وهيكل باشا، وفريد وجدي بك.
وكان نقاشه معهم ورده عليهم منصبا على نكران هؤلاء للكرامات والمعجزات النبوية غير القرآن، وتحوير مفهومهم للإيمان بالغيب، ونكرانهم للبعث والنشور، ونكران الجن والملائكة، ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، ونكرانهم لبعض أحكام الشرع، كالقول بعدم وجوب الحجاب عند قاسم أمين “مفتي الديار المصرية في النساء” كما يسميه.
وكل ذلك بادعاء أن هذه الأمور مخالفة للعقل ومقتضيات العلم الحديث.
“فمعجزات الأنبياء المعدودة من الخوارق التي تستند إليها نبواتهم غير معترف بها عند المبرزين من العلماء الذين اتخذتهم مصر الحديثة أئمة في الدين مثل الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والشيخ الأكبر المراغي، واقتدى بهم الكتاب من كبار المؤلفين مثل الدكتور هيكل باشا والأستاذ فريد وجدي بك”.
ويتمنى مصطفى صبري لو أن هؤلاء العلماء إن كان لابد لهم من تقليد فلاسفة الغرب، قلدوا العلماء المتكلمين بلغة العقل منهم من أمثال العالم الإنكليزي: “وليام ستانلي جون” وغيره.
“فالدين بكلا ركنيه الأساسيين مقذوف به في نظر الأوساط المثقفة المصرية بالعلم الحديث ـ الذي لا يؤمن بغير ما ثبت بالتجربة الحسية ـ إلى عالم الأساطير”.

والخلل عند هؤلاء ـ حسب مصطفى صبري ـ أتى من ثلاثة أمور:

الأول: عدم معرفة الأحكام العقلية والعادية والفرق بينها، وعدم التمييز بين واجبها ومستحيلها وجائزها، فقد أوقعهم ذلك فيما وقعوا فيه من نكران لما جاءت به نصوص الوحي الصريحة وأيدته البراهين العقلية القطعية.

الثاني: عدم التفريق بين مفهوم العقل البرهاني، ومفهوم العقل التحسيني، فالأول أحكامه لا تقبل النقيض ولا التخلف، والثاني لا بد فيه من الشرع موجها ومسددا، وإلا زلت الأقدام وأنكرت أحكام الشرع جملة حسب الهوى والتشهي.

الثالث: الطعن في علم الكلام ومنهجه، واعتباره من العلوم القديمة التي عفا عليها الزمن، وطعنهم كذلك في المنطق وقوانينه، وبالأخص مبدأ التناقض الذي كثيرا ما انتقده بتوهم وقوعه تأثرا بفلسفة هيكل.
وفي رده على دعاة اللامذهبية وادعاء أن مذاهب الأئمة المجتهدين كانت مبنية على السياسة، يقول: “إن القوانين التي وضعها أئمة الشريعة الإسلامية في القرن الثاني الهجري وأخذوها من الكتاب والسنة، إذا كان عيبها عند شيخ آخر الزمان قدمها إلى هذا الحد، فما ذا يكون عيب مأخذها وهو أقدم منها؟”.

3 ـ القائلون بأن لا فائدة من إثارة مسائل العقيدة والدفاع عنها، والذين يعتبرونها من المسائل الماورائية الضائعة بين الفلسفة القديمة والحديثة، والأولى منها عندهم أن يقصر البحث على مأكل المرء ومشربه وملبسه، وما يقوم به حياته الدنيويه.
ورده على هؤلاء من حيث إن هناك رابطة بين الدنيا والآخرة، وهي رابطة العلم التي يسعى كل واحد لتحصيلها واكتسابها، سواء لذاتها أو للدفاع عن معتقده.
على أن الدولة الإسلامية في زمانه تفككت وتفرقت ـ بعد أن كانت شامخة ـ إلى دويلات تئن تحت وطأة الغرب، وأصبحت ألعوبة في أيدي “ثلاث دول كبيرة من الكبائر”، وهي بذلك تكون قد خسرت الدنيا، فهل تخسر الآخرة أيضا بتركها العلم وسبيله؟
لا، بل عليها أن تتمسك بآخر ما حاربها عليه الغرب من مناهج تحصيل العلم وطرقه لإثبات عقيدتها وشريعتها، تزامنا مع محاولتها الاستقلال برأيها والاتحاد في بينها لإقامة دنياها.
“أما إن أرادوا أن يكونوا أقوياء في الدين والدنيا معا ويبعثوا إلى الحياة مرة ثانية قبل مبعث الآخرة، فطريق الوصول إلى هذه الغاية… هو التمسك بديننا وأخذ القوة من قوته حتى القوة الدنيوية إلى حد أن نغلب الغالبين؛ لأن الإسلام أقوى الأديان وأوفقها للعقل الذي يغلب بفضله غلاب الدنيا”.

4 ـ القائلون بالاتحاد والحلول، رد عليهم، وناقش أهل وحدة الوجود نقاشا قويا، وبين مكان الخلل في هذا المنهج ومداخل الزيغ فيه.

5 ـ المنادون بالقومية، سواء في تركيا قبل الفترة “الكمالية” وبعدها أو في مصر، وقد رد على القائلين بها ورأى في الدعوة إليها تفريقا للأمة الإسلامية وتشتيتا لجهدها في مواجهة نضالها ضد المتكالبين عليها من الغرب.

6 ـ العلمانيون، أو دعاة مبدأ فصل الدين السياسة، الذي بدأ منذ زمان، بشكل جزئي في مصر، وبشكل كامل في تركيا، حسب مصطفى صبري.
وطرح هنا سؤالا: هل سبب تقدم دول الغرب ـ رغم أن دينهم لا يؤيده عقل ولا منطق ـ وتخلفنا نحن المسلمين ـ رغم أن العقل بجانب ديننا، هو كون قادتهم لا دين لهم؟ وأنهم فصلوا بين السياسة والدين؟
وأجاب عن ذلك رادا على من ادعاه مبينا مكامن الخلل فيه، وأن هذا الطريق إن صلح مع أهل الكنيسة الغربية لبعدها عن العقل والدين الصحيح، فإنه لا يصلح في الدين الإسلامي الذي يؤيده العقل والبرهان، ولا يجوز فيه.
“فللمسلم قوتان: قوة من دينه، وقوة من عقله، ولا قوة لمن لا دين له من دينه، والمسيحي في حرب مستمرة بين دينه وعقله المتعارضين”.
وقال إن أعظم تأثير لفصل الدين عن السياسة يكون في جانب الأخلاق بإفسادها، “إذ لا يمكن ادعاء بقاء الأخلاق على نزاهتها في البلاد المقطوعة صلة حكومتها عن الدين… ولهذا أصبح التقدم المشهود في بلاد الحضارة الجديدة مليئا بالفسق والفجور” ولم يقتصر دور هذه الدول على فساد الأخلاق بحسب؛ بل جمعت مع ذلك الظلم والغدر للبلدان الضعيفة، ينغصون عيشة أهلها، وينهبون خيراتها، ويحرمونها مما يحللونه لأنفسهم من حقوق الإنسان، مستخدمين في ذلك المكر والخديعة.
وعلى العموم فالقارئ لهذا الكتاب في هذه النقطة، سيلاحظ ـ إضافة إلى الأدلة التي ساقها ـ مسحة أخلاقية واضحة صبغت كلام المؤلف عند حديثه عن اتحاد المسلمين، ونبذ التفرقة، والقومية، والدعوة إلى الديمقراطية المستمدة من تعاليم الإسلام التي تراعي مراقبة الله تعالى والخوف منه، والبعد عن الديمقراطية الغربية البلشفية المزيفة التي تراعي مراقبة البشر، وتكرس النفاق في المجتمع بحيث يكون ظاهر الشخص خلاف ما يبطن.

هذه ملاحظات سريعة على نقاط مهمة ناقشها الكتاب، ليست مستوعبة لا طبعا ولا وضعا، لكنها معينة لقاصد قراءته وسبر أغواره، فالكتاب في غاية الأهمية.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى