آراء وتحليلات

التطرف في الساحل.. والاستثناء الموريتاني

تنويه بتجربة موريتانيا الرائدة في مواجهة التطرف وبناء جيش قوي متماسك قادر على تأمين هذا البلد الصحراوي مترامي الأطراف.
يتساءل كثيرون عن سر «الاستثناء الموريتاني» في محيط متفجر، أصبح المسرح الأول في أفريقيا لنشاط التنظيمات المتطرفة العنيفة.
«إنكم أيها الموريتانيون لا تقدِّرون التقديرَ المستحق لحفاظكم على الإسلام الأهلي حياً فاعلا، فهو الذي حماكم من خطر التطرف والغلو، في حين فرَّطنا نحن فيه فابتلعنا المتطرفون».
اختارت موريتانيا منذ دستورها الأول الهويةَ الإسلامية للدولة وقننت في التسمية الرسمية للدولة، وسعت على غرار مجموع الدول العربية إلى التنصيص على الإسلام ديناً للدولة ومصدراً للتشريع.

خلال زيارة الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني الحالية لإسبانيا، أكد رئيس حكومتها ما كان قد أكده الرئيس الفرنسي ماكرون الشهر الماضي في القمة الأفريقية الأوروبية في بروكسل من تنويه بتجربة موريتانيا الرائدة في مواجهة التطرف وبناء جيش قوي متماسك قادر على تأمين هذا البلد الصحراوي مترامي الأطراف.
ولهذا التنويه علاقة بديهية بالسياق الإقليمي المتفجر في منطقة الساحل الأفريقي التي تنتمي إليها موريتانيا. ففي اثنتين من الدول الخمس التي أسست تجمعَ دول الساحل انتزع الجيش السلطة عن طريق انقلاب عسكري مباشر، كما حدث في مالي وبوركينا فاسو، أما في التشاد فقد أمسك مجلس عسكري انتقالي بمقاليد الحكم بعد وفاة الرئيس إدريس ديبي في ساحة القتال.
أما الدولة الرابعة التي هي النيجر، فتشهد تصاعداً للعمليات الإرهابية لاسيما في المناطق المعدنية والمناطق الحدودية المشتركة مع مالي وبوركينا فاسو، ولا يبدو أن حكومة الرئيس الجديد محمد بازوم بصدد السيطرة الحاسمة على التحديات الأمنية المتفاقمة.

ويتساءل الكثيرون عن سر «الاستثناء الموريتاني» في محيط متفجر، أصبح المسرح الأول في أفريقيا لنشاط التنظيمات المتطرفة العنيفة. ويمكن تفسير هذا الاستثناء بعوامل ثلاثة كبرى هي:
أولا نجاح موريتانيا في بناء مؤسسة عسكرية قوية ذات كفاءة عالية، رغم محدودية الموارد وقلة السكان واتساع المساحة الجغرافية للبلاد. ولا شك في أن للرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني دوراً أساسياً في هذا المكسب باعتباره أشرف على إعادة بناء الجيش الموريتاني خلال السنوات العشر التي أمضاها قائداً للجيوش الموريتانية.
ثانياً، طبيعة إدارة الحقل الديني التي اضطلعت بها الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد منذ رئيس موريتانيا الأول المرحوم المختار ولد داداه.
ففي الوقت الذي كرست دساتير البلدان غرب أفريقية ذات الأغلبية المسلمة مبدأ العلمانية الفاصلة جذرياً بين الدين والسياسة، اختارت موريتانيا منذ دستورها الأول سنة 1959 إلى دستورها الحالي الصادر عام 1991 الهويةَ الإسلامية للدولة التي أصبحت مقننةً في التسمية الرسمية للدولة، وسعت على غرار مجموع الدول العربية إلى التنصيص على الإسلام ديناً للدولة ومصدراً للتشريع.
وقد جنبت هذه المرجعيات الدستورية موريتانيا الجدل الذي أُثير في بعض البلدان الأخرى في المنطقة حول هوية الدولة ومكان الدين فيها، في الوقت الذي حافظت السلطات المركزية على المؤسسة الدينية التقليدية وعملت على توطيدها وترسيخ نفوذها في مواجهة الانشقاقات الراديكالية باسم الأيديولوجيا أو العمل المسلح.
ثالثاً، اعتماد استراتيجية مركّبة لمواجهة التطرف الديني العنيف تجمع بين الحلول الأمنية وإشراك المؤسسات العلمية والدينية في سياسات وخطط مقاومة التشدد والغلو، من خلال تقديم المادة الثقافية الدينية الرصينة المعتدلة والرد على الشبهات السيارة التي يستند إليها المتطرفون في ممارساتهم الإرهابية.

في مقابلة مع إحدى القنوات الأوربية مؤخراً، شرحت لمحاوري كيف أن التقليد السني الوسيط الخالص من كل تلاعب أيديولوجي أو توظيف سياسي راهن، يتضمن الكوابح الضرورية التي تحول دون العنف والتطرف.
ومن هذه الكوابح الأساسية رفض تقنين الاعتقاد وفهمه كدخول طوعي في المظلة العامة للأمة، وتكريس مبدأ الطاعة المطلقة لولي الأمر خشية الفتنة والفوضى، وهو ما يعني باللغة الحديثة التمسك بشرعية الدولة والولاء لها، وإناطة مسؤوليات الحرب والسلم والعلاقات الدولية بالسلطة الشرعية وفق ضوابط ومصالح الأمة.
إن هذه المحددات هي المرتكزات الراسخة للإسلام الموريتاني وهي السمات الناظمة لما سميناه بالاستثناء الموريتاني في المجال الإقليمي غرب أفريقي والساحلي. قبل أسابيع انعقد في نواكشوط المؤتمر الأفريقي الثاني للسلم بمبادرة من منتدى أبوظبي لتعزيز السلم وبرعاية الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني وإشراف العلامة الشيخ عبد الله بن بية رئيس المنتدى والمؤتمر.

وكان من أهم نتائج هذا المؤتمر الحاشد، الدعوة إلى الاستفادة من التجربة الموريتانية الناجحة في تسيير الحقل الديني ومواجهة التطرف والغلو، في ضوء فشل السياسات الدينية لدول الجوار جرَّاء انهيار المؤسسة الدينية التقليدية التي كان دورها حاسماً في حماية نسيج المجتمع الأهلي في الوقت الذي فشلت المرجعيات العلمانية الهشة في بناء أطر إدماجية فاعلة للمواطنة المتساوية.
لقد قال لي مسؤول سامي من دولة مالي، درس في المدارس التقليدية الموريتانية منذ أكثر من أربعة عقود: «إنكم أيها الموريتانيون لا تقدِّرون التقديرَ المستحق لحفاظكم على الإسلام الأهلي حياً فاعلا، فهو الذي حماكم من خطر التطرف والغلو، في حين فرَّطنا نحن فيه فابتلعنا المتطرفون».

* د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني

 


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى