عالم موريتاني يكتب عن حكم ضرب المرأة لزوجها
ضرب الزوج تطبيق عكسي لمذهب الطبري في تفسير الهجر.
ضرب الزوج بإضافة المصدر إلى المفعول خلاف الشرع والعادة والمألوف و”الأنوثة” ويكاد يكون خلاف الفطرة..
فالمألوف طول اللسان أما طول اليد إذا لم يكن كناية عن الكرم ـ أطولكن يدا ـ فغير مألوف وتنفر منه الطباع وتمجه الأسماع.
يشاع في هذا الفضاء أن امرأة خنقت زوجها وضربته فإن كان الأمر صحيحا فنحن مالكية نحاول تكييف نازلة فقهية واقعة بإعطائها حكمها وإن كان غير صحيح ـ وذلك ما نرجوه ـ فنحن أحناف نفرض فقها تقديريا ونجيب عنه حتى إذا وقع وجد الحكم أمامه وفي ذلك نماء للفقه ودربة للمفتي.
ونحاول حصر الكلام عن هذه المسألة في ثلاثة مقامات:
المقام الأول حكم ضرب الزوج والزوجة.
المقام الثاني: التطليق على الزوج إن أضر بزوجته بخلاف إضرار الزوجة.
المقام الثالث: تفسير الطبري للهجر.
المقام الأول حكم ضرب الزوج والزوجة.
بالنسبة لضرب الزوج حرام ما لم يكن في مقابلة اعتداء مماثل فإن كان الزوج كريما عفا وإلا فله القصاص، وأما ضرب الزوجة فهو جائز ـ ولن يضرب النساء خياركم ـ وليس واجبا ولا مستحبا بل هو في مرتبة الجواز المفضول لذلك فهو أقرب إلى الكراهة منه إلى الجواز المستوي الطرفين ولا سيما أنه ليس جوازا مطلقا بل مسبوقا بخيارات أخرى وقيده الفقهاء بظن الإفادة والانزجار وإلا امتنع فالفقهاء في هذا الجانب “حقوقيون” أكثر من غيرهم.
والدليل على التفريق بين الضربين أن الله سبحانه وتعالى ذكر نشوز المرأة فأعطى فيه ثلاثة خيارات فقال تعالى:
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } [النساء: 34]
فذكر للزوج ثلاثة خيارات: الوعظ وهو الأول، والهجر وهو الثاني، والضرب وهو الأخير، واشترطت السنة ألا يكون مبرحا واشترط الفقهاء أن يظن إفادته فإن كان يزيد النشوز فلا يجوز، قال خليل مرتبا هذه المراتب: “وَوَعْظُ مَنْ نَشَزَتْ ثُمَّ هَجْرُهَا ثُمَّ ضَرْبُهَا إن ظن إفادته”.
ثم ذكر تعالى نشوز الزوج فقال:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء: 128]
فلم يذكر للزوجة إلا خيارا واحدا يتماشى مع ما فطرها الله عليه في الغالب من لين العريكة والرحمة والرأفة وهذا الخيار هو الصلح المفضي إلى استمرار الألفة والمودة أو القائد إلى الفرقة: “وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته”.
ومن هنا فأي ضرب منها له فهو اعتداء لعدم الإذن ولغيابه عن الخيار القرآني الذي صرح به القرآن وعليه فقياس ضربها له على ضربه لها مردود بقادح يسمى في أصول الفقه بفساد الاعتبار وهو مخالفة القياس للنص.
ولهذا قال خليل:” وبتعديه زجره الحاكم” فأحال الأمرـ في حال ما إذا تعدى الزوج على الزوجة ـ على الحاكم لا عليها هي.
المقام الثاني: التطليق على الزوج إن أضر بزوجته بخلاف ضرر الزوجة.
هناك سؤال مطروح لماذا أباح الفقهاء للزوجة الطلاق عند ثبوت الضرر بها من طرف الزوج كما قال خليل: “ولها التطليق بالضرر” حتى إن بعضهم تساهل في ذلك الضرر فقال لو صرف عنها وجهه في الفراش لكان ذلك ضررا يجيز لها الطلاق في حين أنهم لا يقولون إن الزوج له الطلاق بالضرر؟
والجواب أن هذا يقوم على موازنة حكيمة وهي أن الزوجة ليس بيدها الطلاق ولا تملك أمر نفسها فأتاح لها الشرع الطلاق بالضرر لئلا تبقى في شقاء لا تتحمله ففي الخبر لا ضرر ولا ضرار، بينما الرزوج يملك الطلاق متى أراد إيقاعه ولو من غير ضرر فلا معنى لإعطائه ما هو في يده، نعم في حالة ما إذا كانت المعتدية قد يستفيد مالا عن طريق الخلع إذا وصلا مرحلة التحكيم المذكورة في القرآن: “فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها” قال خليل مبينا ما يفعله الحكمان: “وعليهما الإصلاح فإن تعذر فإن أساء الزوج طلقا بلا خلع وبالعكس ائتمناه عليها أو خالعا له بنظرهما وإن أساءا فهل يتعين الطلاق بلا خلع أو لهما أن يخالعا بالنظر وعليه الأكثر؟ تأويلان”.
المقام الثالث: تفسير الطبري للهجر.
لشيخ المفسرين ابن جرير الطبري موقف متشدد وطريف لغرابته في تفسير الهجر المذكور في القرآن من بين الخيارات المتاحة للزوج، ذلك الموقف الذي يبدو أن هذه السيدة انتزعته من زوجها وطبقته عليه في حين أن ابن جرير الطبري يريد من الزوج تطبيقه عليها.
وهذا التفسير أنه فسر الهجر بأن يربط الزوج زوجته بحبل كما يربط البعير حيث يقول: (فَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء: 34] مُوَجَّهًا مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنَى الرَّبْطِ بِالْهِجَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْبَعِيرِ إِذَا رَبَطَهُ صَاحِبُهُ بِحَبْلٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا: هَجَرَهُ فَهُوَ يَهْجُرُهُ هَجْرًا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ كَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ , فَعِظُوهُنَّ فِي نُشُوزِهِنَّ عَلَيْكُمْ , فَإِنِ اتَّعَظْنَ فَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ , وَإِنَّ أَبَيْنَ الْأَوْبَةِ مِنْ نُشُوزِهِنَّ فَاسْتَوْثِقُوا مِنْهُنَّ رِبَاطًا فِي مَضَاجِعِهِنَّ , يَعْنِي فِي مَنَازِلِهِنَّ وَبُيُوتِهِنَّ الَّتِي يَضْطَجِعْنَ بِهَا وَيُضَاجِعْنَ فِيهَا أَزْوَاجَهُنَّ..).
ومن أبرز من رد عليه هذا التفسير الغريب عالمان بارزان في التفسير واللغة أحدهما الإمام الزمخشري، والثاني ـ بل الأول ـ القاضي أبوبكر بن العربي.
أما الإمام الزمخشري فلم يسم الإمام الطبري بالاسم وكان رده مختصرا ولعله يدخل في أفانين الأدب والوخز اللطيف حيث يقول في تفسيره الكشاف:
( أمر بوعظهن أوّلا، ثم هجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران. وقيل: معناه أكرهوهن على الجماع واربطوهن، من هجر البعير إذا شدّه بالهجار.
وهذا من تفسير الثقلاء).
فقوله: “وهذا من تفسير الثقلاء” وخز أدبي لطيف، فلله ما ألطف هذا التعبير وما أحسن هذا الرد المختصر.
وأما القاضي أبوبكر بن العربي فقد رد على هذا التفسير “العنيف” رد العلماء المحققين والفقهاء الراسخين وشنع على الطبري وسماه بالاسم حتى كاد يأخذ بتلابيبه، وبما أني طربت حين قرأته فإني سأنقله لكم على طوله حتى تشاركوني في هذا الطرب الذي لا اختلاف في جوازه وبه نختم هذا المقال أو “الفتوى”
يقول القاضي أبوبكر بن العربي:
(المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34]: فيه أربعة أقوال:
الأول: يوليها ظهره في فراشه؛ قاله ابن عباس.
الثاني: لا يكلمها، وإن وطئها؛ قاله عكرمة وأبو الضحى.
الثالث: لا يجمعها وإياه فراش ولا وطء حتى ترجع إلى الذي يريد؛ قاله إبراهيم والشعبي وقتادة والحسن البصري، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم.
الرابع: يكلمها ويجامعها، ولكن بقول فيه غلظ وشدة إذا قال لها تعالي؛ قاله سفيان. قال الطبري: ما ذكره من تقدم معترض، وذكر ذلك، واختار أن معناه يربطن بالهجار وهو الحبل في البيوت، وهي المراد بالمضاجع، إذ ليس لكلمة اهجروهن إلا أحد ثلاثة معان. فلا يصح أن يكون من الهجر الذي هو الهذيان، فإن المرأة لا تداوى بذلك، ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول، لأن الله لا يأمر به؛ فليس له وجه إلا أن تربطوهن بالهجار. قال ابن العربي: يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة، وإني لأعجبكم من ذلك؛ إن الذي أجرأه على هذا التأويل، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه، هو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة بالأخرى، وضربهما ضربا شديدا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي؛ فكان الضرب بها أكثر وآثر؛ فشكته إلى أبيها أبي بكر؛ فقال لها: أي بنية اصبري؛ فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة، ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة.
فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير، فأقدم على هذا التفسير لذلك. وعجبا له مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب كيف بعد عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر؛ فلم يكن بد والحالة هذه من أخذ المسألتين من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد؛ فنظرنا في موارد ” هـ ج ر ” في لسان العرب على هذا النظام فوجدناها سبعة: ضد الوصل. ما لا ينبغي من القول. مجانبة الشيء، ومنه الهجرة. هذيان المريض. انتصاف النهار. الشاب الحسن. الحبل الذي يشد في حقو البعير ثم يشد في أحد رسغيه. ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو البعد عن الشيء فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصحبة، وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب، ومجانبة الشيء بعد منه وأخذ في جانب آخر عنه، وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام، وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف. والشاب الحسن قد بعد عن العاب، والحبل الذي يشد به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرفه واسترسال ما ربط عن تقلقله وتحركه.
وإذا ثبت هذا، وكان مرجع الجميع إلى البعد فمعنى الآية: أبعدوهن في المضاجع. ولا يحتاج إلى هذا التكلف الذي ذكره العالم، وهو لا ينبغي لمثل السدي والكلبي فكيف أن يختاره الطبري، فالذي قال: يوليها ظهره جعل المضجع ظرفا للهجر، وأخذ القول على أظهر الظاهر، وهو حبر الأمة، وهو حمل الأمر على الأقل، وهي مسألة عظيمة من الأصول. والذي قال يهجرها في الكلام حمل الأمر على الأكثر الموفي، فقال: لا يكلمها ولا يضاجعها، ويكون هذا القول كما يقول: اهجره في الله، وهذا هو أصل مالك.
وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال في تفسير الآية: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهن، فإذا كانت ليلتها يفرش في حجرتها وتبيت هي في بيتها.
فقلت لمالك: وذلك له واسع؟ قال: نعم، وذلك في كتاب الله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34] والذي قال: لا يكلمها وإن وطئها
فصرفه نظره إلى أن جعل الأقل في الكلام، وإذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة، هذا وهو الراوي عن ابن عباس ما تقدم من قوله. والذي قال: يكلمها بكلام فيه غلظ إذا دعاها إلى المضجع جعله من باب ما لا ينبغي من القول. وهذا ضعيف من القول في الرأي؛ فإن الله سبحانه رفع التثريب عن الأمة إذا زنت وهو العقاب بالقول، فكيف يأمر مع ذلك بالغلظة على الحرة).
فانظروا رحمكم الله كيف تؤتى البيوت من أبوابها، وكيف تكون اللغة العربية مهادا وأصول الفقه فراشا لتحقيق سبل الاجتهاد وإيضاح مناهج السداد.
فلله أبوك أيها القاضي المجتهد!
الدكتور سيد أحمد ولد سيدي الخليل