آراء وتحليلاتالأخبار

التدوير والتبرير والتنوير… يستحق القراءة

 

لقصة : استطاعت ألمانيا الجريحة أن تنهض في ظل الحصار الكوني المفروض عليها، وأن تنافس الدول العظمى بعد أن عزلت الحركة النازية بشكل كامل ، بل لم تكتفي بالعزل فقط فقد جرمت بالقانون كل مايمكن أن يعيد إلى المخيال الجمعي أي تمجيد للحركة التي كانت تتحكم في كل نفَس يخرج من أي منخار ألماني.

 

المقال : هب أننا بدعا من الأمم، وأن قوانين الطبيعة تظل عاجزة عن عبور حدود الدولة التي تقف على عتبة منتصف سن الكهولة حسب عمر الدولة عند بن خلدون، وهب أن الرئيس يتم اختياره سلفا من قبل “المحفل الباريسي” الذي تحدث عنه “الشنافي” للدكتور حماه الله ولد السالم ، وأن كل مايجري بعد الإختيار مجرد أوبرا تعزفها جوقة عازفين كي تخدّر نستلوجياها من يعيشون خارج وِرش تصميم القرار.

 

حينها لن يقبل ميزان المنطق في عقلك أن يرضى “محفل المستثمرين” بخسارة إجماع يتحقق مرة واحدة كل عشرة قرون، في صحراء لم تذعن يوما لأي قانون سوى القانون القاسي الذي فرضته عليها الطبيعة، والتي فاضلت في العطاء حدّ الحيف بينها وبين أترابها، ولن ترضى ذائقتك النقدية أن تستوعب انقلابا لقوانين الطبيعة وظهورا للمعجزات على فترة من الرسل، لترضى بأن عملية حسابية محسومة النتائج سلفا، إذا طبقتها مع اختلاف الزمكان اختلفت النتيجة.

 

أما في الواقع وبعيدا عن كلام “الشنافي” و “حماه الله”، فلن يحصل لديك شك أن أي مستثمر في السياسة لا ينشد الإجماع، وأن كل رئيس يعد سياسيا مهما كانت خلفيته أومدرسته، وأن كل دوائر القوة المدنية والعسكرية متفقة على أن إدارة الجمهوريات  تختصر على طريقة واحدة تسمى “سياسة”، وأن ما سوى ذلك لا يتفق الجميع على تسمية النظام فيه بـ”الجمهورية”، بل ربما يستعاض عنها بـ”الدولة” فيما سوى الممالك وشبهها.

 

حظي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، بإجماع لم ولن يتحقق لغيره في قريب الماضي والمستقبل، وهذه من أبرز نقاط قوته، فمن كان يتخيل أن تهجر دلّالة السياسة ساحة المسجد العتيق، ماينيف على الحول..؟ وهي التي كان السعي بين المسجدين عبادتها الوحيدة التي تؤدي بإنابة وإخلاص، ومن كان يتخيل أن تغيب بيانات منددة وقت انتظارها، وأن يعاني شلّال الشجب المتدفق طوال العقد الماضي من نضوب مخيف ،ومن كان.. ومن كان.. ؟؟

 

هب أن الإجماع الذي حصل مع غزواني، كان بفضل ميزات شخصية يمتلكها الرجل، وأن المعايير والطرق التي أدار بها دفة حكم البلاد، ساهمت في تعزيز ميزاته الشخصية، وأن إبعاد الفتيل عن مصدر اللهب في كل النقاط التي لاتحظى بإجماع الطيف عزز ذلك؛ لكن إذا كان الحال هكذا ألا يجب أن تثمن وتعزز تلك النقطة، وأن تحظى بمنزلة المقدس الذي يجب وضعه فوق كل اعتبار، بعــيدا عن المتلاعبين وأصحاب الأهواء..؟

 

بالأمس أعلن أحد الساسة الشباب تذمره من “تدوير” شخصيات مشمولة في ملفات “العشرية”، وقد تذمر أخ له من قبل؛ فعلى ضفة حملة الأقلام والصحف، لم ترفع الأقلام، ولم تجف الصحف، والكل على سماط التذمر آكلون؛ أما من يتتبع أصداء التواصل الجمعي، ويرصد آراء المواطنين وأصحاب الرأي في المقاهي والأماكن العامة والمجالس، فإن شعوره إزاء الإجماع لن يقتصر على القلق فقط، بل ربما يتكون لديه انطباع عن تخندق الإجماع في زاوية مغايرة لما كان عليه الأمر قبل أشهر.

 

حاول سيدنا عثمان رضي الله عنه، أن يقنع ساكنة الأمصار بأن وُلاته الذين اختارهم لإدارة شؤون الخلافة هم الأصلح، وأن من يرى الأمور من منطق الحاكمية، ليس كمن يراها من منطق المحكومية، لكن نتيجة قراراته كانت معروفة؛ فالنفوس إذا عافت حافت، والحاكم إذا لم ينل ثقة المحكوم، كان صوابه مذموما؛ وهنا تكمن نقطة الخوف على ميزة الإجماع؛ صحيح أنه ربما يصدع صوت آخر بعكس هذا، لكن إكراهات التخندق لها أحكام، والمبررون قصد نيل الثقة غشاشون، وقد فعلوها من قبل وسيفعلونها من بعد، والشواهد على ذاك عن يمين وشمال.

 

إن المتتبع لرجال المرحلة سيفرق بسهولة بين فاعلية الطريف والمتلد فيهم، كما سيفرق بين القبول الذي يحظون به بين أفراد القاعدة الجماهيرية، وسيلاحظ الفرق بين تثمين نزر الإنجاز لدى الطريف منهم وبين عظيمه لدى المتلد منهم، فلا شك أن إعادة الثقة في بعض رجال “الحقبة الماضية” لم يكن خطأ، إذا ما تحدثنا بمنطق الإنجاز، لكنه يظل خطأ فادحا إذا تحدثنا بمنطق السياسة.، وهنا أذكر بأن النفوس إذا عافت حافت، وأن الجمهوريات لاتدار إلا بالسياسة.

 

كان أبو العباس “السفاح” رغم دمويته، ميالا إلى استيعاب رجال الأمويين، فقد استوعب معن بن زائدة الشيباني وغيره كثير، لكنه ولّى معناً، فقيل له في ذلك، فأجاب بأنه لم يؤخذ عليه سوى إخلاصه للأمويين حتى زال ملكهم، وذاك أمر يعالج بالإحسان ومنح الثقة، أما أخذ الغلول فليس له علاج وهو بعيد عنه، لكن معناً كريمٌ، والكريم عن الخنى بمعزل، ومن كان كمعنٍ كان جديرا بثقة الجميع فلن يرضى بالدنية.

 

صحيح أن رَحِم موريتانيا الخصيب لن يعقر دون إنتاج معنٍ..؛ لكن الأجدر بنا أن لا ننسى أيضا أن رحِمها لن يعجز عن إنتاج آلاف أفضل من معن، فموريتانيا ولّادة، ويتأكد كلامنا إذا علمنا أن الخلافة العباسية لم تنهض إلا في عصر أبي جعفر المنصور، حينما طبق “عزلا سياسيا” تاما على أساطين الحقب السابقة لفترة حكمه.

 

يوجد تشابه كبير بين الثقة والقناني الزجاجية فكلاهما يستحيل أن يعود كما كان بعد كسره، والشعوب خلال الفورات الشعبوية وموجات الإحباط تكون متشائمة جدا، ولا توجد عدوى أسرع انتشارا من عدوى التشاؤم، والشعوب المتشبعة بالشعبوية، لا يمكن أن تمنح فرصة ثانية لمن كُسرت ثقتها فيه، حتى لو تاب وأناب، فالفرصة الثانية توجد في العواطف فقط، والسياسة أبعد ماتكون عن العاطفة.

 

إن إغلاق الأبواب دون نقاط الخلاف أمر لامفر منه لمن ينشد الهدوء السياسي، والهدوء السياسي أهم شروط الاستثمار والتنمية، وأي تقدم تنموي حصل في جو مشحون سيظل دون التقدير المطلوب، والأفعال تأخذ صبغة قوية من الفاعل، سيما تلك الشعوب ذات الوعي المنخفض ونسبة الميزاجية المرتفعة، وأي إنجاز لم يوافق رغبة الجمهور سيظل في حكم الغائب مهما كان حجمه.

 

خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز نهضت البلاد على صعد مختلفة تنمويا وعسكريا ودبلوماسيا، ورأى فيه بعض المراقبين أحد أفضل من حكموا البلاد سابقا، لكن جو القطيعة السياسية الذي عاشها البلد في فترته، ظل حاجز فلاذيا دون تثمين ما أنجز، فكانت الأغلبية المتحكمة في صناعة الرأي العام تقود حملات تشكيك روتينية حول وجاهة المنجزات وقت الإعلان عنها، وحين تكتمل الأشغال يتم اللجوء لمحاكمة نوايا الرجل، وكثيرا ما حكم الرأي العام أن القصد من وراء إنشاء مشروع ما، هو طريقة فقط لجني الرئيس ومحيطه عمولات من وراءه، وفي ذلك عبرة.

 

إن الحلم الأكبر لمن استطاعوا تحقيق أحلامهم في امتلاك السلطة هو الخلود، ولن يخلد التاريخُ غيرَ من كتبوه، ولن يكتب التاريخَ من انفرط حبل القوة لديه بمغادرة الكرسي، وليس من السداد أن يتم التفريط في نقاط القوة مهما حصل، والإجماع في عصر الإجماع ليس نقطة هامشية، ففي عصر الإجماع تدور كل كواكب المجرة حول نقطة مركزية واحدة تسمى “الإجماع”.

 

هب أن مايسمى”التدوير” قد فتح خرم إبرة فقط في عقد الإجماع الحالي، وقتها لايمكن أن يسمى إجماعا، بل يسمى إجماع ناقصا، فقد انفرط العقد، وأي خرم مهما صغر فإن بإمكانه أن يصرّف محتوى القُلّة بشكل كامل، حتى تغدو يبابا.

 

إن أي تبرير لما اتفق الجمهور على خطأه مهما كانت وجاهة طرحه، لن يجعله صوابا فرأي الجمهور له حظ من الوجاهة، وأي آت بعكس رأي الجمهور قد جاء شيئا لن يخرج عن حظيرة الغش أو قمقم المكابرة أو بئر الاستبداد المهلك في قاموس السياسة، فالشعوب المحبطة تسوء أخلاقها، وفي عصر النشر والتعليق يصعب التحكم في مآلات الرأي العام، وسقف الطموحات الشعبية ماعاد بذلك القدر من الانخفاض، وانطلاقا من قاعدة (اسمع صوت امبكينك) فلا مفر من الإنصات للصوت المناوئ ولو مرة، أما أصحاب “الصوت البلسم” فالواقعية تحتم أن نقول لهم في بعض المرات (لقد جئتم شيئا إداً).

 

للعبرة : كانت أعظم نقاط القوة لدى جنكيز خان هي البعد عن العاطفة، واستبعاد المستشارين المجاملين، والأخذ بنداء العقل مهما خالف نداء القلب.

Facebook Twitter  


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى