الأخبار

ظرافات وظرفاء (53) / الأستاذ/ محمدو سالم ولد جدو

في الواحدة والعشرين من سنوات عمري عملت في متجر لأحد أفراد العائلة الأقربين، وفي الأيام الأولى تركني في متجره ذات صباح بعد ما أوصاني بما شاء، ثم أوصى قريبا آخر متحد الرتبة معي في القرابة إليه بإعداد الغداء، مبينا له توفر كل متطلباته؛ إما في الثلاجة وإما ضمن بضائع المحل، ثم لف لثامه عليه بإحكام وجمع دراعته من وراء ظهره وخرج.
كنت في خطوتي الأولى في هذا الميدان، من فئة يضن أصحاب تلك المهنة على واحدها بصفة “الوگاف” مكتفين بوصفه بـ”الكَبَّاب” تعبيرا عن عدم الجدوى في تشغيله. بينما كان قريبي قد أمضى حوالي عامين متتاليين في المهنة وصار كفؤا للمتداول من أمورها. وقد تخلص من العمل منذ يوم أو يومين ليستريح، وكان يصغرني بحوالي ثلاث سنوات.
أنصت المراهق بأدب إلى الوصية المتعلقة بالغداء حتى انتهت فأعاد رأسه إلى الوساد بمجرد خروج الموصِي ونام ما شاء، ثم تمطى ونهض قرب انتصاف النهار وخرج إلى حال سبيله، وحين ابتعد أمتارا التفت إلي مؤكدا أن لا أنسى إعداد الطعام!
لم أجد معنى لإجابته؛ فهو يعرف أن المهمة أوكلت إليه لا إلي، ولو كنت أحسنها لما عُهِد بها إليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ومع ذلك لم أرض أن يعود صاحب العمل موغرا فلا يجد الطعام جاهزا مهما كان وضوح عذري.
جلست أجيل الفكر بين ألوان الطعام اعتمادا على ماأجده على الموائد، فوجدت في كلها عقبات لا يمكنني اقتحامها، وحين يصل تفكيري إلى تحضير الزيت أتخيل انفجارا نوويا مدمرا.. ولم أجد ما أجرؤ عليه سوى الأرز المسلوق بالماء (گوسي) لما تخيلته من بساطة أمره ولخلوه من تفجيرات الزيت.
انزاح الهم عن نفسي فنهضت كمن اكتشف قسما رابعا للأحكام العقلية، أو مكونا ثالثا للماء، أو حاسة سابعة للإنسان، واتجهت إلى حيث رصت الأواني، وأخرجتُ أدوات الطبخ وأتقنت غسلها، ثم أشعلت الغاز تحت الماء والملح. وحين فار التنور أخذت كمية من جيد الأرز وصببتها صبا (لم أكن أعلم أنه يغسل قبل الطبخ) وراقبت “المختبر” باهتمام.
لم يظهر للأرز تأثير في البداية باستثناء الغبرة التي شوهت صفاء الماء، فزدت الأرز فلم أر جديدا، ثم زدته.
بعد قليل رفع الأرز غطاء الأداة عدة سنتيمترات، وحين تفقدته وجدته ثلاثة أقسام متمايزة جدا ككلام النحاة:
1. دائرة قصوى متفحمة بتأثير لهب النار ومباشرة الآلة ومن ثم الجفاف.
2. دائرة داخلية تبدو ناضجة.
3. كمية في “الذروة والقلب” لم يمسسها سوء، وتكاد تمكن إعادتها إلى الكيس وبيعها!
هذا نموذج اقتصرت عليه من عدة محاولات متباينة المنطلقات والوسائل؛ متشابهة النتائج والخلاصات.
وفي عام 1998 انتبهت لأهم اكتشاف لي في علم التغذية.. إنه تحضير الطعام – عند ما لا أجد مناصا من ذلك- من دقيق الحنطة! فإن نضج فهو “العيش الصالح” وناهيك به، وإلا فالماء والدقيق دواء يسمى “لِمْرِيسْ” مفيد للاضطرابات العقلية ذات الطابع العصبي؛ فإذا لم يكن غذاء فدواء خال من الآثار الجانبية على الأقل!


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى