
بقلم ولد حمدو.. حتى لا يكون الحوار من أجل الحوار
لست أدري كيف يكون علينا بين الفينة والأخرى، أن ننظم حوارًا، نضيع أشهرًا وأسابيع في تحضيره والتهيئة له، ومن ثم عقده، ثم نضيع وقتًا آخر، لا يقل أهمية في الحديث عن ترتيبات تنفيذ ما يتفق عليه خلاله، ثم نختلف من جديد حول ذلك، ونتنادى مرة أخرى لمائدة الحوار؟!!
هل قُدرنا أن نبقى ندور في هذه الحلقة المفرغة إلى الأبد؟
هل نحن في حالة استثنائية دائمة، لا نخرج منها أبدًا؟
وما فائدة الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني والتنظيمات المهنية والاجتماعية والنقابات وغيرها… وهي عادة – في ظل الدولة الحديثة – وسائط للتعبير عن الرأي العام؟
في تاريخ موريتانيا السياسي الحديث، كانت هناك حوارات أو مؤتمرات في مراحل مفصلية، أملتها الظروف والسياقات السياسية والاجتماعية في وقتها، فقد كان مؤتمر ألاك، وهو أقدمها، في صيف عام 1958 ضروريًا لصياغة ملامح وأسس الكيان الآخذ في الانبثاق من بوتقة سنوات طويلة من الاستعمار، وقبلها قرون من “السيبة” وغياب الوحدة السياسية.
لذا كان مؤتمر ألاك بمثابة جمعية تأسيسية، قبل إعلان الجمهورية بأشهر قليلة، فكان ضروريًا بل كان مفصليًا في تقديم إجابات محورية، يتفق بشأن خطوطها الكبرى أبناء المستعمرة، التي تتأهب للخروج من تحت عباءة الدولة الفرنسية، كيانًا سياسيًا جديدًا، يجمع شتاتًا من القبائل والعرقيات التي لم يجمعها في الماضي كيان واحد.
وفي أواسط السبعينات، كان الحوار الذي أطلقه نظام الرئيس المختار ولد داداه مع المعارضة الشبابية المعروفة بـ”الكادحين”، متفهمًا بل ضروريًا، وإن كان أقل أهمية وتأثيرًا، رغم أنه جاء في ظل احتقان داخلي قوي، ومواجهة مفتوحة منذ سنوات بين النظام والحركة الشبابية، أنهكت الطرفين والمجتمع والدولة.
ويُحسب لهذا الحوار، الأقل أهمية من سابقه، أنه سمح في النهاية بنوع من الانصهار بين رؤيتين متباينتين، إحداهما تقليدية، تمثل جيل الاستقلال، والأخرى حداثية نوعًا ما، أصحابها في أغلبهم جامعيون، ومطلعون – على الأرجح – على تجارب جديدة في تدبير الشأن العام.
وفي عام 2005، حين أُطيح بنظام الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع، كان الحوار الذي دعت إليه السلطة الجديدة حينذاك متفهمًا، بل كان ضروريًا لفتح صفحة جديدة، كان البلد في أمسّ الحاجة إليها، بعد الإطاحة بنظام تعطلت لديه خلال سنواته الأخيرة كل أساليب التعامل الهادئ مع المعارضين والخصوم، وبات يحسب كل صيحة عليه، ويعامل كل القوى الخارجة عن إطاره بريبة وقسوة.
لذا كانت المرحلة مفصلية فعلاً، وتطلّب وضع البلد من جديد في المسار الصحيح، في إطار مستوى معين من الإجماع، إشراك كل القوى الحية، حتى تلك غير المنضوية في أي إطار معترف به من قبل الدولة.
لكن بخلاف هذه الحوارات التي جاءت في مراحل مفصلية، لا أعتقد أن ما تمت الدعوة إليه، خاصة خلال الخمسة عشر سنة الماضية، كان ضروريًا، بل قد يكون في تلك الدعوات بعض الشطط، وإلا فإنه ربما تكون للمشهد خلفيات لا نراها بالكامل.
أليس البلد نظريًا في حالة طبيعية من الناحية الدستورية؟
ألا تُجرى الانتخابات في مواعيدها وآجالها القانونية، وبشكل منتظم، محلية وتشريعية ورئاسية؟
ألا توجد هيئات دستورية تعمل بشكل طبيعي؟
ألا يُتاح للأحزاب والنقابات والتنظيمات الاجتماعية والمهنية وهيئات المجتمع المدني، أن تمارس دورها العادي في ظل الجمهورية؟
فما الداعي – والحالة هذه – لحوار وطني؟!!
إن تكرار الدعوات للحوار، سواء من المعارضة أو الموالاة، يعني باختصار أننا نعيش حالة غير طبيعية تمامًا، وأننا لسنا في عافية جمهورية تامة، فكل هذا الكشكول من الهيئات التي تُشكل عادة آليات للتعبير عن الرأي العام، لم يُغننا يومًا عن الدعوة كل مرة للحوار.
فما أهمية أن يكون لنا برلمان، ولنا مجالس منتخبة، وأخرى متخصصة في مجالات متعددة، وخلايا للدراسات، وهيئات للتفكير والاقتراح والتصور والتوجيه والاستشارة في مختلف الوزارات ومؤسسات الدولة وإداراتها بمسميات مختلفة، وتحت عناوين متعددة؟!!
وما معنى أن تكون لنا أحزاب بالعشرات، ومعها مئات النقابات والتنظيمات المهنية والاجتماعية والجمعيات؟
ما معنى كل هذه الهيئات المرهقة للميزانية العامة، ومع ذلك لا تساعدنا في رسم الخطوط الكبرى للتوجهات الوطنية لكل مرحلة، مما يضطرنا دوريًا لندعو إلى الحوار الوطني؟!!
فإما أن كل هذه الهيئات لا تقوم بأي دور في التعبير عن ضرورات المرحلة، ولا تقترح أي رؤى لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل كما هو معهود في الجمهوريات العادية، وإما أننا لا نولي أي اهتمام لما تعبر عنه أي من هذه الهيئات بمفردها ولا هي مجتمعة؟!!
هذه أسئلة يتعين علينا أن نرد عليها، قبل أي حوار محتمل، وإلا فإننا ننشد الحوار من أجل الحوار، لا من أجل أن نخرج من دوامة الحوارات التي لا تنتهي…