ثقافة

من روائع الحكايات والأساطير الموريتانية (5) / د. محمد ولد أحظانا

فصل حكايات الأسود والإنسان:
الأمير والأسد المكلب

قيل لكم في ماقيل لكم:
إن أميرا نبيلا من إمارة مغفرية تسمى الترارزه، كان شجاعا وقويا، وسخيا، فأنفق كل مالديه من مال على محاويج إمارته، ولما أصبح صفر كف عزله بعض أبناء عمومته، و لكي لا ينتقم منهم رشوا لصا معروفا يسرق جرة الغزال فسرق لهم سلاحه وفرسه مقابل عشر نوق حلوبة.
تلبس اللص في ليلة ظلماء بحشائش الثمام وزحف إلى خيمة الأمير، حتى تمكن من أخذ السلاح وزحف مبتعدا إلى حيث الجواد فاختطفه. وقد جرد اامتآمرون الأمير من سلاحه وجواده خوفا من فتكه بهم.
في الصباح أقبل مجلس الوجهاء وهم مسلحون، وقالوا لأميرهم:
– مادمت لاتستطيع أن تحمي سلاحك وجوادك فنحن لانستطيع أن نكل إليك حماية إمارتنا، ولك الخيار في أحد أمرين:
أن ترحل عنا إلى حيث لانسمع بك؛ أو نقتلك.
فاختار الأول.

****
بالليل جاءه صانع متخف كان يجود عليه وقال له:
– ليس لدي ما أنفعك به غير هذه السكين وفيها عيب وهي أنها بلا مقبض؛ وفيها فائدة وهي أنها من حديد الهند البارد؛ وقد بريتها لك حتى أصبحت أحد من الزمن الذي يفل الأعمار.
فشكره الأمير المخلوع على وفائه، وقال:
– “الذي يقطع هو الزند لا الهند.”
ودس الحديدة في حزامه، وطوى خيمته على متاعها، وخرج على جملين هما كل مابقي بيده من مال؛أحدهما حمل عليه المتاع والزاد والثاني حمل عليه زوجته وبنته وابنه..
اتجه إلى تكانت لأنها أرض عافية وتسامح كما سمع، ولم يزل يرحل ويقيم نهاراته ولياليه حتى وصل إلى “تامورة النعاج” في أول نهاره، فرأى أشجار عضاه ظليلة، وحولها مرعى لجماله. فقرر أن ينزل، مع أنه سمع أن تلك الأرض غير آمنة لوجود أسود ضارية وجوارح أخرى فيها.
لكن شجاعة الأمير خامرته فحولت خوفه إلى حذر واستعداد.
أورى النار بيديه لسيدته من أجل طهي الغداء بعد أن قيد الجملين قريبا منه، ورفع إحدى ساقيه على ركبته وأسبل طرف عمامته على عينيه، وغفى غفوة الأرنب يسيرا، إحدى عينيه مغلقة والثانية مفتوحة؛ في انتظار نضج الطعام.

****
ماكادت تنقطع عنه أصوات الأطفال والطيور في أعلى الشجرة حتى أيقظته زوجته وهي تقول:
– قم، فجمالك في خطر.
– رفع العمامة عن عينيه فإذا بأسد عظيم الخلقة، كأنه أسدان، وهو يتجه نحو الجمال..
التقط الأمير حجرة وأخذ يقرعها بالسكين ويحول بين الأسد والجملين ليطرده.
لم يفتأ الأسد أن انطلق نحوه غاضبا فهرب عنه الأمير مبتعدا، فقز خلفه ثلاث قفزات وأدركه في الثالثة.
رسخ الأمير إحدى ركبتيه في الأرض وثنى الأخرى معتمدا على قدمه، فلما نزل الأسد من الهواء أشرع له الأمير السكين، فهوى عليها فطيرت غطاء رأسه ونصف دماغه.
تهالك الأسد وقد تبخرت روحه في لمح البصر، وتكوم أرضا.
أقبل عليه الأمير وحز رأسه وساعديه وحملها إلى الشجرة التي يقيل تحتها هو وأسرته المغتبطة بنجاته ونجاتها.

****
غسل الأمير دماء الأسد التي تطايرت عليه ولطخت سكينه التي لامقبض لها من ساقية في مجرى الوادي، وحث المرأة على تعجيل الغداء حتى لا يكون للأسد لبؤة تهاجمهم.
بعد حين أقبل رجل مشعر ضخم الجسم، مفتول العضلات، كأنه قد من الصخر المترامي على أطراف مسيلة وادي التامورة، وسلم بصوت جبلي أجش فظيع النبرة كأنه ينحته من صدره العريض ذي التقاسيم الشيطانية.
– السلام عليكم.
فرد الأمير بصوت عال كأنه ينهره:
– وعليكم السلام.
– الخير والسلامة. أنا رجل من أهل هذه الأرض، أبحث عن بقرات ضاعت من حينا، ولما رأيت أمة من المسلمين عرجت عليها لأسألها: هل رأتهم في طريقها؟
– لا، لم نرها. أنت من أهل الأرض؟ لو لم تقلها لنا لقلنا إنك من أهل السماء أو الخلاء
كان الرجل العملاق ذو الوجه الكريه، يقطع خطوة نحو الأسرة المتجمعة كلما نطق كلمة ثم سأل ملتفتا إلى القدر:
– هل لديكم طعام؟ كلامكم المتخابث يدل على أنكم لستم من هذه الرحبة. لعلم من أقصى الجنوب الغربي وتضاحك تضاحكا متكلفا.
– نعم لدينا، ولكن لاتقترب. آو إلى تلك الشجرة وستجد ما قسم لك الله منه.
– كان الطفلان يعوذان بأمهما ويبكيان فزعا من ملامح الرجل، وأمهما تهدئهما:
– لم تخافا من الأسد هذا الخوف، فكيف تخافان من رجل؟
قال لها طفلها الصغير وهو يشير إليه بسبابته البريئة:
– أمي هذا “جوجوه” وليس رجلا.
فتضاحك الرجل كأنه يحشرج ثانية:
– معذور، فأنا لم أحلق شعري منذ وقت.
كانت نبرته أفظع من مرآه فزاد فزع الأطفال وبكاؤهم. حتى طلب الأمير من الرجل أن يسكت عنهم حتى لا يفطر قلوبهم.. ولم يصرف نظره عنه لحظة واحدة.
لكن الرجل لم يسكت وإن اجتهد في تلطيف و تقطير كلامه العكر:
– من قتل هذا الأسد الجبار.؟
– ومن سيقتله؟ أنت الذي لم تكن هنا، أم المرأة والأطفال؟
– لاشك أنك بطل. أضحكتني. قطعا أنت من أرض القبله.
أخذ الأمير إناء به طعام وحمله إلى الرجل.
– لن آكل من طعامك حتى تريني بم قتلت الأسد.
– قتلته بهذه الحُديدة.
– أراها عن قرب.
مد الأمير السكين إلى الرجل الحرك، فأمسكها وطار كأنه لايزن شعرة، ووضع السكين على عنق الأمير.
وزمجر:
– ألا تعلم أنك يتمتنا، فقتلت أسدنا المكلب الذي نقطع به الطريق؟
قال الأمير بهدوء:
– هل تتفضل علي بتلبية طلب وحيد قبل أن تقتلني، إن كنت رجلا نبيلا؟
– ومن غيري نبيل؟ ماهو طلبك؟
– أن تقطع عني هذه اليد التي سلمتك بها سلاحي، فلا أريد غن تذهب معي إلى ربي..
– طلب مقبول و و جيه. أسند يدك على جذع هذه الشجرة لأطيرها لك.
وضع الأمير يمناه على الجذع فهوى عليها العملاق بالسكين.
وفي أقل مما يلتفت فيه قط متعجل، أمسك الأمير رسغ الرجل العملاق بقبضته وهز ذراعه حتى سقطت منه السكين، ولوى ذراعه خلف ظهره وصرعه على وجهه بقوة هائلة حتى فقد وعيه، ولوى ذراعه الثانية وطلب من المرأة أن تعطيه مشد رحله، فأحكم وثاق الرجل وربطه في جذع الشجرة.
وبدأ الأمير وأسرته يتغدون على مهل وهم يتحدثون مغتبطين اغتباط الأمن بعد الخوف.
أفاق العملاق وهو لايزال يترنح من قوة الصرعة، فدنى منه الأمير وصفعه صفعة أفقدته وعيه ثانية.
لما استعاد وعيه قال له الأمير:
– إذا اعترفت لي بكل شيء من جرائمكم فربما أفكر في تحريرك. ولا تنس: ربما.
– نحن تسعة رهط. وأنا قائدهم، وقد حصلت على شبل فربيته وكلبته، ولما بلغ أشده جمعت له رجالا أرضى عن قساوة قلوبهم، وأقمنا هناك في تلك الكدية الصغيرة التي ترى، وبها كهفان اتخذنا أحدهما مأوى نختبئ فيه ونأكل، والثاني مخزنا لمنهوباتنا؛ وكنا ننتظر حتى تمر القوافل فنطلق عليها الأسد فيقتل منها من لم ينج بنفسه، ويأكل من رجالها ودوابها ما طاب له..
ونأخذ نحن المقتنيات ونخزنها في الكهف الكبير بذهبها وفضتها وزروعها وقماشها وريش نعامها، وكل ما يخطر على البال وما لا يخطر عليه من أطايب الدنيا.
– وأين أفراد عصابتك؟
– هم نائمون الآن وأنا من يداوم. ولأن بعضهم لايثق في بعض فهم لاينامون في مكان واحد، وأنا الوحيد الذي يثقون فيه. ذلك هو سر القيادة.
– جيد. قف بي على كل واحد منهم حيث هو. هيا، تقدم أيها الوغد العملاق.
ولاتنس “ربما”.

****
أمسك الأمير بالحبل القوي وسار خلف اللص، وهو يأمره أن لا ينظر خلفه وإلا قطع رأسه كما قطع رأس أسده.

****
صار اللص كلما وقف على لص نائم هوى الأمير على عنقه بالسكين فطير رأسه، حتى إذا قضى على الثمانية أمر زعيمهم أن يريه خزينهم فلما أراه إياه، قال اللص للأمير:
– والآن هل ستحررني؟
– ألم أقل لك: لاتنس “ربما”؟ أحررك لتشكل من جديد عصابة أشرار وحرابة تقطع الطريق، وتفسد في الأرض، بتكليب السباع؟!!
وطير رأسه بالسكين وترك الدم يشخب من شرايينه كأنه شلال أحمر، وفك مشد رحله من ساعدية. وعاد إلى أسرته. وغسل دماء اللصوص عن سكينه بالظاء والتراب، وهو يقول لزوجته: دماء هؤلاء أقذر من دماء الأسد الأعجم.

****
جلب الأمير خيمته وعياله على جمليه إلى حيث كمين اللصوص الصرعى، وبنى الخيمة على جانب الطريق. تسامع الناس بمقتل أسد القوافل الضاري فصاروا يمرون عبر طريقهم المألوفة.
طلب الأمير من كل المارين أن يصفوا له مافقدوه خلال السنوات الماضية، فإن وصفوه له قسمه مناصفة بينه وبينهم.
اشترى الأمير من الإبل والبقر والغنم والخيل مالا يرد أوله لكثرته، واشترى غالي المتاع و أحمالا من السلاح؛ حتى إذا حال عليه الحول رحل عائدا إلى أهله، وقد سبقته أخباره لما دخل أرض الإمارة، فأقبل عليه أكابر إمارته وعامتها، وأسلموا إليه أمرهم.
ولما جاءته الجماعة التي عزلته ظعتذر مبايعة، قال لهم:
– لاتثريب عليكم فأنتم السبب في كل هذا الخير.
دعا الأمير الصانع الوفي وأخرج الحديدة من غمد وسأله:
أعرفت هذه؟ لم تفارقني ونفعتني كثيرا.
ضحكا ووهب الأمير إبلا وغنما وبقرا وذهبا وفضة.. للصانع. وتعهد له ألا يفتقر وهو حي.

***
وأفردت أنا نعلي، وعدت سالما إلى أهلي أحدث بحكاية الأمير والأسد المكلب، دائرا عن دائر.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى