آراء وتحليلات

قصاصة في نقد الحركات الإسلامية / عبد الله ولد بيان

نبهت تدوينة مقتضبة للسيد الرئيس محمد جميل منصور يوم أمس لما تشهده الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية من تراجع وركود في الأداء السياسي. وأبرزت بعض الأسباب الفكرية والعملية لذلك. وهي ملاحظة في غاية الدقة والأهمية. فلا شك أن “العقل الفكري”، بشكل خاص، لهذه التيارات يعيش خمولاً يصل حد الأزمة. فالإنتاج التنظيري الإسلامي في تراجع أو غياب في العديد من البلدان التي تشكل ميدان عمل نشط لهذه الحركات. في الوقت الذي يتطلب فيه العمل السياسي ديناميكية شديدة، كما هو معلوم. وتعد ممارسته الميدانية من دون “إيديولوجيا تغييرية” ناظمة سببا لتزايد الخلافات القيادية، وارتباك القرار السياسي، وضعف الكاريزما الحزبية.

لقد أدى تحول اقتصاد السوق في خمسينيات القرن الماضي من اقتصاد يحركه العرض إلى آخر يحركه الطلب لفرض التخطيط الإستراتيجي كأداة لا غنى عنها لديمومة وريادة المؤسسات الربحية. وقد أبدعت فيه، في مجال تكنلوجيا المعلومات، ما يعرف الآن بالشركات ذات التفكير الاستشرافي Forward-thinking companies. وقياسا على ذلك، دخل التخطيط الاستيراتيجي السياسة بقوة، وبات استخدامه حتميا منذ التسعينيات عندما تراجع دور “العَرض” الفكري وبرز دور “الطلب” المجتمعي كبديل عنه محرك للعمل السياسي. وهذا يعني أن غياب المواكبة الفكرية للواقع السياسي لدى الإسلاميين ليس له أثر فاعل في التراجع الراهن في أدائهم السياسي فحسب، وإنما يتجلى خطره الأبرز في بعده الإستيراتيجي المستقبلي.

إلا أن، هذا الركود والتراجع في الألق والأداء (الذي لا يزال ينتظر اعتراف الإسلاميين به) له أسباب أخرى عديدة لا تقل أهمية عن بعده الفكري. فما عبر عنه السيد الرئيس بالقول: “لا يصح أن نظل عالة على كتابات فكرية تنتمي لوقتها” ينطبق أيضا على الجانب التنظيمي. فالهياكل الحزبية والحركية لهذه التيارات، وخاصة في المشرق العربي، مستمدة من أدبيات تنظيمية سابقة لكيانات الدولة الحديثة في تلك المنطقة. وهي سابقة -وهذا هو الأهم- على الكثير من المفاهيم التنظيمية الحزبية المعاصرة.

ومن أبرز التأثيرات السلبية لهذه المسألة ما أصبح يعرف الآن لدى الدارسين باسم “أزمة القيادات”، أو صراع الأجنحة والتوجهات القيادية لدى الإسلاميين. وهي أزمة أخرى تعاني منها العديد من هذه الأحزاب والتنظيمات. وقد ساهم في تجذيرها أحيانا ما عاناه القوم في ظل أنظمة الظلم والاستبداد، وما أورثتهم التجربة مع الأحادية من ميل شديد تجاه نموذج “القيادة الجماعية”. وهو نموذج آمن ولكنه غير ناجح في المجالات السياسية والاقتصادية التي تحتاج القيادة لا الإدارة. وهو فوق ذلك عامل أساسي في خلق النزاعات القيادية البينية. وهذا ما لم تتم دراسته والتخطيط له بشكل كاف على ما يبدو. بل إن دور الإسلاميين في ترسيخ هذا النوع من أنماط الحكم (في نظام الدولة لا في الحزب)، في تونس مثلا، كان سببا مباشرًا لإعاقة ووأد تجربتهم في تصدر الشأن العام.

وكتعليق موجز حول هذه النقطة، يحتاج منظرو الديموقراطية داخل الحركات الإسلامية إلى دراسة أعمق للدول الغربية وتراثها الفكري والقيمي الذي استندت إليه في بناء نماذج الحكم الديموقراطي وتقنين الحياة العامة.. هل تستطيع مثلا دولة هشة كتونس أو موريتانيا تحمُّل حالة اللا حسم القيادي التي تنتج عن الأنظمة البرلمانية؟ هل تتحمل شعوبها وميزانياتها ثلاث انتخابات عامة في أربع سنوات، كما حدث في ابريطانيا 2015 و2017 و2019؟ أو لمرتين متتاليتين في نفس العام، كما حدث فيها 1974؟ الأمر يحتاج وقفة ودراسة!

ولكي لا نذهب بعيدا، يمكن القول إن الإسلاميين بحاجة لتقييم هياكلهم التنظيمية، وخاصة في قمرة القيادة، بشكل يحرص على التماسك الداخلي والممارسة الديموقراطية، ولكن يستبطن أيضا أهمية شرعية الكسب والحسم والإنجاز. وهي أركان ضرورية لأية قيادة سياسية ناجحة. وعدم البت فيها بشكل مفصل وواضح له تجليات سلبية عديدة؛ إن سلم أصحابه من الصراع والخلاف فإنهم لا يسلمون غالبا من الشلل أو ضعف الفعالية.

طبعا، هذا لا يعني، كما تفضل السيد الرئيس، إهمال دور مخططات الخصوم والأعداء في الداخل والخارج، وما يقومون به أجل إضعاف نقاط القوة واستغلال نقاط الضعف لدى الإسلاميين. ولكن من المفترض أن هذا الأمر داخل في تخطيط هذه الحركات للتأثير والنجاح، وليس وسيلة لها لكبح التقويم والإصلاح.

وفي الأخير، ومهما تزايد الحديث عن ما بعد الحزبيّة، فإنه لا بديل في الممارسات الديموقراطية عن الأحزاب إلا بالأحزاب. و عندما ترى النخبوي يمتدح الاستقلالية وعدم الانتظام الحزبي فإنه إما غير جاد في سعيه للتغيير السياسي، أو أنه يحاول التغطية على فشله في تدبير الاختلاف مع بضعة أشخاص يتقاطع معهم في نفس الأهداف.

ورغم الركود والتراجع الذي يشهده أداء الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وتزايد الاستقلالية الفكرية والمادّية للشباب، وتضخّم الأنا السياسية عند إنسان العصر بفعل دور وسائل الإعلام الحديث، فإن المستقبل السياسي لهذه التيارات لا يزال واعداً لو استطاعت إحداث ديناميكية جديدة تُراجع المسار، وتقوم الاختلال، وتستجيب لمتطلبات الواقع الاجتماعي والسياسي الراهن؛ في الفكر والتنظيم والقيادة والتخطيط.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى