آراء وتحليلات

ايضاحات لفتوى العلامة بداه حول “زكاة الفطر” / محمد الامين آقه

مازال الناس يتداولون فتوى للامام بداه رحمة الله عليه؛ ويستدلون بها على اطلاق مشروعية دفع زكاة الفطر نقدا !!
وقد احببت ابداء بعض الإيضاحات لهذه الفتوى؛ حتى لا يخرج بها القاريء عن سياقها الصحيح:
نص الفتوى:
————–
( الحمد لله : أما بعد فإن الجمهور يفضل دفع ذات الزكاة دون قيمتها، لكن حقق محققون أئمة مالكية وشافعية وغيرهم أن المدار على مصلحة الفقير المصرف فإن كانت القيمة أصلح للفقير ولا سيما فى زمننا هذا جعلوا دفع القيمة هو الافضل وقال مجزئٌ ويكفى من اللطائف التى تقال فى هذا أن البخاري والامام أبا حنيفة متنافيان أشد التنافي نظرا إلى أن البخاري محدث والامام أبا حنيفة فقيه كثير الميلان إلى الفروع فلما قال أبو حنيفة بدفع القيمة وافقه البخاري فقال القسطلاني إن البخاري ألجأه الدليل على جواز دفع القيمة فوافق الامام أباحنيفة.
كتبه بداه ابن البوصيري
1418 ه — 1997 م.).
وأود عرض هذه الإيضاحات من خلال الوقفات التالية :
الوقفة الاولى :
—————–
ان دفع الزكاة الفطر من الطعام هو الاصل، ودفها قيمة لا يجوز الا للضرورة او المصلحة الراجحة .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله انها تخرج من الطعام لا من النقود.
ومما صح عنه في ذلك :
١- قول ابن عمر رضي الله عنهما : “فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير..” (رواه البخاري ومسلم).
٢- حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال: “كُنا نُخْرِج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام”. رواه البخاري.
فهذه الاخبار صريحة في فرْض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفِطر من الطّعام، وأمره بذلك.
وهذا هو الاصل الذي يجب أن ترد اليه جميع الاقوال الواردة في المسالة .
قال تعالى : {فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا}.
والحديث اذا كان صحيحا ثابتا وصريحا لا يحتمل التاويل، لم تجز معارضته براي او اجتهاد من صحابي او تابعي .
ولذا لما قال ابن عباس رضي الله عنهما : تمتع النبي صلى الله عليه وسلم -أي في الحج- فقال عروة بن الزبير: نـهى أبو بكر وعمر عن المتعة، قال ابن عباس:أراهم سيهلكون!! أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نـهى أبو بكر وعمر. رواه الإمام أحمد.
و سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج، فأمَر بها، فقيل له: إن أباك نَهَى عنها! فقال: إن أبي لم يُرِد ما تقولون، فلما أكثروا عليه، قال: أفَرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تَتَّبِعُوا أم عُمر؟!رواه أحمد.
ولهذا كتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: إنه لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وسُئل الإمام أحمد عن إعطاء الدراهم في صدقة الفطر، فقال: أخاف أن لا يجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؟! قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قال فلان!.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير،..{وأطِيعوا الله وأطيعوا الرسُولَ}).(المغني 4/295).
ولهذا ينبغي للمسلم الحريص على اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم ان يتابعه في كيفية اداء زكاة الفطر ويخرجها من الطعام لا من النقود :
تمسك بحبل الله واتبع الهدى**
ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ودِنْ بكتاب الله والسنن التى **
اتت عن رسول الله تنج وتربح.
واما ما ورد عن بعض السلف والتابعين من اخراجها قيمة ؛ فإنهم لا يظن بهم مخالفة امر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن فعلهم ذلك محمول على الضرورة والحاجة .
ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدي بالبصرة: «يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم عن كل إنسان نصف درهم».
فهذا دال على ان عمر ابن عبد العزيز راى انه من العسير على عماله ان ياخذوا الصدقة من أهل الديوان كل على حدة ؛ فامرهم ان ينقصوا قيمتها من الاعطيات .
وهذا لا يعارض ان الاصل في زكاة الفطر ان تخرج طعاما؛ لان الضرورة لا تقضي على الاصل.
****
الوقفة الثانية :
——————-
الامام بداه رحمة الله عليه معروف بالتباع السنة وتقديمها على الآراء ؛ ولا نعلم عنه انه كان يدعو الى اخراج زكاة الفطر من النقد وقد كنا نصلي معه صلاة عيد الفطر فيجعل الخطبة مناسبة لبيان ما يخرج من الطعام في زكاة الفطر وكيفية إخراجه.
ولو كان رحمه الله يقول بجواز اخراج زكاة الفطر من النقد دون قيد او شرط لاشتهر ذلك عنه ونقله تلامذته الذين مازالوا بين اظهرنا.
لماذا -اذن- يفتي الامام بداه بقول مخالف لظاهر الحديث ؛ ومخالف للمذهب المعمول به في البلد ؟
الظاهر في هذه الفتوى المنسوبة اليه انها جاءت في إطار ضرورة خاصة لاحد المستفتين .
ومن المعلوم ان المفتي يجوز له الافتاء بالقول الضعيف عند الضرورة اذا كان الضرر محققا ، والقول لم يشتد ضعفه؛ وأسْنَدَ القول الى عالم معتبر .
وهذه الشروط ذكرها ابن ميابه في نظم نوازل الشيخ سيدي عبدو الله فقال :
وشرط فتوى المرء بالضعيف *** سلامة من شدة التضعيف
وعزوه بعد تحقق الضرر***
لعالم ما في اقتفائه ضرر .
ولا شك ان المرأ قد يكون في بعض البلدان او المدن التي يتعذر فيها اخراج الطعام لعدم وجود الفقراء ؛ او لندرة في الطعام فيكون ارسال المال الى الفقراء هو المستطاع؛ ففي هذه الحالة يُفتى بجواز دفع الزكاة نقدا من باب الضرورة.
واظن ان فتوى الامام بداه جاءت في هذا السياق ؛ ولم تأت في سياق الافتاء بدفع زكاة الفطر نقدا مع القدرة على اخراجها من الطعام.
وهذا القول الذي ذكره العلامة بداه في الفتوى ذكره ايضا العلامة محمد مولود في “الكفاف” مع التنبيه على ضعفه فقال:
وقيمة الزكاة عنها تكفي***
لدى الإمام الحنفي والجُعْفي**
وهو الذي به يقول أشهبُ***
ومثله للعتقيّ ينسبُ***
ولكن الأصح عنه المعتبرْ***
عدمُ الاجزا وعليه المختصرْ.
وقوله : الجعفي يقصد البخاري.
وقوله : العتقي يقصد ابن القاسم.
*****
الوقفة الثالثة :
—————–
قول ابن رشيد بان البخاري رحمه الله لم يوافق اباحنيفة الا لِمَا ظهر له من الدليل ؛ يدعونا الى العودة الى الدليل الذي استدل به البخاري :
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه :
( باب العرض في الزكاة :
وقال طاوس : قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : «ائْتُونِي بعرض ثياب خَمِيصٍ – أَوْ لَبِيسٍ – فِي الصدقة مكان الشعير والذرة، أَهْوَنُ عليكم وخير لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة» انتهى.
ويمكن ان نلاحظ ما يلي :
اولا : هذا الاثر -كما تر – رواه البخاري رحمه الله تعليقا بغير اسناد عن طاوس عن معاذ رضي الله عنه.
ثم ان طاوس رحمه الله لم يدرك معاذا !!
فالأثر معلق ومنقطع.
ثنيا : مقتضى ترجمة البخاري رحمه الله ان معاذا أخذ منهم الزكاة من اجل نقلها الى المدينة.
وهذا يعارض حديث ابن عباس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ لما بعثه الى اليمن :
(فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)رواه البخاري.
ظاهر الحديث يدل على انه أراد فقراء اهل البلدة لان الضمير يعود الى اقرب مذكور.
قال الحافظ في “الفتح” : (قال الإسماعيلي : ظاهر حديث الباب أن الصدقة ترد على فقراء من أخذت من أغنيائهم…).
ثم قال الحافظ : (والذي يتبادر إلى الذهن من هذا الحديث عدم النقل ، وأن الضمير يعود على المخاطبين فيختص بذلك فقراؤهم )انتهى.
ففي هذا دليل على ان المال الذي اراد معاذ نقله الى المدينة ليس مال الصدقة بل قد يكون مال الجزية ؛ وان طاوس وهم فظنه من الصدقة .
ويدل عليه ان معاذا أضافه إلى المهاجرين والأنصار و الذي يستحق بالهجرة والنصرة هو الجزية وأما الزكاة فتستحق بالفقر والمسكنة.
قال البيهقي: وهذا الأليق بمعاذ، رضي الله تعالى عنه، والأشبه بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ الجنس في الصدقات وأخذ الدينار، وعدله معافر ثياب اليمن في الجزية
.انتهى
قلت :
وما دامت رواية طاوس عن معاذ غير متصلة فلا غرابة ان يدخلها الوهم والخطأ.
وانما لم يلحظ البخاري وهم طاوس لانه يوافق مذهبه في جواز نقل الزكاة عن اهل البلد.
فقد قال في ترجمة حديث ابن عباس :
(باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا).
قال الحافظ في الفتح :
(وقال ابن المنير : اختار البخاري جواز نقل الزكاة من بلد المال لعموم قوله : ” فترد في فقرائهم ” ، لأن الضمير يعود على المسلمين ، فأي فقير منهم ردت فيه الصدقة في أي جهة كان فقد وافق عموم الحديث) انتهى .
ثالثا : حتى على فرض ان اثر طاوس ورد في الزكاة لا في الجزية ؛ فهو غير وارد في زكاة الفطر على الخصوص ولا يعتبر مخصصا للاحاديث الواردة في اخراجها من الطعام.
رابعا : ان عدم اخذ القيمة هو مذهب معاذ. لما روى أبو داود و ابن ماجة باسنادهما عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الى اليمن فقال: (خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الابل والبقرة من البقر).
خامسا: ما أخذه معاذ ان سلمنا بانه صدقة فهو محمول على الضرورة بان اهل المدينة كانوا في حاجة الى الملابس ؛ وقد صرح معاذ بذلك.
وبهذا نجمع بينه وبين ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كيفية دفع زكاة الفطر.
اذن : فاثر طاوس الذي استدل به البخاري على دفع الزكاة قيمة رواه معلقا ومقطوعا؛ وفي متنه علةومخالف لمذهب معاذ ثم انه يمكن حمله على حالة الضرورة دون حالة الاختيار.
****
والخلاصة مما تقدم ان دفع زكاة الفطر من الطعام هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز العدول عنه في حالة الاختيار.
ولا يجوز دفع زكاة الفطر نقدا الا في حالة التعذر والاضطرار.
وهذه الفتوى التي صدرت من الامام بداه محمولة على حالة الضرورة .
والله اعلم.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى