رحلتي عبر شركة “سونيف” / إسلمو أحمد سالم
(1)مع اشتداد الحر ، و مع تقدم أيام الصوم ، و مع توقف عمل مكيف “اليابانية” ، عرفت أن رحلات القيلولة مرهقة للصائم ، و رحلات العودة مع طلوع الفجر غير آمنة ، لأن السهاد يحاصرني و أنا أقود ..
قررت أن أجرب رحلة مع شركة “سونيف” في أحد باصاتها المكيفة ، و صورة الباصات الضخمة مرتبطة في ذهني بباصات “الشركة الموريتانية للنقل” ، و باصات النقل الحضري ، و الدلالة القدحية لعبارة “ابصاجة البيس” ، التي هي أقرب لكلمة “الدهماء” أو “العامة” ، إضافة إلى مجموعة النكات و القصص المرابطة بالباصات و ركابها ، عن التزاحم و السرقات و ربما أمور أخرى مزعجة كا”الميل” و السلوك البدوي الذي اصطحبه الكثير من المسافرين معهم حيث ما حلوا..
نقطة الانطلاق من “مقطع لحجار” هي مكان ينبئ بالفأل الحسن ، لأنه يكتنز الكثير من تاريخ المقاطعة ، و يروي صورة مشرقة لمحطة للمسافرين ، تركت الأثر الطيب لدى العابرين و المقيمين ، بمجموعة القيم و الأخلاق و مستوي الخدمة الذي يتحلى به المشرفون عليها ، إنه المعلم المقطعي “رستورانه أهل أزام” ، و هي تسمية ذاع صيتها في كل الربوع ، و حافظت على مكانتها على مدى الأيام ، و الجديد أن الجيل الجديد ، مع محافظته على ثقافة المكان ، قد زاد على الموروث بثقافته عصره و سلوك المدنية الحميد ..
اقتطعت تذكرة ذهاب إلى “عاصمة الشرق” ، و لأن الانتظار يتطلب ساعة ، فقد وجدت المكان الأنسب هو مراجعة بعض الحسابات في “BMCI ” لأنها ، و إن مع تبرد ، فرصة للتأكد من سلامة سير الحساب .
أثار المتواجدون في البنك قضية الربا ، و قد أكدت مهاتفة لأحد الفقهاء أن عمال البنك كلهم مشاركون ، من البواب حتى المدير ، في عمليات الربا التي يقام بها في المؤسسة ، مما أثار فزعا عند بعض العاملين ، و صرح بعضهم أنه يفكر في الاستقالة ، فيما فسر بعض المتدخلين أن الفتوى تدخل في مجال “أكحال ازوايه” و رغبتهم بالإضرار بالناس..
عدت إلى المحطة لأحضر لصلاة الظهر ، فساعة الباص قد أزفت ، و الرحلة المنتظرة الغامضة ستنطلق في حدود الثالثة إلا ربعا .
(2) فجأة ملأ صوت المحركات المكان بالضجيج ، و توقف باصان بطريقة احترافية ، و خرج الركاب إلى العنابر الفسيحة ، و دأبت الحركة بين العمال و المسافرين ، و بدأت رائحة المشوي و حركة كاسات الشاي تزاحم الصيام ، و لم يمض وقت قصير إلا و الكل يلملم أشاءه للعودة لمقعده ، و كأن كل الخدمات تم الاحتياط لها لتمر بسرعة ، حتى لا تؤثر في برامج الرحلات ..
صاحبني مسؤول المحطة إلى الباص ، و صعد أمامي ، و قد بهرتني أناقة “جوف” الباص ، و صفوف المقاعد و الرفوف و الستائر ، و مصابيح الإنارة و الإشارة ، و رحابة المكان ، و إن لاحظت أن المقاعد ربما تم التصرف في أحجامها و المساحات التي تشغلها ..
انتبذت مكانا اخترته لمعايير دقيقة ، و هو أن تزاور عنه الشمس ذات اليمين أو ذات الشمال ، و أن يكون الجليس شابا ، و أن يكون المقعد قريبا من باب الخروج ، و الأهم أن تكون مسام المكيف تعمل بطريقة طبيعية .
اعترف أن الصورة التي كانت معي انقلبت رأسا على عقب ، و أن الشعور بالفخامة و الاطمئنان قد سيطرا علي ، و أن نسمات المكيف كانت باردة جدا ، و قد كنت بحاجة إليها بعد لهيب الحر الذي كان يلفح وجوهنا و نحن في قاعة الانتظار ..
كان الباص مزدحما بشتى أنواع المسافرين ، موريتانيين و أجانب ، و قد انقسم الناس إلى كانتونات حسب الأجيال ، ففي حين اختار جيل الستينات و السبعينات مقدمته، و دخلوا في حواراتهم اللامتناهية ، اختار الأجانب و الشباب منطقة الوسط و المؤخرة ، و توفرت فيهما درجة معينة من الهدوء ، لولا كثرة اتصالات النساء ، و حديثهن المتواصل على الهاتف ، و الذي لا يخلوا من “لازم الفائدة” ، فالهواتف و خاصة هواتف النساء هي أكثر الأشياء تكلفة بالنسبة للأسر ، و هن لا يدخلنها تحت طائلة الترشيد ..
كنت قد لبست للرحلة لبوسا مواتيا ، و هو “دمي سيزونه” مغربية، مع قناع تام بلثام و نظارات ، و قررت الصمت التام ، كعادتي في الأسفار ، إلا لتصحيح معلومة أو الإجابة عن سؤال ، و هي عكس الطبيعة العفوية السائدة عندنا “أبناء الولايات الشرقية” ، إذ سرعان يفرغ أحدنا جعبته بكل المعلومات التي تتعلق به ، و يدخل في هيستيريا لا متناهية عن أخباره و تجاربه ، و لأن كل متحدث يبرز ذاتا ، يتحول الحوار إلى جدل لا طائل من ورائه ، و لا يسمع أي متحدث حديث صاحبه ، و هو ما وقع في مقدم الباص ، و إن انحرف الأمر إلى السياسة فحدث و لا حرج عن مظاهر تناقضاتنا ، و البون الشاسع عندنا بين ما نقول و ما نفعل ، و ما ننظر له و ما نقوم به من تطبيق لتنظيرنا ، إنا غرابة الرجل “الأدخن” المبهر بلسانه ، المتناقض في طريقة عيشه و عمله ..
(3) يجلس بجانبي شاب هادئ ، و خلفي أجنبيان ، و أمامي سيدتان ، إحداهما ببدوا أنها من الرعيل الأول من نساء البلد ، فقد بدت عليها علامات السيادة ، و تدفق حديثها مفعما بالأمل و الفأل الحسن ، و ذكرتني بنساء بدأ المجتمع يفتقد لأمثالهن ، ورعات عابدات ، و ينطلق من بين ثناياهن حديث كله أمل و طيبة و سلام .
و على الجانب الأيمن سيدتان صغيرتان في السن ، لكن معهما أطفال ، و يعكس حديث الأطفال نباهة و قدرة على التعبير و إتقانا للإجابة تحدث عن جيلنا القادم ، و الذي يبدو أن أهم محدداته هو الثرثرة ، عكس جيل الشباب ما بين الأربعين و العشرين الحالي الذي يميل للتكتم و الصمت.
و على ذكر الثرثرة ، بات هذا الفضاء مزدحما بتفاهات مخيفة ، و “لايفات” سخيفة تسيء لصورة البلد ، تماما كما أصبح الانتاح التلفزيوني تافها و ضحلا ، فأغلبية البرامج و المسلسلات و “اسكتشات” سطحية و تسوق ثقافة السخافة ..
السهول المنطلقة من مقطع لحجار حتى “الغايرة” مستوية و تسهل فيها الحركة، مما أربحنا وقتا ، بينما يشكل “جوك” عائقا نفسيا ، فعندما مررت منه ، تصورت كيف ستكون دحرجة هذا المخلوق من الأعلى إلى الأسفل و أنها ستكون كارثة ، فحبست أنفاسي حتى استوت على ظهر “لعصابة” ، لتبدأ رحلة ذكرتي بوصف الشاعر العراقي معروف الرصافي للقطار ، حين يقول:
يمر بها العالي فتعلو تسلقا
و تعترض الوادي فتجتازه وثبا
فطورا كعصف الريح تجري سريعة ..
و طورا رخاء كالنسيم إذا هبا
تساوى لديها -ما شاء الله – السهل و الصعب في السرى
فما استسهلت سهلا و لا استصعبت صعبا..
تحاكي الطريق الرابطة حركة الأفاعى بين الأحراش و الشقوق، و هي منطقة مخيفة ، خاصة بالنسبة لهذا القوام الذي لا يملك فقرات ، و إنما يتدحرج متماسكا دون تخامد أو مرونة ..
و مع الانحراف نحو كامور ينسكب الجسم نحو هاوية سحيقة تنتهي بانحاف شديد يندفع داخل الشارع التي ضاق بحنو الدكاكين عليه ، و كأنها تتسابق للمارة ..
جسر “كامور” جميل و يقع في موقع ساحر ، إذ يخترق البطحاء ذات الرمل الأبيض الناصع ، و تطرزها الأشجار و النخيل ، لكن البلدية لظ تفطن لهذا الجميل ، فتركت الجسر مكبا للقمامة ، و مكانا لجيف الحيوانات النافقة نتيجة الصيف الذي يجتاح البلد، و الذي بدأت آثاره تطفو على الأوجه و المائدة و شتى مناحي الحياة ..
رغم مخاوف الطريق فإنني لمست من السائق أناة و خبرة ، فهو على ما يبدو يعرف الطريق ، و يتعامل معها بسهولة وبالسرعة المناسبة ، فلا يسرع في المنعرجات و لا في المطبات ..
(4) لاحظت التزاما منقطع النظير من السائق عند نقاط التفتيش و عند محطات القطار ، كما لاحظت أن القطار يحمل عدد الركاب بعدد المقاعد ، و أن التنظيم و نظافة المكان و أناقته كانت سيد الموقف ، و قد ذكرتني الرحلة برحلة في طائرة “ابوينغ” كانت تملكها موريتانيا ، نقلتنا مرات في عهد ولد الطائع من العاصمة إلى انواذيبو .
مدخل “كرو” لا يعبر عن عراقة المدينة ، لكثرة القمامة ، و شوارعها تحتاج للنظافة و إعادة التخطيط ، و سوقها ضيق رغم ضخامتها .
و في اعتقادي القرى المترامية من “كرو” حتى “كندرة” هي مجرد حمل ثقيل على التنمية ، فلو تم تجميعها لهان الأمر ، و لقلت الحاجة في عدد المدارس و المدرسين و النقاط الصحية ، و تمكن المواطنون من الولوج للخدمات عن قرب .
بعد ساعتين و نصف من السير المخلل بالتوقفات وصلنا إلى “كيفة” ، و هي مدينة ضخمة مترامية الأطراف ، لكنها لا زالت تحتفظ بطابع بدوي ، كالأبقار و الإبل و الأغنام ، و أنماط الحياة التقليدية ، و قيم و أخلاق الموريتاني الأصيل ..
تجربتي مع الشركة كانت ناجحة، و قد حطمت جميع التصوات السلبية ، و أخشى ألا أكون قد سافرت بالصدفة في باص جديد ، فقد تعودنا من رجال أعمالنا أن يبدأوا مشاريع جميلة و ذات مردودية على الجميع ، لكن عدم الصبانة و عدم التفكير تحول المشروع إلى يد قابضة ، فتبدأ المنشآت بالترهل و يتحول المشروع إلى أداة استنزافىغير آمنة ..
نصيحتي للمقيمين على المشروع أن يحافظوا على ألقه ، و ينتهجوا أسلوب الصيانة و النطوير و تحسين الخدمات ، لأن ذلك سيقفز بالمشروع و يزيده انتشارا …