أنقذوا كلمة “كافّة” قبل فوات الأوان!
أ.د. ياسر الملاح
تتعرضُ اللغة العربية، في هذه الأيامِ التي نحْياها، لطامّةٍ كُبْرى تستهدفُ الأصواتَ والمفرداتِ والتراكيبَ والدلالاتِ، والأمثلة على كلِ مُستوىً من هذه المستوياتِ كثيرة جدا لطغيانِ العاميّةِ وكثرةِ الدخيلِ والمُعرب في اللغةِ المَحْكِيّةِ المعاصرةِ. ولأنّ النحوَ والتركيبَ اللغويَ يُعدُ أهمَ مُستوىً يَحْفظ للغةِ شخصيتَها وامتيازَها عن غيرِها من اللغاتِ، وإذا عُبث به أو اختلَّ فإنّ نظامَ اللغةِ كله يختلُ ويكونُ مقدمة لِخللٍ كبيرٍ يصلُ إلى حدِ تفسخِ اللغةِ إلى لغاتٍ، أحببتُ في هذه المقالةِ تسليط الضوءِ على خطأٍ فادحٍ يقعُ فيه كثيرٌ من المتكلمين بالفصْحى، كالخطباءِ والكتاب، وهو ما يتعلقُ باستخدامِ كلمةِ ” كافّـة “. وللتأصيلِ والاحتكامِ إلى الجذورِ الصافيةِ نوردُ الآياتِ القرآنية التي وردتْ فيها هذه الكلمة ليتضحَ استخدامُها القرآنيُ أولا، ثم نُثني باستخدامِها في النصوصِ التي تلي المرتبة القرآنية.
وردتْ هذه الكلمة أي كلمة “كافّـة” في بضعِ آياتٍ من القرآنِ لا تتجاوزُ خمسَ مراتٍ هي :
1) قال تعالى في سورة البقرة الآية 208 :” يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة “.
2) وقال تعالى في سورة التوبة الآية 36 :” وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة “.
3) وقال تعالى في سورة التوبة الآية 122 :” وما كان المؤمنون لينفروا كافة “.
4) وقال تعالى في سورة سبأ الآية 28 :” وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا”.
فهي في هذه الآياتِ جميعا تُعربُ حالا منصوبة، وقد يرى بعض الناس أن بعضها قد يكون بمعنى جميعا، أي أنها تحمل معنى التوكيد، وعلى هذه السُّنّةِ كان استخدامُ هذه الكلمةِ في الحديثِ الشريفِ، وفي الشعرِ قديمِه وحديثِه، وفي الخطبِ الموروثةِ الفصيحةِ، وفي الرسائلِ، وفي مختلفِ ألوانِ النثرِ العربيِّ حتى أزمنةٍ قريبةٍ من النصفِ الأولِ من القرنِ الميلاديِّ المنصرم ِ، وحتى في أيامِنا هذه عند بُلغاءِ الكتاب ومشاهيرِهمْ كالعقادِ والزياتِ ومصطفى صادق الرافعي وطه حسين وسيد قطب وغيرِهمْ من الذين لا يشقُ لهمْ غبارٌ في الكتابةِ والتأليفِ.
وهذه الكلمة مشتقة من الجذرِ اللغويِّ (كفف)، وكما وردَ في لسانِ العرب لابنِ منظورٍ : كفَّ الشيءَ يكُفه كفا جمعَه. وفي حديثِ الحسنِ أنّ رجلا كانتْ به جراحَة، فسأله: كيْفَ يتوضأ؟ فقالَ: كُفّه بخرقةٍ أي اجمعْها حوله. ويتحدث عن “كافة” التي هي موضوعُ حديثنا هنا، فيقولُ في مكانٍ آخرَ من حديثِه عن المادةِ نفسِها : “… والكافة : الجَماعة، وقيلَ : الجماعة من الناسِ. يقالُ: لقيتُهم كافة أي كلَهم…وقال في قوله تعالى :” وقاتلوا المشركين كافة ” منصوبٌ على الحالِ، وهو مصدرٌ على فاعلةٍ كالعافيةِ والعاقبةِ، وهو في موضعِ قاتلوا المشركين مُحيطين، قال (أحد العلماء الذي ينسب الكلام إليه): فلا يجوزُ أنْ يُثنى ولا يُجمع، فلا يقالُ : قاتلوهم كافّاتٍ ولا كافّين، كما أنكَ إذا قلتَ : قاتِلهمْ عامّة لم تثنِ ولم تجمعْ، وكذلك خاصّة.
فهذه الألفاظ جميعا، أي كافة وعامة وخاصة، لها خصوصية في الاستعمالِ، فلا تجيز اللغة تغييرَ ما وردتْ عليه في الاستعمالِ الفصيحِ، وهذا توضيحٌ لمَنْ يخطرُ ببالِه هذا التساؤلُ، وهو : ألا يَجوز لنا، أبناءَ العربيةِ هذه الأيامَ، أنْ نطورَ استخدامَ هذه الألفاظِ كما نطقها منْ نقدتَ استخدامهمْ لها حديثا؟ فالجوابُ الصريحُ على هذا التساؤلِ : لا يجوز لنا هذا، لأننا نحن في اللغة، وبخاصةٍ في التراكيب، أي النحو، نتبعُ ولا نبتدعُ، لأنه لو فتحَ البابُ لهذا التصورِ في النحو، لتغيرت اللغة وتشرذمتْ وأصبحتْ لغات منذ زمن بعيد. غير أن البابَ مفتوحٌ في الألفاظِ والدلالاتِ لأنّ الحاجة تدْعو إلى ذلك.
ومُنذ النصفِ الثاني من القرنِ العشرين إلى أيامِنا هذه، أخذنا نسمعُ ونقرأ استعمالاتٍ مُخالفة للصورةِ الفصيحةِ لهذه الكلمةِ، وعلى نحوٍ مُغايرٍ تماما لوظيفتها وجَوْدةِ اسْتخدامِها القرآنيِّ والشعريِّ والأدبيِّ بعامّةٍ. والأمثلة على هذه الصورةِ غيرِ الصحيحةِ منتشرة بكثرةٍ، وهي أكبرُ من أنْ يُحيط بها إحصاءٌ في ما يُتفوهُ به في الخطب والبياناتِ والإعلامِ، وفي ما نقرأه في الصحفِ وعلى صفحاتِ المجلاتِ والجرائدِ والرسائلِ. وإني لأخجلُ من إيرادِ هذه الشواهدِ مَخافة استفحالِ المرضِ، ولكني سأضربُ مثلا واحدا على ذلك، لتتضحَ الصورة التي نتحدث عنها وننقدُها، وندعو إلى تغييرِها وَفْقَ الصورةِ الفصيحةِ الصحيحةِ، وهو قولُ مَنْ قالَ:
– سيعلنُ الإضرابُ العامُ في كافةِ المؤسساتِ الحكوميةِ يومَ كذا وكذا.
فقولُ القائلِ : في كافةِ المُؤسساتِ خطأ بين، وهو مُخالفٌ لاستخدامِ النصِ القرآنيِ الذي عرضنا شواهدَه قبلَ قليلٍ، وما أسْهلَ إصلاحَ الأمرِ ! فيَستطيعُ المُتحدث أو الكاتبُ أنْ يقولَ، ببساطةٍ وخفةٍ، وانسجامٍ مع قواعدِ اللغةِ :
– سيعلن الإضراب العام في المؤسسات الحكومية كافة يوم كذا وكذا.
فإذا قالَ هذا، على النحو الذي عرضتُه، كان التركيبُ صحيحا، وغيرَ مُكلِفٍ أبدا، وهو أجملُ مما يقالُ، وربما يُتكلفُ، لمجردِ الإصرارِ على ارتكاب الخطأِ الذي لا فائدة منه إلا تخريب اللغةِ وقواعدِها. ومن المحتملِ أنّ عددا كبيرا من الناسِ الذين يقعون في هذا الخطأِ لا يعرفون هذه الحقيقة اللغوية، ولا يُعيرون لها بالا، لأنهمْ سَمعوها ممن يثقون بهم وبكلامهم دون فحصٍ أو تمحيصٍ، ثم درجتْ على ألسنتِهمْ، حتى شاعتْ شيوعَ النارِ في الهشيمِ، فأصبحتْ تترددُ وتسمَعُ كثيرا على ألسنةِ أعدادٍ كبيرةٍ من الناطقين والكتاب. وإنّي منْ على هذا المنبرِ الإعلاميِّ العالميِّ أدعو الكتابَ جميعا إلى الانتباهِ على هذا الخطأِ، وأنّ على كلٍ منا التنبيهَ عليه، أو التذكيرَ بصورتهِ الصحيحةِ، ما استطاعَ إلى هذا سبيلا، لعلنا نساعدُ على إنقاذِ هذه الكلمةِ الجميلةِ من الاستخدامِ اللغويِّ غيرِ الصحيحِ. وإني، كذلك، بهذه المناسبةِ، لأشكرُ لِعددٍ من الإخوةِ الكتاب الذين طلبوا مني أن أقرأ لهم ما كتبوه من مقالاتٍ، وكانوا يستخدمون هذه الكلمة الاستخدامَ غيرَ الصحيحِ، فطلبتُ منهم، بالدليلِ والبرهانِ، الإقلاع عن هذا الاستخدامِ غيرِ الصحيحِ، فاستجابوا لما ذكرتُه لهم، وعند قراءتي ما كتبوا بعد ذلك، لم أعدْ أرى هذا الخطأ في كتاباتِهمْ، فجزاهمُ اللهُ خيرا على هذه الاستجابةِ المحمودةِ. اللهمَّ اشهدْ فقد بلغتُ !؟!
من صفحة الأستاذ: أحمد أبو بكر الإمام