الأخبارثقافة

“الرفكة” في التراث الشنقيطي / إسلم بن السبتي

لا زلنا نحفر في تراث مدينة شنقيط، قصد استجلاء مضامينه، واستخراج خباياه، والغوص إلى أعماقه، لنضع بين يدي القارئ ما كان مخفيا من هذا التراث بسبب الإهمال وقلة الدرس.

وهذا المفهوم الذي نبحث فيه اليوم هو جزء من حياة أهل شنقيط وعليه مدار الحياة الاقتصادية، فالرفكة، أو الرفقة، أو القافلة، أو العير، هي ذاك التجمع من الجمال الذي يقصد به السفر إلى مكان معين وحمل ما يحتاجه أهل البلد من ميرة تنوعت أشكالها واختلفت أنواعها.

وفعل الرفكة، أصيل في التراث العربي، عليها انبنت الحياة وبسببها قامت حروب، وبها سادت أمم وبادت أخرى. ومن هذا المنطلق تشبث أهل شنقيط بماضيهم العربي الأصيل، فاستحدثت جماعة الأغنياء منهم قوافل تجهز للذهاب إلى أماكن مقالع الملح لتشتري ما تستطيع حمله إلى المدينة، حيث يطمر في التراب إلى أن يصل وقت الذهاب به إلى أماكن التجارة الأخرى في جنوب البلاد، وإلى انيور وتمبكتو في بلاد السودان.

وتتكون الرفكة من مجموعة كبيرة من الجمال حسب ثراء صاحبها، فقد تصل إلى مئة جمل أو يزيد، وقد يشترك فيها البعض بأن يملك كل واحد مجموعة من الجمال. يترأسها أحد الأفراد ممن له خبرة في السياسة ومعرفة الأماكن، والقوة البدنية وغيرها. ويعرف هذا الرجل باسم”آقديم” لأنه يتقدم القافلة ويحرسها ماديا ومعنويا.

الأحمال على الجمال تتكون من “ترافطن” تجعلان على ظهر الجمل لتقيه مما قد يصيب ظهره، ثم توضع الأحمال على ذلك، وهما “الشكوك” واحد عن اليمين والآخر عن اليسار في تعادل حتى لا يسقط أحدهما. ويزن الجميع ما قد يصل إلى ثلاثمئة كيلو. وقد يضاف إلى ذلك ما يعرف:”بأعلاي”. والغالب في هذا النوع أن يكون من أنواع التمور التي يعرف بها أهل شنقيط، فهي تجارة رابحة في تلك الأماكن يبيعون فيها ويشترون، خاصة المدن التي لا توجد بها بساتين النخيل. أما في حمل الملح فتتكون الحمولة من اثنى عشر عديلة، أو ثمانية، أو ستة، يحملها الجمل، يضاف إلى ذلك بعض الأواني وغيرها، أما الماء فله جماله الخاصة به، يحملونه في “لكرب”، واستحدثت أوعية جديدة وهي”تنوات”، ينضاف إلى ذلك جمل “الزاد” المخصص لحمل ما يحتاجه أهل القافلة من مأكولات وأواني شرب الأتاي، والطهي وغيرها.

حينما يصل وقت الرحيل تزم الإبل ويتجه أهل قافلة شنقيط إلى المدن التجارية، فقد يكون اتجاهها إلي آفطوط،  أو مدينة ولاتة، أو مدينة تيشيت، أو اندر والدويره، أو مدينة انيورو أو تنبكتو في بلاد السودان. وكلها أسواق يبيع فيها أهل شنقيط ما حملوا من عدائل الملح والتمر، ويشترون كل حاجياتهم، من زرع، وجيف، وأواني، واركايز، وكرتة، وأنواع الخنط مجموع فيما يسمى البيص من أنواع: فلتور، والممقوس، وكذلك الكشطة، ونعل آركميم، وهو من أجود النعل آن ذاك.

إن المدة التي تقضيها الرفكة المتجهة نحو السودان تتراوح ما بين شهرين إلى ثلاثة، أما تلك التي تسير اتجاه  السبخة فيكفيها شهر واحد.

يحيط بالرفكة في تلك الأيام مخاطر جمة، وربما تحدث أهل تلك “الرفايك” عن تلك المخاطر من قطاع طرق ولصوص، وحتى الأحداث الجوية من أمطار وعواصف رملية، وقلة الماء في بعض الأحيان، ونقص الزاد، وهلاك بعض الجمال في الطريق، وحتى الأمراض التي قد تصيب بعض أفرادها، فقد يشتد الطاعون في المكان المقصود، فلا يستطيع أهل القافلة الدخول إلى المكان فيبدلون الوجهة. وتكثر الحُمَيات في فصل الخريف فتطيح بالبعض وينجو البعض الآخر، إلى غير ذلك مما قد يخرج منه الرجال بمعجزة، فيمترون ما شاؤوا ثم يعودون سالمين غانمين.

إن يوم عودة الرفكة يعتبر عيدا عند أهل شنقيط، فيفرح الجميع بعودة الرجال الشجعان إلى بلدهم، وإلى أهليهم وذويهم، ثم يقومون بحفظ ما جاءت به القافلة من تجارة قد تكفى مدة سنة كاملة لتعود القافلة إلى ديدنها. ومن عاداتهم أن صاحب القافلة، أو أصحابها، يعطون الأهالي بعضا مما حملته القافلة وهو المعروف عندهم”بالسهم”، فيفرح كل واحد من أهل شنقيط بما جاءه من سهم، كما فرح أهل الرفكة بوصولها.

إن انتشار اللصوصية وقلة الأمن، يؤدي بأهل الرفكة، إلى أن يبنوا أبنية أمنية يحفظون فيها زادهم، فيبعدونه عن عيون المتربصين، وقد عرفت عندهم: “بأكرن” يبنى تحت المساكن، ويموه بحيث لا يستطيع أن يكتشفه إلا من له علم بخريطة المنزل، ثم يغطونه وينشرون عليه الحصائر، وهو بذلك يكون المخبأ المفضل عندهم، وحسب التراث الثقافي لهذه المدينة فقد أمَّن جزءا كبيرا من الزاد، ومما يضن به أهل شنقيط على اللصوص، بل في وقت معين أمن السلاح من أجل الدفاع ضد المستعمر.

وعرفت المدينة رجالا ساهموا في إدامة ذهاب الرفكة وعودتها من حيث التمويل المادي لها، مثل سيدي محمد بن حبت، المأثور عنه أنه كان يمتلك أربعمئة من الجمال تشارك في الرفكة كل سنة ويقودها أحد أبنائه، خصص جزء منها للفقراء. ومحمد بن محمد الحنشي، وأحمد بن السبتي، وأحمد بن محمد محمود، والمد بن أحمد محمود، والطالب ولد زروق، وعبد الله بن ابهاه، المعروف بعبد الله اسغير، ومحمد الأمين بن اعلي، من دون حصر للجميع، فمعظم أهل شنقيط شارك بقليل أو كثير في التموين، أو العمل البدني، أو المشاركة بالرأي. وكل هذا وذاك في ذاكرة أهل شنقيط القديمة، اندثر وامحى، وأصبحت أحاديثه مما يحكى للأطفال عن شجاعة أبائهم وأجدادهم في ركوب الصعاب من أجل توفير سبل الحياة، وإدامتها في ظروف صعبة بالغة الخطورة.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى