سؤال الإلحاد (2) / محمد ولد إمام
وممّا يجدر ذكرُه هنا أنني لاحظت أن العلماء أو المهتمين بحوار الأديان عموماً ينقسمون إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول يذهبون بعيداً في الاعتذار عن الإسلام ونفي كلِّ ما يرونَه منافياً للمدنية الحديثة وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فنراهم يُنكرون الحدود أو بعضها، وكذلك يُنكرون أغلب الآثار التي تذكر العذاب كما سيأتي، وهم بذلك كأنما يفصِّلون الدين على مقياس الآخر حتى يتماهَوا معه كلياً وهم بذلك يفقدون خصوصيتهم أو أغلبها فيصبحون نسخاً مكررة من تلك الثقافة العالمية، وبعضُهم يدعون صراحة إلى أن يقتصر الدين عندنا على العلاقة الفردية بين العبد والخالق، فلا شريعةَ ولا تدخلَ في الحياة الشخصية ولا حدود ولا قضاء شرعياً .. إلخ.
والقسم الثاني أشخاص جامدون جدا وحرفيون نوعاً ما في فهمهم للدين، وهم بذلك صِداميون، وغالبا تنتهي حواراتهم في طريق مسدود.
على رأي الشاعر القديم:
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأي مختلفُ
وبين تفريط أولئك وإفراط هؤلاء، هناك طريقٌ للنقاش والتفاهم وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
ومن الملاحظ أيضا أن هذا المجال لا ينبغي أن يتصدى له مَن لا يفقهون في الدين أولا، وثانيا مَن لا يفقهون المدنية المعاصرة، والعقلية الغربية أو قل العالمية، فمن كان لديه نقص في إحدى هاتين الناحيتين كان خليقاً أن يضر ولا ينفع، فلا بد من اطلاع واعٍ وواسعٍ على الثقافية الإسلامية بكل مذاهبها وفروعها، والإلمام بالسياقات التاريخية والعقلية العربية والبيئة التي نشأ وانتشر فيها الإسلام من ناحية، ومن ناحية أخرى لا بد من التضلع من لغة الغرب وثقافته وعقليته، وفهمه للأمور، وتاريخه وسياقاته، فبغير هذا لا يمكن أن تجري حواراً مثمراً ولا أن تصحح المفاهيم المغلوطة.
وسأقوم هنا بذكر أهم الشبهات التي كانت تُطرح علينا:
1 – قضية ارتباط الإسلام باللغة العربية والثقافة العربية، بل إن هناك مَن يعتقدون أن الإسلام دين العرب خاصة! فكثيراً ما نُسأل لماذا الصلاة بالعربية فقط؟ لم لا يكون من حق أي مسلم أن يترجم الفاتحة إلى لغته ويصلي بها بعيدا عن اشتراط اللفظ العربي؟ فالأديان الأخرى، حسبهم طبعاً، لا تشترط لغة معينة للصلاة، وكان ردي على هذه النقطة هو أن القرآن الكريم وقفي لأنه كلام الله جلّ وعلا، وبالتالي لا يمكن أن تعوضه أية ترجمة بلغة أخرى، والصلاة عمادُها القرآن، وكذلك ألفاظ الحديث الصحيح، في الأدعية والله أعلم.
القضية الثانية التي دائماً تطرحُ علينا هي قضية أبدية العذاب (Eternal damnation) وهي في نظرهم تُناقِض العدل، لأن العقوبة يجب أن تساوي الجُرم، فلا يمكن حسب قولهم أن يُعذب أحد عمرُه لا يصل غالباً مئة سنة (ولو قدرنا أنه أمضى عمره منذ ولادته إلى موته في الإجرام) عذاباً أبدياً أي الخلود في النار، فهذا لا يُناسب الجرم حسب تعبيرهم.. Disproportionate
والقضيةُ هنا حسب رأيي هي سوءُ تقدير لمفهوم الرب الخالق عند المسلمين، فهو الخالق والمالك، وتصرف المالك في ملكه يسمى عدلاً لا جوراً، وفي القرآن الكريم يقول جلّ من قائل حكاية عن عيسى عليه السلام:
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..
كما أن قضايا مثل الحدود، خصوصا الردة (apostasy) وقتل المرتد تُطرحُ دائما من قبل هؤلاء للتدليل على أن الإسلام لا يُعطي حرية الاختيار لمُعتنِقيه في التخلي عنه، وقد طالعتُ الكثير من الدعاة في الغرب ينفون قتل المرتد لأنه – حسب رأيهم – يُناقض صريح الآية (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، ومنهم على وجه الخصوص الداعية يوسف أستس، وله محاضرات في هذا المعنى، وهناك من الدعاة والمفكرين حتى العرب من يُبطل حد الرجم، وهو ما يُثيره أعداء الإسلام عادة للتدليل على ما يرجفون به من “وحشية الدين”، وليس هذا مقام البسط في حجج كل طرف، وهي متاحةٌ للجميع على كل حال.
ومن ذلك أيضا قضايا المرأة، كالمساواة في الإرث، والمساواة في الشهادة، والعدة، وفرض لباس معين زيادة على الرجل، وضرب الزوجة، والتعدد،.. وأذكر هنا أن الأستاذ يوسف أستس قال إن الضرب المذكور في القرآن الكريم، قد مُثَّل له في الأثر بالضرب بالمسواك، وبالتالي يكون أقرب إلى المداعبة من الضرب، ولكن هذا التفسير يُفقد الضرب مقصوده من الردع عن النشاز والمعاقبة عليه، وهذا يُعطينا مثالا على ما ذكرتُ سابقا من أن بعض الدعاة تمادى جدا في استمالة الغرب حتى أفقد أوامر الشرع قوتَها وعزمها. والأمثلة كثيرة، في مواقع وكتب هؤلاء الدعاة والوعّاظ.
المجموعة الأخرى من الشبه، تتضمن الجانب العلمي، ومحاولة إيجاد تناقض بين الحقائق العلمية والدينية، وأصحابُ هذه الشُّبه دائما يعتمدون على ما يرونه تناقضا بين الاثنين، مثلا في قضية الخلق مقابل نظرية التطور(evolution theory)، وقصة الانفجار العظيم(Big bang theory)، وحتى مسائل مثل تطور العلم الذي يسمح بمعرفة الأجِنَّة، وقضية نزول الله سبحانه وتعالى كل ليلة في الثلث الأخير من الليل كما في الحديث، مع أن العلم يقول إن اليوم كله هو الثلث الأخير من الليل على مكانٍ ما على الكرة الأرضية، ونحو هذا مما يربطه الذهن بصفات المخلوق التي يُخالفها الخالق، وبالتالي فإن القياس باطل ..
وكذلك وجوده سبحانه في كل مكان في جميع الأوقات، وهذا لا يُدرك بتصوراتنا المنطلقة من محسوساتنا المحدودة طبعا، وهؤلاء أخف لأن دعواهم يمكن النقاش حولها وعادة يكون النقاشُ مثمرا، لأن الحقائق العلمية والدينية لا تناقضَ بينها. وقد أجاد في هذا الموضوع عالم الرياضيات الأمريكي، جيفري لانغ، وله محاضرات قيمة وكتب في هذا المجال لمن أراد الاستزادة.
المجموعة الأخرى، عادة تتحدث عن العلاقة مع غير المسلمين، وتذكر الآيات والأحاديث المتعلقة بالقتال، وكره المشركين، وما إلى ذلك، والهدف منها التدليل على أن الدين لا يتماشى مع مفهوم التعايش السلمي، حيث كل شخص له الحرية فيما يأتي وما يدع، ولا يمكن أن تأمره بمعروف أو تنهاه عن منكر.
كما تدخل في هذا الإطار قضايا السياسة والتناوب على الحكم، وقضية المتغلب، والحريات الشخصية في إطار الدولة ومفهوم الخلافة.. إلخ
وأخيرا هناك قضايا التاريخ، وانتشار الإسلام، ولعل من أكثر المواضيع طرحا قضية بني قريظة المشهورة. وفي هذا المجال تكثر الأحاديث والمرويات الضعيفة، ويتلقفها المرجفون ويزيدون عليها لتشويه صورة الإسلام وأنه انتشر بالسيف، وأنه دين همجي يأمر بقتل قبيلة كاملة حتى المراهقين والنساء لأن بعضها أجرم، وعادة عند التنقيح ومراعاة السياق الزمني والتاريخي والبدائل المُتاحة في ذلك العهد، يتبين لهم كذبُ افتراءاتهم..
من كتاب “كشكول الحياة” للكاتب، الفصل الرابع.