آراء وتحليلاتالأخبار

محنة تَفَيْريتْ والعقبة : ذكرى هضبة محمد بن الطلبة… أم عدد جديد من “صيحة المظلوم”؟

تفيريت والعقبة قريتان وديعتان تطلان على منطقة تاركة وتنتشفلين، حيث بركة المرعى وعذوبة المياه  ونقاء الهوى منذ الأبد.. تقع الحاضرتان على بعد 25 كلم شرق نواكشوط، حيث أسستهما منذ عقود جماعة عرفت بالعلم والصلاح والورع والشعر والأدب والمروءة والكرم والحكمة والشهامة.. جماعة، قبل أن تضع هنالك عصا الترحال، كانت تتبع مساقط الغيث وتنتجع المرعى وهي تنشر نور العلم والهداية السمحة، وتنثر درر البلاغة وجمان القصيد، مقتحمة في ذلك مجاهل الصحراء غالبا ، » تَخبط الظلماء من بطن تيرس«  إلى مشارف “احْسَيْ الأَعْمام” وتنْدْغْيدْسَاتْ في أحضان اترارزة… وباعثة أحيانا، سفراء علم وعقل يرتقون المنابر ومجالس العلم في الأزهر أو يتصدرون حلقات التدريس في رحاب الحرمين الشريفين.. يبثون  العلم في صدور الرجال ويحملون الإشعاع المعرفي الشنقيطيى إلى مغارب الأرض ومشارقها…

جماعة من أحفاد موسى بن يعقوب بن أبي موسى بن يعلى بن عامر، و من أرحام المجيدري ولد حبيب الله الموسوي اليعقوبي، الذي ذاع صيته غربا وشرقا، وبهر وهو يافع علماء الأزهر بغزارة العلم وقوة الحفظ والاستظهار، وأحفاد قاضي القضاة أحمد فال (آدّ) وابنه محمد مولود الذي بلغ عددُ مصنفاته في مختلف الفنون  عددَ سني عمره الثلاث والستين ، وأحفاد المشائخ والعلماء المحققين من أمثال محمذن بن آب بن المختار بن أتفغ موسى، ومحمـد مختار بن حبيب الله بن محمذ آبّ (ابّوهْ) ومحمد الامجد بن محمد الامين بن أبي المعالي والقاضي المختار بن أتفغ موسى، وفتى الخمس علمًا، وغيرهم كثير…

جماعة من أحفاد فحول الشعراء العلماء، أمثال محمد بن الطلبة، عاشق القاموس وناظم مختصر خليل ومؤلف تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد في النحو، ومولود بن أحمد الجواد اليعقوبي مؤلف الطالع على شرح الكوكب الساطع، وشيخنا بن محنض والمأمون بن محمد الصوفي وغيرهم من سدنة البلاغة والإبداع الشعري وحفظة المتون المحظرية…

جماعة من أرحام من حملوا بعد الاستقلال لواء النضال السياسي ودروع الدفاع عن حقوق الشعوب  واقتحموا مجاهل السجن وميادين التضحية، من أمثال أيقونة النضال السياسي سيدي محمد ولد سميدع واحمد ولد الحباب رحمهما الله (من الكادحين)،  والمختار ولد محمد موسى أطال الله عمره ومحمد عبد الله ولد حمدي شفاه الله (من الإسلاميين)، ومحمد المختار ولد اياهي شفاه الله وعبد الله العتيق ولد إياهي حفظه الله ورده من منفاه (من الناصريين)، وغيرهم من الرجال والنساء ممن ظلوا يصدعون بمُثلهم السياسية ويمتشقون القلم أو يعتلون المنابر تنويرا للعقليات وصونا للحقوق وإيثارا للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وإسهاما في بناء الدولة الحديثة…

جماعة من أحفاد من غصّت بهم المؤسسات التعليمية بُعيْد الاستقلال، يحملون مشعل العلم والمعرفة معلمين وأساتذة وجامعيين، حين قلَ النظير ولجأت الدولة الناشئة لاستجلاب المساعدة الفنية من الخارج.. رجال ونساء ساهموا في نهضة التعريب وتخرجت على أيدهم أجيال وأجيال.. شباب وشيب مازالت توقيعاتهم منقوشة على جدار الذاكرة في الكشوف المدرسية لمن أصبحوا فيما بعد مهندسين وأطباء ومحامين وضباط ومسؤولين سامين….

جماعة من أحفاد من يعتكف الحرف في محاريب مدحهم وذكر مناقبهم.. وينوء بعصبة الألفاظ ومجامع اللغة عدُّ شمائلهم وتقَصِّي فضائلهم ومآثرهم.. جماعة من أحفاد من لن نوفيهم حقوقهم إلا بالإيثار والوفاء ورد الجميل، تقديرا لما بثوه من علم في ربوع هذه البلاد وتثمينا لإسهامهم في بناء دولتنا العصرية.. ونصرة ومؤازرة لهم في السراء والضراء  كما يقول شاعرهم محمد بن الطلبة :

خَليلَيَّ ما الخلُّ الوَفِيُّ سوى الذي   مَتى تُسرّ أو تجزَعُ يُسَرُّ ويَجزَعِ

تفيريت والعقبة كانتا ملاذين آمنين ومنتجعين للراحة والاستجمام للعديد من سكان الجارة نواكشوط ممن سئموا صخب المدينة واختنقوا بدخان المصانع وعوادم السيارات وتلوث المدن المكتظة بالسكان. حتى من توفرت لهم القصور في العاصمة كبعض الرؤساء والوزراء الأول ورؤساء البرلمان ورجال الأعمال وغيرهم شيدوا منازل في هاتين القرتين طلبا للراحة وحسن الجوار وقرب المنبع المعرفي. كما انتشرت من حولهما قرى جديدة على طول الطريق الرابط بين نواكشوط وواد الناقة تعزز الكثافة السكانية لهذه المنطقة الصحراوية.

ودارت الأيام دورتها، بعد فترة الهناء ورغد العيش، حين رأت نواكشوط، بدل أن تكرم من حملوا لواء العلم وساهموا في الاكتفاء الذاتي المعرفي  ووسعوا الإشعاعي الحضاري للبلاد، أن تختار  من بين بلاد الله الواسعة، أدنى الفضاء الحيوي للقريتين ليكون مأوى لأكبر مكب للنفايات عرفته البلاد.  ودون أن ترعى حق الجوار أو المودة في القربى، بدأت ترسل منذ عقد من السنين آلاف الشاحنات تغدو وتروح إلى المكب، محملة بأطنان الملوثات البيئية والمواد المشعة ومكامن انبعاث الغازات السامة والروائح الكريهة… تَكدّر صفو العيش وتفشت الأمراض وانعدمت عوامل الراحة فهجر الوافدون وصمد المؤسسون يعانون الضرر والضرار ويكتوون بمضض الجور وقسوة الحيف، حيث لا نصير ولا صريخ  لخلو دوائر القرار من مسؤولين سامين منحدرين من الجماعة.  لكنهم صمموا بصبر وأناة ورجاحة عقل على الاستمرار في النضال بالطرق السلمية والإجراءات القانونية من أجل كف الأذى ورفع الظلم عنهم في دولة أصبحت لله الحمد ترفع شعار العدالة ودولة القانون وتقدر العلم والعلماء…

وبتوفيق من الله، ثم بما برهن عليه القضاء من استقلالية، واحترام الحكومة مبدأ الفصل بين السلطات،  أثمرت جهود المؤسسين فحكمت المحكمة العليا برفع الظلم وإزالة الضرر وآثاره. عمت الفرحة المستوطنين وعاد المهاجرون غير أن قوة اﻟﺸﻲء المقضي به لم تكن قوة ولا حُجة عند المتنفذين والمتربحين من رجال أعمال القمامة ولا من بعض المسؤولين المشرفين على تسيير هذا القطاع الحيوي بما يخدم المصلحة العامة.. فظلت الشاحنات تنزف سمها الناقع، ظلما وعدوانا، على مرآى ومسمع من السلطات الساهرة على تطبيق القوانين وتنفيذ الأحكام القضائية…

عاد المؤسسون للاحتجاج بالطرق السلمية.. فالتهبت وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي تغطي الأحداث وتنقل مشاهد مثيرة من قمع الوقفات السلمية والتنكيل بالمحتجين العزل، واستقطبت القضية اهتمام الرأي العام الوطني حتى وقع على غير العادة إجماع بعض رموز الموالاة والمعارضة على ضرورة الإنصاف وكف الأذى عن القريتين. وفي رد فعل وطني عادل وسريع صدرت تعليمات احسبها سامية بوقف العملية فورا والبحث عن مكان مناسب لمكب جديد للنفايات.

توقف نقل النفايات إلى القريتين وانبرى الخبراء الوطنيون يفكرون في حل جديد وفق المعايير الصحية والبيئية المعتمدة عالميا لكب النفايات وبدأ المختصون الماليون يفاوضون رجال أعمال النفايات في حل لا يقتضي الخسارة الاقتصادية لكنه قد يؤدي إلى التضحية مؤقتا بجزء من الربح الدنيوي وارتفاع مطرد لمؤشر الأرباح الأخروية إذا صدقت النية في كف الأذي ورفع الضرر وإنقاذ الأرواح وكان العمل خالصا لوجه الله…

وبعد شهرين من التفكير العميق واختبار السيناريوهات المحتملة بَدا أن الخبراء الأماجد لم يوفقوا في وجود حل بديل وأن المفاوضات مع المقاولين لم ترجح سوى كفة المال والأعمال الدنيوية. ولم يبق من حل إلا العودة للمربع الأول. فعادت الشاحنات برفادة السوء وعاد أحفاد حملة العلم والمعرفة ورواد النهضة التعليمية في البلاد إلى الاحتجاج السلمي. كما عادت إلى الالتهاب وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي تنقل مشاهد مثيرة من قمع الوقفات السلمية، وتنقل مباشرة على الهواء مقابلات مع الموقوفين عند الدرك يتحدثون عن التنكيل بالمحتجين العزل، ويعِدون بمواصلة النضال ولسان حالهم يقول إن محنة تفــــــيريت والعقبة  ليست سوى افتتاحية لعدد جديد من جريدة “صيحة المظلوم” بقلم المناضل سيدي محمد ولد سميدع أو  ذكرى هضبة محمد بن الطلبة حين يقول :

لنا هضبة أعيت على من يكيدها    إذا غمزوا أركانهـــــــا لم تلعلـــــــــــــــــع

وإنا إذا ما النائبات تضعضعت    لها حلماء الناس لم نتضعضع

تلك هي حال القريتين هذه الأيام، ولا شك أننا نعول جميعا على حكمة رئيس الجمهورية وما يتحلى به من أخلاق سامية ورجاحة عقل، لتلافي ما عجز عنه الخبراء وأعرض عنه رجال أعمال النفايات،  والعمل على إنقاذ الموقف برفع الضرر عن هذه الجماعة وما جاورها من قرى كثيفة السكان. فهو أهل لرفع الظلم وتقدير العلم والعلماء ورد الجميل لهم، وهو أدرى من غيره بهذا المحيط  العلمي نظرا لما نشأ فيه من محيط معرفي وعلمي مشابه مشهود له بالصلاح والورع والمروءة والكرم والشهامة. وفقه الله لذلك وسدد خطاه.

 

بقلم محمد عبد الله البصيري


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى